الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th March,2006 العدد : 144

الأثنين 13 ,صفر 1427

طلاق بالإكراه

* إبراهيم الناصر الحميدان
كانت البساطة شعاره الذي لم يتخلَ عنه، أسرة متواضعة المقام والمجد والتاريخ، وظيفة صغيرة في مصلحة مهمة، تعليم حالفه الكثير من التعثر ثم الانطفاء، وانتهى به الأمر أن يصبح مجرد شاب يعيش على الأحلام، تزوره مثل سكرات الموت، يقرأ بعض الآيات القرآنية قبل أن يغطس في بحور التمنيات، ثم لا يلبث الكرى وأن يمتصه إلى صبيحة اليوم التالي لافظاً إياه بلا أي متعة أو بارقة أمل. أمه هي الوحيدة التي تكتشف مدى قنوطه في زحمة المطالب اليومية التي يؤديها للمنزل بعد وفاة والده، ولهذا لم تبخل عليه بالأدعية شبه اليومية عسى أن يهيئ الله له من يأخذ بيديه.. حتى حدث ما لم يكن في الحسبان، حين طلبت منه شقيقته استبدال غرض اشترته من إحدى المحلات النسائية فجاء مقاسه غير مطابق لها، وحتى لا يضطر إلى اصطحابها معه قَبِلَ هذه المهمة على مضض.. فاتجه إلى المحل يسحب أقدامه لاعناً كافة النساء، وهناك فوجئ بما لم يكن في الحسبان، إذ صادف هيفاء طاغية الفتنة كانت تتبضع، وقد انحسر عن وجهها الأبيض خمارها الأنيق فكشف عن ذلك التكوين البديع.. فالشعر الحريري انهمر على صدرها الناهض وكتفيها بفوضى مثيرة، بينما العينان السوداوان تبحر فيهما نظرات التشوق والغموض. والساقان العبلتان تلمعان من تحت رداء شفاف انطوى بتناسق الألوان. وقف مشدوهاً بينما الحسناء لاهية عنه، ومضى يتمعن بهذا الجمال الطاغي، وقد فقد لسانه حتى نسي المهمة التي جاء من أجلها. على أنه اكتشف من خلال المفاجأة أنه يستطيع الإقدام على خطوة جريئة، إذ وجد قدميه تسحبانه إلى زاوية تحوي طاولة يستعملها المحل للشؤون المكتبية فتناول ورقة كتب عليها اسمه وتليفون منزله مع كلمة إعجاب وذهب بها إلى الفتاة ودفعها إليها بشجاعة نادرة ثم ولى هارباً، وفي ذهنه تعتمل شتى التوقعات والاحتمالات، على أنه بتأثير مشاعر الانفعال والمفاجأة التي زعزعت كيانه قد استهان بكل ما سوف يحدث له.
فمضى وقد خلف قلبه وراءه يتناثر على غير هدى، ولأول مرة في حياته ابتاع علبة سجائر راح يمتح منها لعلها تعينه في امتصاص مشاعر الحسرة والضياع، وعاد إلى المنزل مبلبل الخاطر ومشهد الفتاة وقد جلست على تلك الأريكة الصغيرة يسيطر على ذهنه، وفي تلك الليلة سيطر عليه أرق لم يعرفه في حياته، حيث بقي يتقلب على سريره وكأنما يتلحف على نار مستعرة من تحته إلى أن تناهى إلى سمعه صوت أذان الفجر، بعدها استسلم للوسن منهوك القوى ولم يستيقظ إلا حوالي الظهر، فذهب إلى إدارته زائغ البصر محمر العينين تشي هيئته بمظاهر المرض مما جعله محط أنظار زملائه في العمل الذين أشفقوا من سؤاله حتى لا يفاجؤوا بأن مصيبة حلّت به. وتكررت ليالي الأرق والسهر حتى كان اليوم الثالث عندما تلقى اتصالاً من شاب عرف فيه أنه شقيق الفتاة يعتب عليه بأسلوب لطيف تجاوزه للتقاليد ومحاولة اغواء شقيقته!!.. غير أنه دافع عن نفسه بأن الموقف أوحى له بذلك التصرف، إنما حسن نيته جعله يوضح عنوانه واستعداده لتلافي الخطأ. وحين تأكد الشاب من ابتعاده عن أسلوب الطيش وأفعال المراهقين طلب منه الحضور إلى منزلهم للتعرف عليه. وفي اليوم المحدد ذهب إلى العنوان الذي أعطي له فإذا به امام قصر باذخ يوضح مدى ثراء الأسرة ومكانتها الاجتماعية، وبعد أن قدمت له القهوة عن طريق خادم أجنبي حضر رجل مهيب الهيئة أدرك أنه والد الفتاة، وعقب تبادل التحيات والأسئلة التقليدية قال له الرجل مباشرة:
لقد عرفنا أنك عازب وتعمل في جهة حكومية بوظيفة صغيرة، لكن ما الذي جعلك تتحرش بابنتنا دون أن تعرف عن مقام أسرتها؟ فصارحه بما حدث بكل تفصيل وعفوية، وكرر اعتذاره واستعداده لاصلاح خطئه بطلب يدها رغم الفارق الاجتماعي، وأنه لا يملك أي شيء يذكر من حطام الدنيا.
وفي هذه الأثناء قدمت الفتاة تحمل وعاء البخور وبعض الطيب وسلمت عليه وجلست ليس بعيدا عنهما مما ألهب أشواقه النائمة وجعله يشعر بسعير النار من حوله. ثم إن الأب نهض خارجاً من الغرفة في الوقت الذي حضر أحد أشقائها وإن بقي متشاغلاً في ترتيب بعض الأثاث دون أن يشارك في الحديث. وسمع صوتا من داخل المنزل ينادي على اسم الفتاة (ضحى) فانسحبت من مجلسها، وهنا أخبره الشاب بأنه ضيفهم هذه الليلة حتى يبلّغ أسرته، وبالفعل أحضر له جهاز الهاتف للاتصال بأهله، وبعد قليل جاء الأب من جديد وانفرد به متسائلاً إذا ما كان فعلاً يرغب في الزواج من الفتاة، فأومأ برأسه عدة مرات بعد أن خانه صوته عن الكلام. وهنا تناول الرجل جهاز الهاتف ليطلب شخصاً فهم أنه موثق العقود، استدعاه لعقد النكاح مع شاهدين معه. وبعد ساعة واحدة كان صاحبنا زوجاً للفتاة التي أعلن والدها بأنها مطلقة قبل شهر واحد ثم إن الزوجة حضرت بعد ذلك لتخبره بأنها تدعوه للعشاء خارج المنزل، حيث أكملا تلك الليلة في منزل أهلها، وكان (راشد) - وهذا اسمه - غير مصدق ما يجري واعتبره بمثابة حلم قلما يتحقق لغيره، إنما ظنه من آثار دعاء أمه وتضرعها المتواصل له لأنه لم يخسر من جيبه نظير هذه الزيجة سوى مبلغ مائة ريال أصر والدها أن يدفعها وهي كل ما يملك في جيبه حتى يتحقق الجانب الشرعي، على أن الزوجة أخبرته بأنها حجزت جناحاً لهما في فندق مشهور لقضاء شهر العسل.. وانتقل معها في اليوم التالي إلى ذلك النزل، حيث تمتعا بحياة رغيدة لم يكن يحلم بها؛ إذ يوافر له فيها أطيب المأكل ووجد من رفيقته ما يتمناه كل زوج يدخل بوابة المشاركة في سعادة وهناء. بيد أن أيام العسل لا بد وأن تكون لها نهاية، إذ بعد مضي أسبوعين على تلك الحياة تلقى اتصالاً من شقيق المرأة يطلب منهما فيه الحضور إلى المنزل والاكتفاء بما مر عليهما في ذلك النزل.. وبعد أن تناولوا طعام العشاء، وكان قد حضره إلى جانب أفراد الأسرة، الأفراد الذين شاركوا في عقد الزواج وعلى رأسهم كاتب النكاح، استدعى شقيق الزوجة راشداً إلى داخل المنزل، وفي جلسة خاصة أخرج الشاب سلاحاً قائلاً له:
لقد حصلت على كل ما تريد، وأنت مطالب الآن بطلاق زوجتك أو سوف تدفع حياتك ثمناً في حالة الرفض، ودفع له بمبلغ من المال مضيفاً: هذا المبلغ سوف يساعدك على النسيان.
وفي دقائق معدودة أسدل الستار على أغرب وأمتع زواج يحدث في هذا العصر!!؛ لأنه زواج مقرر له الطلاق سلفاً.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved