الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th September,2004 العدد : 76

الأثنين 28 ,رجب 1425

الماغوط أو شاعر العزلات العالية
بول شاوول *
يستبقيك شعر محمد الماغوط، وأحياناً كثيرة يجرفك بلا مقابل، وبلا مسافة. وبلا إرادة، يُشبه أن تفتح نافذة وتتركها مفتوحة، لا لأنه شعر (جميل) (يُعجب) (وصيغ لكي يعجب)، ولا لأنه شعر يأسرك بالتنميق، أو بالفكرة، أو بالشعار، أو بالأيديولوجيا، وإنما لأنه يأتيك عارياً، كله جسد، كله حواس، كلها فصول.
هكذا كالخليقة الأولى بكل تدافعاتها، وتشوشاتها، وأنفاسها، وغرائزها، وتداعياتها، بل هكذا كبراكين تنفجر هنا، وجداول تسيل هناك، وأنهار بكل طميها ومجاريها هنالك.
ذلك أن الماغوط لا يصوغ شعره كما يصوغ النحات تمثاله، وإنما يطلع التمثال من تلقائه، ولا ينحت الماغوط الخشب ولا المعدن ولا الصخور ليحذف، أي ينقل أحواله من اللامكان إلى المكان، أو من اللاشكل إلى الشكل، ومن الهشاشة إلى الوجود المكتمل.
وإنما يطلع كل شيء من كل شيء، بقوانين الذات المستعصية والخفية، وبتشاكيل تتوالد من تلقائها، ومن جرف يعطف على جرف.
هل هو كلام الجروح، مساحات الالتباس الأول، النزف الأبدي، لايختار حيزاً له، ولا فضاء معيناً محدداً، وإنما كل الفضاءات تماماً كشعره، كما يجوع الطفل ويرى فردوساً، أو كما يعطش كائناً في صحراء، وتتدفق عليه السرابات والمياه دفعة واحدة، من سموات ربما لم يرها ولم يعرفها، ومن غيوم تعبر ثم تتوقف ثم تعبر ثم تنهمر بلا حساب.
ذلك أن الماغوط عندما يخلط المسافات والحُفر، والهاويات، والمنحدرات، والقمم، فلكي يقطعها حافياً بحاسته الأولى والثانية والرابعة والعاشرة، فلكي يقطعها بجروحه ولما تلتئم، والجروح طريق، والطريق جروح، بل كأنه يقطع دروب الشعر بوعورة من رمى كل الأقنعة خلفه، كل المجازات الساكنة خلفه، كل المراتب والتصنيفات رميه أياماً نافلة، أو فصولاً لَمَعَتْ. ذلك أن الماغوط لايمتهن الشعر، أي لايمتهن رياضيات الشعر ولا هندساته وتجريداته (كما يمتهن وهماً الفرح) ولا مصوغاته: إنه شخص يحتاج إلى الشعر، فقط.. يحتاج إلى أن يكون زاوية من زوايا هذا العالم، رصيفاً، (قمراً) لحزنه، غرفة (بملايين الجدران)، (زهرة) وسيَّافها، عصفوراً بحدبته التي تساوي غابات. ذلك أن
الماغوط الذي (خرج) على قوانين جَلْجَلة القيود، والسجون، والسلاسل، سواء كانت من اللون الفوقي، أو من اللون التحتي، أو من مواصفات البنى النهائية، والمعسكرات المغلقة، لايمكن أن يبحث عن قيود أخرى، بل عن حريات شائعة والحرية بحث لاينتهي. كل لحظة يبدأ مشواره وكل لحظة نخونها، أو تخوننا، نضيعها أو تضيعنا لنعاود البحث من جديد، بلذة لا معقولة لا متناهية، بلذة أن نمشي ولا نصل. أو بلذة أن نرحل ولا نعرف إلى أين نعود.
هذه هي حرية الماغوط فاتبعوها. أحياناً تسيل هذه الحرية على عزلة غرفة. أحياناً تشهق مع ملايين الدموع. أحياناً تواكب المقهورين والفقراء والمضطهدين. أحياناً تلمع في عيني امرأة، أو تبرق على جبهة طفل. حرية بلا شكل لأنها كل الأشكال، ولا لغة لأنها قلب اللغات. ولهذا فحرية الماغوط لا تحدها قوانينها، ولا أوطان، ولا أمكنة، ولا أحزاب، ولا أنظمة. دائماً الحرية وحدها عند الماغوط تقطر من مسامه، تعرق من جلده. ترتفع مع صوته. تصمت من انكساراته. ذلك أن الحرية عزلة في النهاية، وتعاسة، ورفض، وتمرد، وفردانية، وذاتية تتفجر وتتشطى، أي مغادرة دائمة لخطوط البصمات وفوت دائم لدمغ القطعان. أن تكون حراً يعني أن تكون شاعراً وحسب، لا سلطاناً ولا ذا مرتبة، أو نياشين، أو انخراطاً في العلامات المدوية والسائدة، أي الميتة.
هكذا كان الماغوط في مجلة (شعر) يحمل الحرية بلا ثمن، مجانية، ثورة، جنون، واستثناء. وشعر الماغوط استثناء كالحرية، استثناء كالعزلة. كان داخل المجموعة وخارجها (الخروف الأسود) الصوت الصارخ في (برِّيَّته). وهكذا كان عندما كان له أن
يختار إطاراً لتمرده، حزباً، أو جماعة. ذلك أن كل ماهو مكرس يضجر الماغوط. كل ماهو إطار محدد يشعره بالضيق. شاعر الضجر بامتياز، وشاعر الضيق بامتياز، لكنه شاعرٌ يعرف كيف يحتج بالفكاهة السوداء، ويعرف كيف يدمر بالسخرية، وهما سلاحان يدميان بقدر ما يعجزان. والشعر في عمقه أو في بعض أعماقه، تلك السخرية المريرة، التي يواجه بها الشاعر العالم الممدد في قيلولاته الأبدية، وفي غطيطه السحيق، وفي غيابه القاسي، بل كأن السخرية عند الماغوط لايمكن ان تنفصل عن شعره، ولا عن الحزن، ولا عن (ضوء القمر) ولا عن اليأس، ولا عن العجز، ولا عن الوجود نفسه، السخرية حزن عميق، حزن وجودي يُجَرِّحُ صاحبه بقدر ما يُجرِّح العالم. ذلك أنه فتحة عميقة في الجسد، ونزف في الشريان، أقصد أن السخرية عند الماغوط لا تمر فقط بالذهن، ولا بالمعادلات العقلية، أو حتى بالوعي (الشقي) بقدر ما تتمرغ بالمسافات، بالغبار، بالدم، بالدموع، بالحواس. رحلة مؤلمة هذه السخرية التي ما أن تحلم حتى تسقط في حلمها. إنها من أحوال النفس. ومن أقاليم الداخل، لعبة مرايا أو لعبة أقنعة، يأسرها الماغوط بلا رحمة، وينتزعها قناعاً قناعاً بلا شفقة، مازوشية مرعبة تحرق أصابع الشاعر، وأجفانه، وجلده، مازوشية هي في النهاية النوع الأشف للاتصال بالعالم عبر الذات المحرقة والمحترقة، عبر التواريخ الملتهبة بجمرها.. عبر هذا التشرد الروحي المتناوب، والمتواصل، والمتناسب فكأني بالماغوط (كما أرى بيكيت) صعلوك من صعاليك العدم. لكنه العدم الخلاب يبذر كائناته كا يبذر الزمن نسيانه، هكذا كنقطة تبحث عبثاً عن توازناتها، وندوبها كطرق لولبية كافكوية، كلعنة مضيئة فوق اللعنات الميتة، والمؤكسدة تمشي في كل الجهات دفعة واحدة، لأنها فقدت الجهة الواحدة. تتحرك في منعطفاتها الخطرة، لأن كل سبلها منعطفات خطرة.
صعلوك المدينة، محمد الماغوط، صعلوك الشعر العربي، بكل نبله وعطاياه، بكل عزلته العالية، بكل تفتحاته الكونية، بكل خروجه الدائم. صعلوك حي مشدودة حواسه بأوتار بالغة الحساسية، حتى لترن من أولها إلى آخرها، ومن أول دمشق إلى آخر العالم، لمرور النسمة، أو لبريق الدمعة، أو لنشيج المعزولين والمفقودين والبسطاء والشعراء. أوليس هذا هو الشعر، أوليس هذا هو بعيداً عن القوالب، والطرقات المرسومة، والعادات الموسومة، والأنهر المتجمدة، والمدارس الجماعية، واللغات المسلعة، والصيغ الشائعة، والمشاعر المعلبة، والأفكار الجاهزة.
صعلوك الشعر، واللغة، والقصيدة التي تشبه الغابة، والدغل. صعلوك الرهافات الساحقة، هذا هو محمد الماغوط، المقبل إلينا باستمرار بتلك العزلة المأهولة، أو بتلك الجروح المفتوحة على العالم، بتلك الفرادة اللامعة.
إنه الشاعر بامتياز!


* شاعر ومسرحي لبناني
رئيس القسم الثقافي في جريدة المستقبل اللبنانية

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved