الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th March,2006 العدد : 144

الأثنين 13 ,صفر 1427

قصيدة (الوطن) في شعر بعض شعراء عسير
الوطن الماضي

* علي فايع الألمعي
اعتادت القصيدة من شعرائها الانسحاب إلى الماضي بكلّ تجلّياته وبراءته، فإذا ضاقت الدروب بجودها كان الماضي سبيل الشّاعر وملاذه الأخير، وإذا تلاقت العواطف والقرائح كان الجود بيتاً أو قصيدة وطنيّة، أو ذكريات تبعثر مكنونات الماضي، لتلتقط لحظات الفرح، وتقدّمها على أنها محاسن ذلك العهد الذي مضى، فذاكرة الشّاعر تتفتّق لحظة الزّهو، فهذا مريّع سوادي في قصيدته الوطن يحاور ذاكرة ً وملامح وأحداثاً كانت علامة ً تفضي إلى الحياة، ونافذة تُروى منها الحكاية، فيرى الوطن نخلةً، وسوراً وأحلاماً، وعشقاً، كما يراه زهواً وحبراً يُسكب، وأوردة تتلقّفه:
وطني.. وأرمق ملمحاً

يزهو بأحلامي الصّغار

وطني.. وأرشف لثغةً من

حبر أوردتي لكي يعلو بهامة

وردتي.. كي يحضن العشق

المزمجر في الدّيار

وطني تخضّب سُمرتي

نخلاً أقام له سوار

وسواءً انتخب الشّاعر العسيريّ مفردته من أضابير المكان، أو زاد وهجه بقصيدة عربيّة محفوظة، أو مارس تمرّده على قاعدة البيت القديم، فإنّ المحصّلة في نهاية الأمر لا تتجاوز ملامح تعبيريّة لا قصائد تعبير وجمال، إذ هي مجرّد هموم وأحاسيس ومشاعر تنفثها ذوات، نؤمن باختلاف مقدرتها الشّعريّة إلاّ أنّها تروم إلى أن تكون قادرة على أن تصافح القارئ بمفردة جذّابة، لكنها سرعان ما تفجؤك وأنت تقرؤها بأن تعتمر صورة بعيدة عن ذاكرة النصّ، ووجدان القارئ، فصدمة المكان حينما يكون مجرّد ذاكرة تستحضر الواقع دون أن تراه إلاّ أنّها تحاول استلهام طبيعة المكان بشكله المحفوظ، فالصّحراء على سبيل المثال تربط الشّاعر تلقائيّاً بالنّخلة التي قد لاتكون حاضرة لدى الشاعر رؤيةً، كما أنّها تحيل على تهويمات ذات بُعدٍ مصطنع، بغية التّحديث بحجّة اعتمارها النصّ المكتوب.

فالذّاكرة في القصيدة السّابقة حاولت أن تؤلف الحكاية وتتصوّرها، لتبني عليها نصّ الشّاعر الذي أراد تشكيل الوطن في صورته، بعيداً عن تحوّلات الزّمن، فالبداية نخلة واقفة تمدّ قامتها وتفرش ثمرها:

وطني تُخضّب سُمرتي

نخلاً أقام له سوار

إلا أنّ الشيء الذي يمكن أن يؤخذ على الشّاعر في نصّه هو محاولة إسقاط المفردة المعبّرة في غير موضعها، بأن تبعد حينما تغرّب بعيداً باتّجاه النّهر:

وإخال أنّي قد لكزت

حكايةً في عتمتي ظمأى وأنّك

توأمان تقاسما نهراً وأرغفة النهار

وهي ذاتها التي خبأت الدّهشة لحظة التقاء (الثلج والمحار) فالقيمة هنا باتت مفقودة وقد أضحى المحار النادر كومة ثلج وافر!.

وبأنّ مايحوي السّؤال

من الحروف أضأته كتلاً على

شفقي وثلجاً من محار

كما أنّ المفردة الشّعريّة المستخدمة في غير موضعها قد تشكّل عبئاً ثقيلاً على النّصّ الشّعري مع أنّ هدف الشّاعر فيها هو محاولة انتشال النّصّ من تلقائيّته، لكنّ محكّات الشّعر هي التي تكون الفيصل، فمفردات، مثل: أرشف لثغة، لكزت عتمة ظمأى، يمكنها أن تخدم النصّ إذا أحسن الشّاعر توظيفها، بيد أنّ تناقضات (الثّلج والمحار) يمكنها أن تزيح عن الصّورة روعتها.

كما أنّ سيطرة المحفوظ تعطينا شيئاً من طمأنينة الشّاعر في الركون للمفردة المستهلكة، عندما تعدم الذاكرة من يجهدها ويحاول امتحان قدرتها، فمفردات مثل: الصّهيل، الخيام، وسنابل الغرام، تخنق جلّ النّصوص الشّعريّة العسيريّة، وإن أظهرت لنا في شكلها وطريقة بنائها، الرّغبة في الانفلات من قيد العمود، ليظهر لنا الشّاعر بقصيدته التي تكون أسيرة قيد الذّاكرة المؤسّسة على اجترار الماضي الذي لم يتقنه، ولم ينفكّ من أسره، دون رغبة جادّة في اختبار الموهبة الشّعريّة. كما أن الشّاعر العسيريّ في قصيدته لا يعدم أن يرى وطنه يسير وخلفه الشّموخ، حتّى إنّه بات يرى كلّ أرجائه نوراً تسعى إليه الجوزاء، كما في نصّ (إبراهيم شحبي (وطني) الذي يستلهم فيه تلك التّفاصيل، حيث يقول:

وطني يسير المجد خلف شموخه

وتتيه في أرجائه العلياء

وتفيض أرض الطّهر هدياً بيّنا

مذ صافح الكون العتيق ضياء

وغدا الثّرى في كلّ نبضٍ نيّرا

وسمت لتطلب عزّه الجوزاء

حيث رأى الشّاعر أن يفتتح قصيدته بإشعال قداسة المكان، لتكون مفتتح القصيدة هيبة المكان ببعده الدّيني الذي يشكّل قبلة.

لكونه أي الوطن أرض الطّهر والضياء، إلاّ أنّ توظيف الجانب الديني لم يكن مخدوماً بشكل مغاير لواقع الحياة، فرؤية الشّاعر إذا لم تتجاوز رؤية الإنسان العادي لم يكن حضورها ذا بال، ولم تكن قراءته مدفوعة بالتميّز، وهي هنا لا تخلو من إشارة ولو ضمنيّة في رغبة الشّعراء في القفز الشّعري إذحاولوا تغيير معالم البيت العمودي شكلاً كتابيّاً إلاّ أنّهم لم يفعلوه واقعاً مشاهداً.

فجلّ شعراء عسير يعمدون إلى كتابة البيت الشّعري العمودي وهذا ليس عيباً في حدّ ذاته، لكنّ محاولة التّجديد لدى بعضهم تتّخذ بعداً آخر بغية إغواء القارئ، فهم يعتبرون مجرد توزيع أبيات القصيدة في شكلها الكتابي على مقاطع متباعدة، وبعثرتها داخل الصّفحة نوعاً من التّجديد!.

كما أنّ الذاكرة العسيريّة مثخنة بالمواقف، تطوف المواطن، وتركض دون خوف، وتبصر لحظة الرؤية لما يبهر، وتقطف لحظة الجوع، وهي تلك الذاكرة التي تتطاول بغية الانفتاح والسّعادة، ولعلّ قصيدة (أبها الحبّ) (لزايد حاشد) جاءت أكثر واقعيّة وهي تحاول استعادة الماضي، ورسم الصّورة البطيئة والمعبّرة في الوقت ذاته، كما أنّها منحت المكان واقعه، وأفسحت للموجودات داخل البيئة شيئاً من حقّها المشروع في الحضور:

بلا ملل ولاسأم

أطوف مواطن القِدم

فأرتع في مرابعها

وأعلو صهوة القمم

وأبصر في المدى غنماً

فأغبط راعي الغنم

وأقطف من جنى الرّمان

قطف الجائع النّهم

وأسقي من معين الوصل

قلب الحبّ وهو ظمي

على أنّ صورة المكان (الوطن) لا تكاد تظهر بتأريخيّة عامّة إلاّ في النّادر من قصائد شعراء عسير، فالجزيرة العربيّة الماضي بكلّ أحداثه لم تأخذ نصيبها من اهتمام الشّعراء أقلّ شيء فيما قرأنا من قصائد وإن كان (أحمد بيهان) في قصيدته (إلى جزيرتي) ينظر إلى الوطن على أنّه الماضي الذي انفتق فخلق للمكان كرامته وإباءه، فهو جدير بالدّلال، جدير بالإشراق، فقد غدا ربّ المجد على ظهر الأرض، إذ يحقّ له أن يتيه، وأن يتدلّل بماضيه الّذي تقف أمامه ومعه كلّ الأضواء متّجهة إليه:

ماضيك محض كرامة وإباء

يامنبع الأمجاد ياصحرائي

فامضي معززة على هام العلا

فلأنت ربّة كلّ مجد على ناء

تيهي مدلّلة بماضٍ مشرق

يزري بما في الكون من أضواء

فهو لا يكاد ينفكّ من الماضي إذ هو صورة مشرقة للإباء، وهو المجد الذي كتب ولادة الحياة:

أرنو لماضيك السّحيق فتنجلي
صور الآباء غزيرة الإرواء
وعلى لسان الجزيرة تنقشع الغيمة، وتبدأ رحلة الحياة، فقد بان المجد على يد المؤسس ذاته فانطلقت المناقب، إذ يرسم الشّاعر في قصيدته اللحمة بين الأرض وبين الإنسان، في صورة سلسة محورها الذاكرة التي تستحضر الولادة والرضاعة من كلّ فضيلة، لتكون النّتيجة الفعليّة أن ترتفع الرأس بعد مذلّتها، وأن تتحوّل الحياة إلى فخر يسري في كلّ الأعضاء، وتلك مصدرها الوحدة الميمونة بعد الفرقة والعناء:

إن عدّ أبنائي فإنّ إمامهم

عبد العزيز به رفعت لوائي

أرضعته في المهد كلّ فضيلة

ووهبته من عزّتي وإبائي

وبه رفعت الرأس بعد مذلّة

وسرت حُميّا الفخر في أعضائي

وبه نعمت بوحدة ميمونة

من بعد طول تفرّق وعناء

وبه عرفت الأمن بعد مخاوف

هدّ الزمان بها قويّ بنائي

وهي لاتهمل استشراف المستقبل في قصيدة (نبض للوطن) لمحمد الحفظي الذي يرى الشّموخ باقياً، ويلمسه بادياً، إلاّ أنّ الصورة الشعريّة لم تكن ذات أثر في قصيدته التي اتخذت المفردة العاديّة البعيدة عن الشّعريّة محّكاً للنّصّ فبدا البيت الشّعريّ أضعف من صورة الواقع، ولعلّ صورة الوطن (خرافيّ السّنا) تخبرنا بعاديّة المفردة، كما أنّ تشكيل الوطن على أنّه بُردة تحتوي الجسد لم تكن أبلغ من الواقع إذ هنالك خروقات يمكنها أن تخلق ضعفاً في الصّورة وبداهةً غير مقبولة في الشّعر بيد أنّ الاستشهاد بقوله:

ستبقى للشموخ أبا

خرافيّ السّنا.. فطناً

وبُرداً يحتوي جسداً

وحبّاً ليس مرتهنا

يمكن أن يُعطي صورة واضحة لذلك.

وبرغم الاستشراف الذي رسمه الشّاعر في مستهلّ نصّه إلاّ أنّ صورة الماضي لاتكاد تفارق خيال الشّاعر وروح القصيدة، فالماضي يُسجّل انتصاراً غير مسبوق في ذاكرة المكان وسيرته، كما أنّه يحفظ قصّة وحدة زادت الحياة شموخاً وارتقاءً، كما زادت الإنسان فخراً وبهاءً، وهي هنا تشير إلى عمق الصّلة بين الماضي والحاضر:

سكنت ثراك ياوطنا

من العادين ما جبنا

توحّد قصّة وشدا

شموخاً وارتقى مدنا

وكال الخير يسبقه

إلى بيدائه لبنا

على أنّ صورة الماضي بقيت تحاكي التأريخ في مشهد شاءت له الإرادة أن يكون وطناً بحجم المكان، وصوتاً بقدرة الإنسان، وحضوراً بما سطّرته الأحداث، بغية البقاء في عمق الحدث المسكون بعرق الإنسان وفعله، لتمثّل تلك الصّور المتخيّلة واقعه المعاش، وحاضره المسكون بالأمل وبالرّجاء، إذ يقول:

وتلك سفينة التّاريخ

تمخر رجعنا وطنا

وباب العشق ياوطني

يسيل وليس يسألنا

فكم ترنو إلى شفق

وكم تعلو فأنت سنا

كما أنّ البيت الشّعريّ يسجّل للشّاعر بعداً آخر غير البعد الجمالي، فاللغة يمكنها أن تخذل الشّاعر لحظة الكتابة، أولحظة طباعة البيت الشّعريّ، فهي لا تخلو من الأخطاء النحويّة، كما في بيت:

ولست ُ سوى يد رسمتْ

وصوتاً حالماً سكنا

إذ الصّواب أن يكون (وصوتٍ حالمٍ) بدلاً عن (صوتاً حالماً ) وهي أخطاء نلتمس فيها العذر للشّاعر الذي بدا متأنّقاً في كتابته اللغويّة.

af1391@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved