الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th October,2003 العدد : 32

الأثنين 17 ,شعبان 1424

أتراهم هم الذين قتلوه؟!
عبدالسلام العجيلي

عرفت باتريك سيل صحفياً بريطانياً خبيراً بشؤون الشرق الأوسط، ومهتما بصورة خاصة بسورية بين البلاد العربية. سوريا التي عرفها حين قضى فيها سنين عديدة من سني صباه تعلم خلالها لغتنا العربية، وربطته بأهلها روابط معرفة وصداقة، كان آخرها زواجه من سيدة سوريا واسعة الثقافة، باحثة وكاتبة.
ألف باتريك سيل عن سوريا كتابه (الصراع على الشرق الأوسط) وأتبعه بكتاب (الأسد في الصراع على الشرق الأوسط). ولقيته في آخر مرة ففهمت منه أنه في سبيل تأليف كتابه الثالث عن سوريا. ويبدو أن تتابع الأزمات واشتدادها في بلادنا العربية قد أعاقه عن إصدار هذا الأخير، لقدتابع في كتاباته في الصحف المختلفة من إنكليزية وأمريكية وعربية، وفي أحاديثه الإذاعية والتلفزيونية، تطور هذه الأزمات وأدلى فيها بآرائه التي تحلل بموضوعية ونظر نافذ أسبابها، مبيناً أخطارها على الأقطار النازلة بها وعلى الدول التي تخلق هذه الأزمات حاسبة أنها تجني مما تخلقه المكاسب.
موضوعية باتريك سيل وصواب أحكامه وجرأته في الكشف والتعبير عن الحقائق حرية بأن تعرضه لنقمة الذين يفضح أكاذيبهم ويشهر بأخطائهم وجناياتهم، ولا سيما في أوساط الإعلام الغربي الموجه لتصرفات حكام الدول الغربية. ما يورده ويعدده عن جرائم إسرائيل وممارساتها في فلسطين وعلى الفلسطينيين يكفي لأن يصنفه الإعلام الغربي الذي يسيطر عليه الصهاينة في زمرة المعادين للسامية، وهو تصنيف يلحق بكل من يقول كلمة حق في ما ترتكبه إسرائيل من جرائم بربرية، وإذا كان هذا الكاتب الشريف والمنصف قد نجا حتى الآن من الاتهام العلني باللاسامية، فلعل ذلك راجع إلى طريقة عرضه لآرائه ولقوة حججه وصدق مراجعه، ولابتعاده عن أن يرجع جرائم إسرائيل إلى يهوديتها ومعتقدات الحكام فيها.
ما دعاني إلى إيراد ما أوردته هي قراءتي لآخر مقال كتبه باتريك سيل في المجلة الأمريكية (نيشن)، في عددها الصادر في الواحد والعشرين من تموز هذا العام. يتحدث باتريك سيل في مقاله هذا عن كتاب لباحث أمريكي اسمه وارن باس، يؤرخ للصداقة الأمريكية الإسرائيلية، زاعماً أنها بدأت بصورة عملية بمبادرة من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جون كيندي، وفي عام 1960. باتريك سيل في مقاله يكذّب هذا الزعم ويقول: إن تلك الصداقة إنما بدأت في الواقع في زمن ولاية ليندون جونسن للرئاسة الأمريكية، حين تسلمها بعد مقتل جون كينيدي.
في تكذيبه لمزاعم وارن باس يجد باتريك سيل المجال واسعاً لبيان تأثيراليهود، أفراداً وجماعات ومؤسسات، على السياسة الأمريكية وعلى حكام أمريكا في كل ما يتعلق بالشرق الأوسط، وعلى الدعم الأمريكي الكامل والمتواصل لإسرائيل في ممارساتها العدوانية وغير الإنسانية. يبين كل هذا من دون أن يشير صراحة إلى يهودية أولئك الأفراد وتلك الجماعات والمؤسسات. علينا نحن قراءة أن ندرك ما لم يصرح هو به، فنعرف أنه لولا يهودية بطانة الرؤساء الأمريكيين، من لندون جونسون في أوائل الستينيات حتى بوش الابن في أيامنا هذه، لما وصلت صلة الصداقة والدعم بين إسرائيل وأمريكا إلى هذه الدرجة التي انتهت اليوم إلى حرب العراق وتتهيأ لتمتد إلى حروب محتملة أخرى.
في التمهيد لحرب العراق وتنفيذها يسمى باتريك سيل الشخصيات التي أصبح يطلق عليها لقب «النيوكون» أي المحافظين الجدد، وهم أعضاء الهيئات والمؤسسات المسيطرة على البيت الأبيض والبنتاغون، بأسمائها. يسمى إبرام شولسكي وبول ولفوليتز ودوغلاس فيت وريشارد بيرل، وسواهم، وكلهم يهود، ومن الجناح الأيمن المتشدد، ممن يخدمون إسرائيل قبل خدمتهم لبلدهم الأمريكي، من خلال نفوذهم القوي ومناصبهم الحساسة والفعالة. إنهم هم الذين ساقوا بوش، ووراءه الجرو المطيع بلير، إلى هذه الحرب التي تحججوا لها بحجج كاذبة وأوهى من خيوط العنكبوت، وفي هذا المجال يروي باتريك سيل كيف أطلقت بعض الصحف الإنكليزية، وأولها (الإيكونوميست)، على بلير اسم (بليار). وهي تعني بالإنكليزية (ب الكذاب)!...
إنها لجرأة بالغة وإنه لالتزام شديد بالتعبير عن الحقائق ما يكتبه باتريك سيل بوضوح في مقاله هذا في مجلة (نيشن). لقد دفعه هذا وتلك إلى رواية أمور أسدلت عليها ستور النسيان، أو الإهمال والإغفال، في معرض رده على مزاعم وارن باس حول بداية الدعم الأمريكي الفعلي لإسرائيل بمبادرةمن الرئيس كينيدي. هذه الأمور المنسية أو المغفلة والمهملة التي أعادها باتريك سيل إلى الأذهان هي التي لفتت انتباهي بما توحيه من أفكار لم يصرح بها باتريك سيل نفسه. إلا أن القارئ الحصيف لابد من أن يتساءل عما وراء هذه الأفكار من حقائق تتعلق بمصرع جون كيندي. ذلك المصرع الذي لم تتضح حتى الآن أسبابه ودوافعه كل الوضوح. والتساؤل عن الحقائق التي أعنيها هو ما دعاني إلى أن أعَنْوِنَ مقالي هذا بجملة: أتراهم هم الذين قتلوه؟!
يدّعي وارن باس في كتابه أنه في اليوم التاسع عشر من شهر آب من عام 1962 قابل المدعو مايك فيلد مان، وهو موظف كبير في البيت الأبيض ووسيط لا يكل بين كينيدي ويهود أمريكا، قابل هذا الرجل في تل أبيب دافيد بن غوريون وغولداماير وأعلمهما بأن الرئيس كنيدي قرر أخيراً أن يسمح لإسرائيل باقتناء صواريخ هوك. في ذلك اليوم المعين بدأت الصداقة والدعم الفعليين بين أمريكا وإسرائيل على ما يزعم باس. غير أن باتيرك سيل ينفي هذا نفياً قاطعاً ويقول: إن الأمر كان بالعكس. فبينما كانت إسرائيل تطالب بإلحاح بالسماح لها باقتناء تلك الصواريخ كان الرئيس كينيدي يمانع في ذلك ويتمسك بقرار، كان الرئيس إيزنهاور قد اتخذه قبل عامين، بعدم السماح لإسرائيل بالتسلح الثقيل. الصحيح، على ما يؤكده باتريك سيل، أن السماح لإسرائيل بالتسلح بصواريخ هوك جرى بعد مقتل الرئيس كينيدي، حين تولى ليندون جونسون رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
والأخطر من هذا بين ادعاءات باس التي كذبها باتريك سيل هو ما زعمه الأول من أن كنيدي غض النظرعن التفتيش الأمريكي لمشروع التسلح النووي الذي كانت تعمل لتنفيذه بإقامة مفاعل ديمونا في صحراء النقب. العكس هو الواقع كما يروي باتريك سيل. كان كينيدي وفريق العمل المحيط به، باستثناء مايك فيلدمان وأصدقائه، غير راغبين بالتعاون العسكري مع إسرائيل، كينيدي نفسه لم يكن مقتنعاً بمبالغات بن غوريون عن مدى قوة عبدالناصر ونواياه العدوانية، وقد أفهم بن غوريون بحزم أنه لن يكون الرئيس الذي يدخل الشرق الأوسط في عصر الصواريخ وحمولتها من السلاح الذري.
وفي قضية مفاعل ديمونا وسعي إسرائيل صنع قنابل ذرية كان موقف كينيدي، على ما يورده باتريك سيل، معارضاً كل المعارضة لذلك السعي. بل إنه أنذربن غوريون في خطاب مؤرخ في الثاني عشر من شهر حزيران عام 1963، بأن مساعدة أمريكا لإسرائيل سوف تتضاءل إذا لم تسمح هذه بتفتيش منطقة ديمونا للتأكد من عدم وجود ما يشير إلى تنفيذ مشاريع تسلح نووي فيها. ولعله، كما يقول باتريك سيل، لم يقتل في الثاني والعشرين من شهر نوفمبر عام 1963 لكانت المواجهة الأمريكية لإسرائيل في هذه القضية واقعة بدون شك.
هذه الجملة الأخيرة التي تضمنها مقال باتريك سيل هي التي قلت عنها إنها توحي بما توحي من تساؤلات واستفهامات. لو لم يقتل جون ف. كينيدي في ذلك اليوم لكان التفتيش قد جرى في صحراء النقب على ديمونا ومفاعلها الذري، ولحرمت إسرائيل من إنتاجها قنبلتها، بل قنابلها النووية، المعلقة كسيف ديموقليس على رؤوسنا نحن العرب، بل على رؤوس أمم العالم كلها.
لو لم يقتل. ولكن جون كيندي قتل!
الذي قتل جون كيندي هو لي هارفي أوزوالد. وبينما كان هذا القاتل في طريقه إلى المحكمة التي تستجوبه عن دوافعه إلى ارتكاب جريمته، قتله قاتل آخر اسمه جاك روبي ليستجوب، ولكن الموت عاجله في السجن، بسرطان قيل: إنه قضى عليه بسرعة، وقبل أن يخضع للتحقيق!... جاك روبي هذا، يتحدث في آخر رسائله في سجنه إلى أخيه المسمى إيرل، ويقول له: عليك أن تنقذ إسرائيل وأن تفعل كذا وكذا لهذا الإنقاذ! الأخ وأخوه يهوديان وهما يتحدثان عن إنقاذ إسرائيل في آخر مراحل حياة المسجون منهما...
كتبت آلاف الصفحات عن جريمة مقتل الرئيس كينيدي وعن متاهة الجرائم التي تبعتها. إلا أن الحقيقة لم تتضح لأحد بكل أبعادها، ما نحن على ثقة منه هو أن مقتل كينيدي، كما يروي باتريك سيل، حال دون أن يقوم المفتشون الأمريكيون بزيارة مفاعل ديمونا، ودون أن تحول تلك الزيارة بين إسرائيل وبين تسلحها النووي، لقد كان بن غوريون وخلفه إشكول وحكام إسرائيل الآخرون يحرقون الإرم غيظاً على كندي في إصراره على تفتيش مفاعلهم. وحين قتل شفي ذلك الغيظ وبلغوا ما كانوا يرمون بلوغه.. أتراهم، لذلك، هم الذين قتلوه؟!
لم يقل باتريك سيل هذا، وإن أوحت به جملته الأخيرة. لعلي، لو جمعتني به الظروف في يوم مقبل، سأمسك بيده وأهمس في أذنه قائلا: على هونك ياعزيزي مستر سيل... الذين محوا رئيس أقوى بلدان العالم من الوجود لن يعجزهم محو من يقف في طريقهم الإجرامي بهذه الصورة أو بتلك...على هونك إذن يا مستر سيل!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved