الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th October,2003 العدد : 32

الأثنين 17 ,شعبان 1424

وعشت في حياتهم
يحيى محمود بن جنيد
الناسك في محراب الكتب والمكتبات
عبد الله الماجد

ما من أحد تعرّف عليه إلا وأحبه وألفه. فهو من اولئك البشر الذين يفرضون أُلفتهم ومحبتهم، دونما عناء مصطنع، في طبعه تلقائية بدائع الحياة ومحاسن صنائعها. لقد ألف الناس وألفوه، وبهذا القدر ألف وأحب عمله، على قدر يفوق من صادفتهم في حياتي، عشقه لعمله يتسامى وعشقه للحياة. ومن يحب الحياة فهو يحب من عليها ممن يشكلون وهجها. يذكرك حينما تره منكباً على عمله، بأولئك الذين سمعت عنهمولم ترهم ممن صنعوا المعجزات، فآثرهم التاريخ وخلّد أعمالهم، حينما أراه في صومعة عمله وقد انقطع عما حوله في توحد عجيب، فإنما هو يعمل ما سوف يكون جسراً ممدوداً مع الحياة.
يذكرني برموز من أمثال «حاجي خليفة» و«ابن النديم» و«ابن أبي أُصيبيعة» و«ياقوت الحموي» و«ابن خلكاّن» و«الياس سركيس» و«عمر رضا كحالة» و«خير الدين الزركلي» وشيخه وشيخي «ابوعبدالرحمن بن عقيل».
لم يكن هذا «الرباط المقدس» في حياته، صنيعة تظاهرة، من ألوان «النفاق الاجتماعي» فما هو مُعلن من أمجاده، يتضاءل كثيراً مع ما خفي من تلك الأمجاد، التي لا يعرفها إلا القليل من المقربين منه، مما كانوا يتصيدون وقائع أعماله خلسة، فقد كان يتبرم ويأنف ان يعلن عما يعلمه»، إنه يشبه ذلك المزارع، الذي يحرث الارض، ثم يبذرها، ويسقيها، فإذا انبتت محصولاً يانعاً، نعم به الناس، دون ان يعرفوا من هو ذلك المزارع الذي أنتج هذه الأطايب من الرزق.
هذا «الناسك» الذي اتحدث عنه هو الدكتور «يحيى محمود بن جنيد» عشت في حياته زميلاً أثناء عملنا معاً في «جامعة الرياض» جامعة الملك سعود حالياً. كان يحيى رئيساً لقسم «التزويد» في عمادة شؤون المكتبات. والتزويد هو ما يعادل «التموين» في مؤسسات الأعمال الأخرى، أي أن القسم الذي كان يشرف عليه هو المسؤول عن «تموين» المكتبات في الجامعة بالكتب.
وحين اقتربت منه، عرفت أهمية عمل هذا القسم، فلقد كانت مسؤوليته متابعة ما يُنشر في العالم واختيار ما يتم تزويد المكتبات الجامعية به، وتلبية طلبات الكليات وأقسامها بالكتب التي تحتاج إليها. ولقد كان هذا العمل يتم وفق ما هو متاح من امكانات التواصل في ذلك الوقت، التي اختلفت الان بحكم تطور نقل المعلومات، في ذلك الوقت لجز ال« سن اسلوب طموح في عملية التزويد مستفيداً من الامكانات المالية التي كانت متوافرة في بند تزويد المكتبات بالكتب والدوريات «المجلات». هذا الاسلوب هو التزويد المستمر بكل المنشورات الجديدة، التي تقع ضمن احتياج تخصصات كليات الجامعةمن الكتب الصادرة باللغة الانجليزية والكتب العربية، والمجلات العلمية. وهكذا أصبح لدى المكتبة المركزية بالجامعة، ومكتبات الكليات مجموعات متجددة من كل ما يصدر في العالم من الكتب والمجلات، مما اغنى مقتنيات هذه المكتبات. وبدون توفير هذه الخدمة المكتبية، لا يمكنللجامعة وأي جامعة ان تمضي في برامجها العلمية ومنها منح الدرجات العلمية الماجستير والدكتوراه، واتذكر ان الجامعة حينما بدأت تعد العدة لبدء برنامج منح هذه الدرجات العلمية. جاء الى الجامعة موفودون علميون أكاديميونمن جامعات أوروبية وامريكية. وكانت تقاريرهم تركز على أهمية ما تحتويه المكتبة المركزية للجامعة من كتب ومجلات علمية ومدى استيفائها «للاحاطة الجارية». وقد كانت هذه التقارير تقدر مستوى هذه الإجراءات التي تحظى بها المكتبة المركزية في الجامعة. وكانت هذه النتائج إحدى صنائعه.
حينما بدأ يحيى مشروعه للتحضير لدرجتي الماجستير والدكتوراه، كنت ألقاه على نحو مستمر، فقد جمعتنا أسباب عملنا مرة أخرى، هذه المرة في القاهرة، حيث كنت اتابع اعمال النشر في دار المريخ. وكان هو دارساً للدكتوراه، وكنت ارى يحيى ذلك الطالب المهموم الذي يشعر بعظم المهمة الملقاة على عاتقه، فأراه طالباً جاداً في البحث والتقصي والدراسة، يكتنفه الرعب، مع انه ذلك الباحث المكتمل المزود بخبراته العملية وحينما كنت التقي بأستاذه المشرف على رسالته الاستاذ الدكتور «عبدالستار الحلوجي» كان يقول لي: ان يحيى من الحالات الاستثنائية التي واجهتها أثناء اشرافي على العديد من الدراسين للدكتوراه، فقد كان يراه ذلك الدارس الجاد، والباحث المدقق، ومع ذلك فإنه نفسه يشعر كما لو كان يجلس للبحث والدراسة لأول مرة، مكرساً كل جهده لموضوع بحثه، وكان لا يأبه أو يهتبل الإجازات، بل كان منتظماً دائماً.
ليست هذه المواقف في حياته، إلا جزءاً من مكونات هذه الشخصية، الدؤوبة، المخلصة لأي عمل تتكفل به، فحينما كُلف بالتجهيز لإنشاء «مكتبة الملك فهد الوطنية» انقطع الدكتور يحيى لهذا العمل، توحد معه نهاراً وليلاً مسافراً يبحث عن وسائل جمع مقتنيات المكتبة، وفق خطة وضعها لذلك. إذا ذُكر له مصدر لديه مجموعات من المقتنيات يسافر اليه ويقيم العلاقات الإنسانية مع مصادره، وكانت تلك أهم ملامح أدائه في عمله، فأصبح لديه متعهدون في كل مكان، في داخل البلاد وخارجها، جميعهم يؤمنون بأهمية مسؤوليته، ويتعاونون في التجاوب معه، وتلك احد أسرار النجاح الذي حققه، والتي ضنعها بخصوصية ادائه، وبما تنطوي عليه شخصيته، التي يتالف حولها كل من يتعامل معه، فاستوى ما حققه في تجهيز المكتبة امثولة لاعجاب الكثيرين من المتابعين، بل هو في نظري نوع من الاعجاز، لمن لديهم معرفة بأصول التجهيز لبناء المكتبات الوطنية. فالمكتبة ليست مقراً أو بناء يشيد، وانما المكتبة بما تحتوي عليه من مقتنيات، وبما تقوم عليه من أسس تشريعية في مجالها. وها هي مكتبة الملك فهد الوطنية، احد المنابر والمؤسسات الثقافية المهمة في بلادنا. وبعد ان اكتمل الكيان، فاجأ هذا «الفارس» الجميع، باعلانه ان يستريح، وان يتفرغ لعمله كأستاذ للمكتبات في جامعة الإمام محمد بن سعدو، بعد أكثر من عشر سنوات انقطع خلالها للعمل في المكتبة، وكنت لا تراه إلا في مكتب منزو عن أعين الناس، يعمل بدأب، وأحياناً تراه جاثياً على الأرض يقلب الكتب. وقد رفض ان يتقاضى أي مقابل مادي لقاء عمله في المكتبة، مكتفياً براتبه من جامعة الإمام محمد بن سعود وحينما خصص له مجلس أمناء المكتبة مكافأة، اشترى بها أدوات وأجهزة مكتبية وزعها على المكتبات العامة. ويقول صديقنا وصديقه وزميله الأستاذ «ابو يعرب» محمد القشعمي، إن المجلس حينما علم أنه لا يستفيد بهذه المكافأة، استفادة شخصية، قطعت منه بعد شهرين، وكان يرفض تخصيص أي مكافأة له عن عمله في المكتبة.
وحينما تبارى كثيرون من أصحاب القلم، في تحية هذا الرجال الاستثنائي، الذي أفنى جزءاً مهماً من حياته في عمل مهم، طالبه كثيرون بالاستمرار، لكن مثله كان يقول لهم لقد اكتمل البناء علي أُسس سوف تبقى إذا استمرت بنفس الروح التي بدأت بها. وكان كثيرون يظنون ان هذا «المحارب» سوف يؤوب الى «جمعية المحاربين القدماء» ولكنه حالة استثنائية. وفي تقديري ان روحه المتوثبة للعمل والبناء سوف لن تهدأ. وكنت أرى أنه شعر بأن بناءه قد اكتمل، وان مثله سوف تبحث عنه اعمال تحتاج الى بناء واشادة، وهكذا فقد استجاب لرغبات القائمين على مركز الملك فيصل للأبحاث، بأن يتولى مسؤولية إعلاء بناء آخر، ومثل هذه الروح الدوبة لا تهدأ وتركن الى الدعة والاستكانة، وهكذا بدأت دورة أخرى من دوائر العمل الخلاق، في حياة هذا «الفارس» التي لا تعرف إلا العمل المستمر.
وفي دوامة هذا العمل المثقل بالمسؤوليات استطاع ان يختزل وقتاً لاشباع ذائقته الثقافية، وتفجير طاقاته في البحث، فأخرج للمكتبة العربية عدداً من الكتب المهمة، الجديدة في موضوعها، وكانت بداياته تعلن عن ذلك، حيث فاجأ اوساط المثقفين، بدراسته النادرة عن شخصية مجهولة لكثيرين من القراء، وهي شخصية البطل الشعبي «ابو محمد البطال» الذي ورد ذكره في السيرة لاشعبية «سيرة الأميرة ذات الهمة» ثم تتابعت أعماله، التي تتصف بالجدة والندرة في موضوعاتها، وكان احدث ما صدر منها كتابه عن «الحياة الثقافية في مكة المكرمة في القرن التاسع عشر الميلادي» وفي غمار هذه الاهتمامات والمسؤوليات تجده يتولى رئاسة تحرير مجلة «عالم الكتب» التي أصدرها مؤسسها الراحل «عبدالعزيز الرفاعي» سنة 1399. وهو الآن يتولى رئاسة تحرير مجلة «الفيصل».
ويترأس تحرير مجلة «عالم المخطوطات والنوادر» الفصلية التي صدرت عن مكتبة الملك عبدالعزيز عام 1416هـ. ومجلة «دراسات لغوية» التي صدرت عن دار الفيصل عام 1418هـ، ومجلة الفيصل العلمية عام 1424هـ.
ولم يكن ترشيحه لجائزة الملك فيصل العالمية، إلا اعترافاً بجهوده المتواصلة في خدمة الثقافة. واعترافاً بما أسداه من خدمات في مجال المكتبات، بما يمكن اعتباره أحد أعلام هذا المجال المؤسسين ، وقد نال هذه الجائزة مناصفة مع استاذه الدكتور «عبدالستار الحلوجي» في فرع «الدراسات والبحوث الإسلامية» عام 1418هـ/1998م وكان قبل ان يعلم بترشيحه للجائزة، كان قد رشح الدكتور الحلوجي للجائزة، وحينما علم بترشيحه للجائزة من جهات علمية أخرى رفض هذا الترشيح، مفضلاً أن لا يُرشح أمام استاذه الحلوجي لكن جهات علمية مضت في ترشيحه، وقد علمت من مصدري الخاص «ابو يعرب» ان الدكتور يحيى تبرع بقيمة الجائزة لمركز الاطفال المعوقين بالمدينة المنورة. فزي إجلال وإكبار وإيثار، هذا الذي تنطوي عليه هذه الشخصية، يُكرمه علمه، فيكرم «الإنسانية». ويؤثره من يراه آخرون جديداً بالإيثار، فيؤثر على نفسه.
وفي موقف غير مسبوق فيما اعتقد يرويه المقربون منه، ومنهم «راويتنا» «ابو يعرب» انه عدنما اختير «عضواً في مجلس الشورى» كان يرفض ان يتقاضى مقابلاً مالياً لحضوره جلسات المجلس، وقد تجمعت هذه المبالغ في صندوق المجلس، وحينما طالبه رئيس المجلس باستلام مخصصاته، تبرع بها، ثم طالب بأن يستقيل من المجلس مدفوعاً بقناعة شخصية انه لا يؤدي عملاً يستحق عليه مقابلاً، رفض طلبه حيث كان يشكل سابقة لا يستحب حدوثها، وكان هو الوحيد من الأعضاء الذي يحضر الجلسات بهيئة العادية بالثوب وبدون «بشت» ويجلس في المقاعد الخلفية. وكان هذا دأبه في حياته الوظيفية، فكان يندر أن تراه جالساً خلف مكتبه «الأنيق» الذي جهز له في مكتبة الملك فهد، بل انه لم يدخله كما يقول ابو يعرب تراه في مواقع العمل حاسر الرأس، او منزوياً في مكتب صغير في غرفة ضيقة منكباً على عمله.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved