الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th September,2004 العدد : 76

الأثنين 28 ,رجب 1425

التمرد الشبيه بالقصائد
حسين عبدالكريم
ما هذه التهم الباطلة، التي نلصقها، دائماً بصديقتنا الرومانسية؟ ارى ان الرومانسية هي فرصة لقائنا مع أنفسنا وهمومنا..
ومحمد الماغوط قد يكون من أكثرنا التقاء بنفسه وهمومه وكوابيسه.. وبهذا المعنى يمكننا القول: محمد الماغوط من أكبر الرومانسيين في عصرنا.. ويمكننا القول: انه من اسياد الكوابيس الإبداعية، إذ يبني مملكة مترامية، لا تقدر على تخريبها رياح الإهمال، وعوامل الصدأ، حراسها لهفات شاعر متمرس بالحب والخوف، منذ البداية، ومن حراسها ايضاً مقدرة الشاعر الكبيرة على الحزن المدهش، غير الركيك.. الاحزان الماغوطية، هي من عائلة كوابيسه، ومن ذات مملكته المسيجة، كل حين، بحروف رفعه وجره، وكلمات خوفه وأمانيه العالية، لانها تستمد عيشها وبقاءها من نسغ الحياة، ومجمل هموم البؤساء، والمتروكين تحت عتبات العوز والفاقة، كظل سحابة، لا يكتمل حضورها.. الخصوصية في كوابيس محمد الماغوط، تأتي من حسن نواياه تجاه نفسه، ومخاوفه وحبه، وتأتي من مصداقيته الهائلة، التي يكرسها فيما بينه وبين أي كابوس يصير إليه، كأن يخاف على شوق قديم من الحريق، أو أن يصرخ صراخاً عالياً من أجل قنديل ابقاه معلقاً قرب بوابة عمره الأول، او بلدته الأولى، او امنيته الأولى.
مرة قال لي محمد الماغوط: كل نوم أراني مع كابوس صعب، هو الخوف على قصائدي من ان تضيع، وأراني بين صفين من الاشجار، ويداي متعبتان، وقدماي من غير خطوات ودروب..
هكذا محمد الماغوط يبدأ السفر من التفاصيل، وحين يرجع يرجع اليها نفسها، بكل المهابة والتقدير.
المملكة التي بناها مرة واحدة، وبقي يرمم اسوارها، ويضيف إلى اهليها ما يمكنه اضافته.. هذه المملكة بقيت وتعالى شأنها واتسع حضورها. مملكة كل قاطنيها الاحزان والكوابيس المتمردة على قوانين الرتابة والأنا العفنة.. حين ألتقيه اراه مع واحد من كوابيسه وحين ابتعد عنه، يودعني حزنه المتعب من طول البقاء على المقعد جالساً، او باحثاً عن نعاس جدير بالهناءة العجولة.. أحياناً تصير الكوابيس عنده من عائلة القلق الجشع، الذي يريد التهام أي سعادة معمرة او وليدة، فيصدمها بالكتابة، وحروف عطفه الحادة كسيف اشتياق يلمع حده بين ضباب الأسف، والخيبة.
والكآبة واحدة من أقسى صديقاته الكابوسية، تحكم على عنق ايامه قبضتها الفولاذية جداً، لكنه ظل على مدى رحلته، الممتدة من الخمسينيات المقيمة في القرن الماضي، يتبادل معها الحال بالحال والرجاء بالصدود والقسوة، إلى ان لاذت قليلاً بالفرار، ولاذ هو كثيراً بالحزن والحبر والصفحات البيضاء، والكتابة.
الحزن احد ابناء الكآبة العاقّين، وغير المخلصين، ولو انه اخلص لها، لأحرقت انفاسه، وابطلت عمره وكل شجونه وشؤونه المستحبة، والمقتدرة ابداعياً. الفارق بين العادي والإبداعي.. كبير جداً، اكثر من طموحات جيل ضخم من المتطفلين على الكتابة والحياة والصفحات.
أي كابوس، حتى يصير ابداعياً، يحتاج إلى هم إنساني نفيس، غير مطروح على قارعة الطريق، وغير مرمي على رفوف الأيام.
وهذا يحتاج إلى خصوصية نفسية، جل مبتغاها الحب، وأعراس طفولة غير ملوثة.. الماغوط من أثرى اثرياء الكتابة بالأعراس الصغيرة والكبيرة، والطفلة، والمعمرة، والمعتدة، بسطوتها، والخائفة بعض الخوف.
لابتسامة امرأة عرفها قديماً او حديثاً، فاستراحت لابتسامتها روحه الطيبة، يقيم عرساً ويعلن ميعاد بهجة.. ولحضور جار أحب صوته يعلن عرساً.. ولنادل يقدم له الشاي يفرح فرحاً كبيراً يدوم اياماً وشهوراً وسنوات.. وأعراسه تشبه كوابيسه، وتشبهه وتنتمي اليه وينتمي اليها، بكل ألق ومحبة.
ولا يترخص بمهابة اي منها، ولا يعلن عدم صلاحيتها او بقائها.. بل هو دائماً صديق كوابيسه وأعراسه الطفلة.. يحب ويبكي، ويتذكر ويكره ولا يكره، ويصرخ ويصمت، ويكتب ويمزق الأوراق، لكنه أب طيب لكل كوابيسه،وأب اكيد لكل بهجة عرفها او يسعى اليها.. ولعل المبدع لا يكون إلا اباً صحيحاً لمجمل همومه، وأمانيه، وهذه الأبوة تحتاج إلى الكثير من الرومانسية والصبر والتصوف الإبداعي والحب.. ولانها هكذا فالأبوات الجديرة بالتقدير إبداعياً وسلوكاً إنسانياً مبدعاً هي قليلة..
ولا يمكننا بأي شكل الفصل بين أي سلوك وآخر، بالنسبة للمبدع.. الكاتب أب لكل بوح وكل خوف وكل مطلع عشق او هجر.. ولعل محمد الماغوط كان، قبل أي أمر، اباً لعائلة ضخمة من الكوابيس والأحزان والبهجات.. وقد أقام بينه وبينها جسر تواصل، ومحبة، والتقاء، وبنى لها كل الممالك التي يمكن للمبدع أن يبنيها..
لا قرابات أكيدة لهذا الكاتب، المتربع على عرش احزانه المستبدة، الا قراباته الحميمية مع كوابيسه ذات الأمزجة المتقاربة، لانها من أب واحد، وشجرة خوف وحب واحدة..
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved