الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th September,2004 العدد : 76

الأثنين 28 ,رجب 1425

اختصاصي الحشرات البشرية
محمد الماغوط
في حديث سوداوي ل(الثقافية):

* حوار عبدالكريم العفنان
* تصوير محمد فندي
رحب الماغوط بفكرة إعداد ملف يتعرض لتجربته حياةً وشعراً، وحدد لنا موعداً على مرحلتين، فطلب منا الاتصال به هاتفياً مرة ثانية، ليحدد لنا إمكانية اللقاء به في بيته الواقع في حي المزرعة، وكان ذلك. وصلنا إلى المكان المحدد قبل خمس دقائق من الموعد، فتباطأنا قليلاً حتى تعلن الساعة الثانية عشرة ظهراً، وكان ذلك أحد ضيوفه فتح الباب، ورحب بنا (أنا والمصور) وقادنا عبر المدخل المظلم، إلى يسارنا المكتبة، وطاولة تتناثر عليها الكتب في فوضى طبيعية، وإلى أمامنا كان الماغوط يجلس ويرقد، معاً، وأقرب شيء إليه آلة تسجيل (ريكوردر) تبث صوت فيروز في غرفة مكتظة الجدران بعشرات الصور واللوحات بأحجام مختلفة، تناهض الماغوط ملاقياً انحناءنا بسلام ممتن لقامة إنسانية مُسنة، ولقامة شعرية كبيرة.
جلسنا، فأوحى لمضيفنا بما يمكن أن يقدمه لنا كضيافة من شراب أو شوكلاتة.
كنا أمام تحدّ! فقد أتينا بقصد إجراء حوار مع الماغوط، لكننا نعلم برأيه الغريب في رفضه الإجابة عن أي سؤال مباشر، لكون ذلك يضعه في وضع المتهم أمام المحقق، ولذلك لم نحضّر أي سؤال، ورأينا ان نستدرجه بحديث من هنا، وملاحظة من هناك، لكن استخدام آلة التسجيل ممنوع أيضاً في قوانين مزاج الماغوط الخاص جداً!
كنا في وضع لا نحسد عليه، على الرغم من محاولته لعب المضيف. تلك قوانينه، لكن عملنا لن يتم تحت هذه الشروط التعسفية المسبقة،.. قررت أن أغش، فوضعت المسجل على حالة التشغيل، وكان شكله غريباً، فمرت الخدعة، لكن من أين لي أن أجبر الماغوط على الحديث، والتباسط، والانشراح، فكنت أتكلم لمدة دقيقة أو دقيقتين ليرد مجيباً، أو محدثاً، لخمس ثوان، او عشر.
استمر اللقاء نصف ساعة تماماً، وقد أنهاه الماغوط بنفسه: (يكفي.. تعبت)!
فاتني أن أذكر أن أول سؤال، وكان مباشراً، عن رأيه بمبادرة جريدة (الجزيرة) حول نشر ملف عن الماغوط كان جوابه (مو غلط.. شي منيح).
بعد أيام كان اللقاء الثاني، وهذه المرة بدعوة من الماغوط نفسه، بعد أن اتفقنا على إمكانية تكرار المقابلة بعد أيام، حين ودّعنا في المرة الأولى. ولا جديد نذكره، أو نضيفه، مما جرى في المقابلة الثانية، سوى أنني ذهبت إليه وحيداً.
الآن، سنحاول تقديم الحوار، كما جرى:
* من هو المثقف؟
المثقف ابن الشارع. ابن البلوعة، وابن القمل. مش ابن الزهر والنبيذ.
* العرب يعيشون العصر الذهبي لما هو قادم، هذه المقولة لك، كيف تفسرها لنا؟
القادم أخطر بكل المقاييس.
* بعد عام على احتلال أمريكا، وحليفاتها للعراق ماذا تقول؟
صدام حسين رجع بالأمة العربية عقوداً طويلة إلى الوراء.
كنت في حرب الخليج الثانية مع صدام، على الرغم من رفضي لاحتلال دولة الكويت، بمعنى أنني كنت ضد تدمير العراق في تلك الحرب.
في هذه الحرب تلقيت نبأ سقوط بغداد، فانكسر الكأس في يدي، وسال الدم بين بين أصابعي دون أن أشعر بأني جرحت يدي، كانت الصدمة كبيرة، وتأكدت حينها، من حقيقة النظام العراقي السابق الذي لا أتمناه لأي بلد.
* كيف تقضي أوقاتك؟
أحب أن أعيش الوحدة لأن مزاجي صعب..مازحاً (آمل ألا تنتقل إليك حالتي).
* هل هذه الحالة بسبب وفاة زوجتك الشاعرة سنية صالح؟
سنية حمّلتني مسؤولية تربية ابنتينا (شام وسلاف) بعد وفاتها.
سنية شاعرة كبيرة لكن اسمي أساء إليها! وكانت تُواجه كلما كتبت شيئاً بالقول: (زوجة الماغوط). لقد كانت معلمتي ومرضعتي، ومصدر قوتي وعطائي، لا تزال سنية المعنى الكبير في حياتي.
* هنا حاولنا أن نستجره للحديث عن الشعر، ففهم كلامنا أننا نريد أن نسمع منه شعراً، فاعتذر أن مزاجه حالياً غير مهيأ لذلك، وعندما حاولنا أن نفهمه أننا نريد الحديث عن شعره
عموماً، وليس سماع الشعر، أجاب:
الحب. الحرية. الشعر مصطلحات لا تعريف لها في قاموسي، لكن يمكننا أن نعرف الماء، أو البحر، أو الصحراء.. والشعر ليس له قانون.
وأرى أن أي أمة لا تتنفس الحرية سوف تموت، ومن ضمن ذلك حرية الرأي، فهي أكسجين الأمة.
* وما رأيك في تكريم المبدعين في وسائل الإعلام كما نحاول الآن مع الماغوط؟
ليس من الخطأ أن يُكرّم الأديب طالما أنه على يقين أن التكريم لن يحيده من مشروعه الذي ارتضاه لنفسه، كما أن الأديب الحقيقي لا يبيع موقفه من
أجل حفنة من المال
* وما هي آخر أعمالك المسرحية؟
انتهيت من كتابة مسرحية سيخرجها الفنان زهير عبدالكريم.
كانت تجاربي القديمة مع دريد لحام، وجهاد سعد فاشلة، لأنهما تعاملا مع النصوص تجارياً، ونسيا أن الفن رسالة صادقة. من سوء حظي أن اسمي خدمهما تجارياً، فقد أعطيت مسرحية (خارج السرب) إلى جهاد سعد، لكنه خذلني وسرقني، وهذا ما عزّز اتجاهي نحو العزلة.
دريد لحام أشبه بأنثى تراها دوماً في ثوب ملتزم، وفجأة تجدها...، وهنا لا أستطيع أن أستعيد الصورة الأولى، دريد لحام (زعبور رهيب)، وقد خسر محبة الناس، ولو كتب له اليوم شكسبير، فلن يجد جمهوراً يثق بما يقدمه.
* يقال: إن السجن هو الذي فجر موهبة الشعر في محمد الماغوط؟
من الطبيعي أن يؤثر السجن في أدبي، لأني تعذبت كثيراً داخل سجن المزة.
* المشترك الأكبر في شعرك هو السوداوية؟
أنا سودواي في طبعي، كنت أتمنى أن أكون غير ذلك، لكن الإنسان يمر بتجارب تكون لديه فكرة عن الواقع تطبعه بالصورة الحقيقية للواقع.
وواقعنا ليس أحسن حالاً من سوداويتي.
* وهل تصل سوداويتك إلى حد التشاؤم؟
أنا متشائم، ولكنني لست بيائس. وحتى نتخلص من اليأس لابد من زمن طويل، لقد ارتكبت أخطاء لا يمكن تجاوزها بسهولة من خلال أغنية أو مسرحية.
* التشرد والتسكع مفردتان تتكرران في قصائدك، هل لذلك علاقة بأيام شبابك ونشأتك؟
الإنسان كتلة من الذكريات
والأحلام، وأنا نتاج بيئة قاسية لا تفارقني.. الصحراء في قلبي (وبألم شديد): الخراب في قلبي.
* هل ننتظر قريباً كتاباً جديداً للماغوط.
قريباً سيصدر لي كتاب فيه مجموعة من النصوص، وأنا لا أسمي ما أكتبه مسرحية أو مقالاً او قصيدة،.. أسميه نصاً.
* في رأيك، ما الذي صنع اسم الماغوط؟
أنا دائماً خارج السرب، لأني أعتبر نفسي جملة معترضة في الثقافة العربية
* وما هو الوطن في وجدان الماغوط؟
الوطن أنا وأنت وبقية الناس، الوطن يبقى والسلطة تذهب، الوطن ليس له علاقة بالطارئين والزعران.
* والصدق؟
الكذب أساس الفشل، والصدق أقصر الطرق للنجاح.
* وعلاقتك بالموسيقى؟
أستمع دائماً إلى فيروز، أو صباح فخري، أو محمد عبدالوهاب، وفريد الأطرش، وفي عزلتي أشعر دائماً بالحاجة إلى سماع فيروز.
وفيما يلي مقتطفات من حوارات وردت في كتاب الماغوط (اغتصاب كان وأخواتها) الذي حرره الزميل خليل صويلح، ونشرها وفقاً لرغبة الماغوط
* ما هي أول صورة تتذكرها في طفولتك في سلمية؟
ربما كان عمري خمس سنوات، وأنا أتشبث بحضن أمين أتذكر صورة سماء شاحبة، وسحب ورمال، وحين كنت في السابعة من عمري، أطلقتني أمي لأول مرة خارج باحة البيت لأرعى الخراف في ما تبقى من المروج النامية مصادفة بين المخافر، عند الأصيل عادت الخراف، ولكن الراعي لم يعد.
* في روايتك الوحيدة (الأرجوحة)،تتذكر أمك بحنان، على
عكس علاقتك بوالدك؟
والدتي كانت امرأة قوية وصلبة، علمتها الحياة أن تعتمد على نفسها في تربية أبنائها، وقد أصيبت ركبتها وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وإثر ذلك لم تعد تستطيع طيها إطلاقاً، وكانت كثيرة الحركة.
واذكر أنها زارتني في أيامها الأخيرة، هنا في دمشق، وكان عمرها يتجاوز الثمانين، لكن شعرها ظل يصل إلى أسفل ظهرها، وكان الجواهري في زيارتي، فأصيب بالذهول من حديثها وفهمها للحياة.
حتى إنه كتب خمسة أبيات فيها، لكنني أضعت هذه الأبيات، ولا أعلم شيئاً عن مصيرها.
أما والدي فكان رجلاً مسالماً وفقيراً، قضى حياته في الحصاد والعمل في أراضي الآخرين كأجير، وهذا ما جعل والدتي تفرض سطوتها على المنزل.
أمي كانت امرأة جميلة وشاعرية في طبعها، وتحب الزهور، لكن حنانها وحبها لنا لم يمنعها من أن تكون صارمة حين يتطلب الأمر ذلك.. أمي أعطتني الحس الساخر، الصدق والسذاجة، رؤية العالم كحلم قابل للتحقيق.
تصور! حين سُجنت لأول مرة (سجن المزة)، جاءت من السلمية للبحث عني والاطمئنان على حياتي، وهي لم تزر دمشق من قبل، ركبت البوسطة وجاءت إلى دمشق.
* متى غادرت السلمية أول مرة؟
في سن الرابعة عشرة، كنت سأدرس الزراعة في مدرسة (خرابو) في الغوطة.. كنت متفوقاً، لكنني أحسست فجأة أن ليس اختصاصي الحشرات الزراعية، بل الحشرات البشرية.
كان والدي، كما قلت فقيراً، ووجد في هذه المدرسة حلاً لمشكلتي، لأنها مدرسة داخلية، تقدم الطعام والشراب مجاناً، لم يستمر الأمر طويلاً، إذ هربت منها ومشيت 15 كيلو متراً على قدمي، ولم أكن أعرف أحداً في دمشق.
أما مغادرتي النهائية للسلمية فكانت بين عام 1955 و1956، عندما اعتقلت لأول مرة، وكان المكان الأول الذي أزوره خارج السلمية سجن المزة.
* السجن صنع منك كاتباً؟
نعم أول حرف متوهج كتبته كان في ظلام السجن البارد، وفي منتصف الخمسينيات.
* ما سبب اعتقالك في تلك السنة المبكرة؟
كنت عضواً في الحزب السوري القومي الاجتماعي، حصل الأمر دون قناعة تُذكر، ربما كان الفقر سبباً في ذلك، فبالنسبة لفتى يافع وفقير مثلي كنت بحاجة إلى انتماء ما.. وصراحة إلى الآن لم أقرأ صفحتين من مبادئه، ولم أحضر له اجتماعاً، ولم أقم بأي نشاط لصالحه على الإطلاق، باستثناء مرة واحدة كلفوني فيها بجمع تبرعات من إحدى القرى التي كنت أعمل في بساتينها، فجمعت التبرعات والاشتراكات، واشتريت بها (بنطلوناً) وذاك وجه الضيف، لكنني سجنت بسبب انتمائي للحزب أكثر من مرة.
* في السجن تعرفت إلى أدونيس.
نعم لكننا كنا في زنزانتين منفصلتين، وكنت أراه من بعيد.
* في السجن، تعلمت التدخين؟
لا كنت أدخن قبل أن أدخل إلى السجن، لكن بشكل معتدل، خمس لفافات في اليوم تقريباً، في السجن كان التدخين ممنوعاً، وكان ثمن اللفافة يصل إلى ثلاث ليرات سورية تقريباً، وهو مبلغ خطير آنذاك.
* والخوف؟
إنه الشيء الوحيد الذي أملكه من
المحيط الى الخليج! ولدي في أعماقي (احتياطي) من الخوف أكثر مما عند السعودية وفنزويلا من احتياطي النفط.
* هل كنت تقرأ في السجن؟
نعم قرأت أكثر من خمس وعشرين ألف صفحة، كانت سنية صالح وزكريا وتامر يزوداني بالكتب.
* هل تذكر أول قصيدة كتبتها؟
أذكر أول قصيدة نشرتها كانت بعنوان (غادة يافا)، وقد نُشرت في مجلة (الآداب) البيروتية.
ولأن هذه المجلة لم تنشر لأحد إلا إذا كان اسمه مسبوقاً بلقب كبير، فإنني استعرت لقب دكتور ووضعته أمام اسمي، على الرغم من أنني لم أحصل إلا على الشهادة الابتدائية فقط، من مدرسة داخلية.
وحين نُشرت القصيدة على صفحات (الآداب) صُعق مأمور البلدية، وهو شاعر أيضاً، إذ إنه منذ سنوات كان يرسل قصائده إلى المجلة دون أن تنشر له بيتاً واحداً، ولما سأل عمّن يكون (الدكتور محمد الماغوط)، قال له وجهاء البلدة: إنه (لا دكتور ولا من يحزنون)، بل هو مجرد فلاح تشققت كعوب قدميه من العمل في الأرض فازداد الرجل عجباً واستغراباً.
* ما هو مفهومك للشعر؟
الشعر نوع من الحيوان البري، الوزن والقافية والتفعيلة تدجنه، وأنا رفضت تدجين الشعر، تركته كما هو حراً، ولذلك يخافه البعض، وأعتقد أن (قصيدة النثر) هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائماً على القسوة والغطرسة اللفظية، كما أن القصيدة مرنة، وتستوعب التجارب المعاصرة بكل غزارتها وتعقيداتها.
وهي تضع الشاعر وجهاً لوجه أمام التجربة، وتضطره إلى مواجهة الأشياء دون لف وراء البحور، أو دوران على القوافي، ليس لدي (خُلق) لأبحث عن قافية وبيت، ووقتها كنت مهموماً بالبحث عن بيت أنام فيه، بدلاً من تشردي على الأرصفة، وربما كتبت قصيدة من ضيق (الخلق)، لا أكثر.
* كيف ترى هؤلاء:
يوسف الخال؟
هو كإنسان أهم من شعره بكثير.
* أنسي الحاج؟
أنسي رجل موقف لا مواقف. شعره ساقية صافية، وليس نهراً مسموماً. أحبه شاعراً وإنساناً صامتاً.
* نزار قباني؟
مأساة نزار تتمثل في أنه لا يحب ولا يكره، لذلك تبث الإذاعات معظم أشعاره، مرة قال لي: (أنت أصدقنا).
* محمود درويش؟
شاعر موهوب جداً، لكنه غير صادق.
كمال خيربك؟
بطل قتلته الشعارات.
* انطون سعادة؟
شاعر أخطأ الطريق.
* بدر شاكر السياب؟
كان السياب صديقي الحميم، وهو يشبهني في جانب من مسيرته، لأنه كان بسيطاً وصادقاً مثلي، كان يبيع الصدق ولا يشتري إلا الأكاذيب، لم أنس كيف كنا نتسكع في بيروت، وكان أشبه بحطام بشري يغني بحزن نادر، وقد رثيته بقصيدة:
(أيها التعس في حياته وفي موته
قبرك البطيء كالسلحفاة
وأعتقد أن أكبر خطأ ارتكبته هو أنني تقدمت في العمر، ولم أمت باكراً، كما فعل السياب.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved