الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th November,2006 العدد : 176

الأثنين 22 ,شوال 1427

قراءة وتأمّلات ..في أدب النعمي
د. محمد حبيبي

لعل القيمة الكبرى التي يمكن استنتاجها من تجربة الشاعر القدير علي بن أحمد النعمي الصحفية، أنه قدم أنموذجاً مثالياً، لإسهام الأديب في دفع الحراك الأدبي الصحفي حول المجتمع وقضاياه، والأدب والثقافة وهمومهما، في فترة مبكرة كان المجتمع السعودي بعامة، والوسط الثقافي الأدبي السعودي بخاصة، بحاجة إلى كل جهد يصب في الصالح العام لهذين الوسطين.
وإلى هذه القيمة الكبرى فثمة قيم أخرى فرعية تجسدت من تلك القيمة الأم تتمثل في التعريف بشخصية وثقافة، وتنوع مواهب الشاعر الشاب الناشئ القادم إلى مركز الثقافة، من أحد الأطراف البعيدة عن الأضواء والتوهج الإعلامي. إلى جانب التعريف بإقليمه الذي قدم منه، من خلال طرحه الإجمالي الكتابي، بشقيه الإبداعي، والصحفي الإعلامي، وحمله لقضايا مجتمعية، مجتمعه الأكبر السعودي، وإقليمه الأصغر منطقة جازان .
طوف الشاعر الكبير علي النعمي، أثناء عمله في الصحافة السعودية في عقد التسعينيات الهجرية، في آفاق موضوعات شتى بكتاباته الصحفية.
غير أن المقالة الأدبية تعد أكثر المقالات حضوراً في تجربة النعمي الصحفية، لما لها من مساس بجوهر موهبته الأساسية. وحين نتعقب القضايا الأدبية التي اهتم بها النعمي في كتاباته، نجد أن موضوع (الأدبية) وموضوع النقد الأدبي أكثر الموضوعات طرقاً في مقالاته النعمي الأدبية، وعلى نحو أكثر تركيزاً يعد محورا: (ضعف مستوى الأدبية)، و(غياب النقد عن مواكبة الأعمال الأدبية)، الهاجس الرئيس، والقاسم المشترك في معظم مقالات النعمي الأدبية. ذلك إلى جانب قضايا الأدبية الأخرى.
وليس غريباً أن تخرج بعض مقالات النعمي فيما يشبه المرثيات الساخرة من الحالة التي وصل إليها النقد في تلك المرحلة (بداية التسعينيات الهجرية). حيث لم يتردد النعمي في وصف النقد باللعبة أحياناً، والميت المشيع إلى مثواه الأخير. وذلك في تناص طريف وسابق بأربعين سنة مع بعض النقاد الذين أعلنوا موت النقد الأدبي مؤخرا.. إلى جانب محاولاته طرح قضايا نقدية، كان من المفترض أن يضطلع بها النقاد.
والأمر اللافت جداً للنظر، أن مقالات النعمي في مجموع مقولها. تبقى ،برغم مرور وقت طويل على كتابتها، مفتوحة التأويل، وقابلة لأن يأخذ منها كل طرف من الأطراف المختلفة، في اتجاهاتها الأدبية، بغيته. بما في ذلك أنصار تيار التجديد، وأنصار التيار المحافظ .
والمثير في رؤى مقالات النعمي الأدبية، أنها مازالت صالحة لإعادة النشر، والإفادة من مضامينها في وقتنا الحاضر، وذلك نظرا لما تميزت به طروحاتها من نظرة استشرافية مبكرة ورؤى مستقبلية، للكثير من القضايا التي ما زالت عالقة النقاش إلى وقتنا الحاضر.
وعندما نتوقف عند موضوع الورقة الأساس (القضايا الأدبية والنقدية ذات الرؤى المستقبلية في مقالات النعمي ) نجد أن (مفهوم الأدبية) التي كان يقصد بها النعمي جدية الأدب وجدته ظلت محورا يؤرق النعمي، في معظم كتاباته. وكان أكثر ما يؤرقه عدم العمق في التجارب الكتابية، والقرائية، وكثرة الدخلاء على عوالم الأدب، والمتطفلين على مائدته، وكثرة المطبلين لهؤلاء الدخلاء غير الأصلاء، وغير الحقيقيين في مواهبهم؛ إذ إن المحصلة النهائية لانخراط هذه الفئة في الوسط الأدبي واقتحامها له، تسبُّبها في ضعف مستوى الأدبية.
ولم يكن النعمي مهادناً أو متنازلاً في هذه النقطة، بل عبر عن موقف جريء للغاية، وصل به إلى قوله: (قلت ولا زلت أقول بعدم وجود أدب حي لدينا، أدب منفتح على عوالم أخرى.. عوالم رحبة وواسعة، وقلت بعدم وجود أدباء أصلاء في أدبهم ونتاجهم، وفي جميع مناحيهم الفكرية.. وانتبهوا فأنا أقصد أصلاء... وما أشد ندرة الأدب الأصيل عندنا... (و) إنه لمن المؤلم أن نرى مستوى أدبنا الضعيف، ثم نسكت ونصمت، دون أن نوجد الحلول الكفيلة بنفخ روح الحياة فيه، بانتشاله من الوهدة التي تردى فيها... (إلى أن يقول بآخر المقالة) وأخيراً فما أحوج أدب هذه البلاد إلى ناقد بصير كشيخ أدباء لبنان الراحل (مارون عبود)) .
ولا يكتفي النعمي بموقف المنتقد المتفرج، الذي لا يقدم الحلول والمقترحات، أو الذي لا يشخّص أسباب الضعف. فمن أسباب الضعف ما تحدث عنه في مقالات أخرى عن أهمية القراءة، وكونها جذوة العبقرية، وعمادها الأساسي، مستشهداً في إحداها بعبقرية الجاحظ التي لم تكن لتوجد لولا نهمه القرائي، وحبه الفريد للاطلاع، مبيناً أن مشكلة الأدباء المعاصرين مع القراءة ،وهو أحدهم، تكمن في إشكالين:
أولهما عدم المواكبة المحيطة بكل جديد وقديم تقذف به المطابع، وثانيهما: أن القراءة إن حدثت فهي تكون من النوع السطحي السريع، ذي الغرض الاستعراضي، ولا تكون من النوع الاستبطاني المتمهل العميق للكتب. وتأتي مطالبته في واحدة من أطول مقالاته عنوانها (رابطة الأدباء ضرورة ) لتدعم مستوى الأدبية، ونواحي القوة التي ينشدها للمجتمع الأدبي، وتقلل من الفوارق الشاهقة بين طرفي الوسط الأدبي: المشهورين، الذين وصفهم (بالذين عموا وصموا شهرة)، والمغمورين من الموهوبين الحقيقيين، المطحونين في غمرة انشغال الوسط الأدبي بمن هم تحت دائرة ضوء الشهرة. ولما تمنحه ،هذه الرابطة، من فرص التلاقي، وجمع وتقريب وجهات النظر، وتعزيز فرص الاحتكاك وتبادل الخبرات، بدلاً من الارتهان لمزيد من الظهور ومزيد من الانغمار. والطريف في هذه المقالة التي تمنى النعمي في آخر سطورها ألا تبقى مجرد أمنية.. أنها لم تر النور لحد الآن ومازالت أمنية قيد الدراسة..
والمطالبة بالرابطة هذه لم تكن الرؤية الاستشرافية الوحيدة التي ما تزال قائمة، وإنما هناك قضايا أخرى ما زالت المواقف منها كما كانت إبان طرح النعمي لها، وهي القضايا الأدبية التي اهتم بها النعمي في مقالاته وكرر طرحها في أكثر من مرة.
ويأتي تناول النعمي لإشكالية (الأدب النسائي) ليدلل على ما تتميز به رؤاه من استشراف بعيد المدى.. عندما نجده أمثلة آرائه في قوله: (عجبت من تطرف بعض الكتاب، في الحكم على هذا الأدب، ونعته بالضعف والسطحية، وأنه خواء لا يقدم ولا يؤخر، بل لا يجدي فتيلاً... (إلى أن يقول) مسكين هذا الأدب النسائي، تلعب به الآراء وتتحكم فيه الأضواء، وهو ما يزال، بين جور ونكران، واعتراف على (خجل واستحياء). فمتى يأتي الوقت الذي يعترف فيه كل الأدباء بهذا الأدب وينصفوه، بدلاً تملص بعضهم من الاعتراف به).والمتأمل في قضية الأدب النسائي يمكنه أن يعد ذلك الطرح من الكتابات التي قدمت نظرة تقديرية لأدب المرأة منذ فترة مبكرة، لم يكن بالسهل حينها طرحها بهذه النظرة الواضحة في الدعم والتأييد. خاصة إذا استرجعنا، ما عرف به المجتمع آنذاك من تحفظ شديد وحساسية مفرطة، إزاء كل ما له علاقة بقضايا المرأة؛ ونظراً لما نعايشه ونلمسه، من اندثار كثير من المواهب النسائية، بسبب المتبقي من بعض العادات والتقاليد الاجتماعية التي مازالت تتحفظ على كتابة المرأة، وممارستها الإبداع باسمها الصريح الكامل.
ويعد (الشعر الحر) تارة وأدب الشيوخ والشباب، من القضايا التي توقف النعمي عندها كثيراً.. فقد كان ممثلا لصوت الشباب، ومدافعا عن الشعر الحر. يؤكد ذلك ما ذكره من تفنيد حجج خصومه ومعارضيه، بأنه (أي الشعر الحر) أقدر على مواكبة العصر، وأنه يمنح الشاعر مقادير حرية أكبر، في التعامل مع الوزن والقافية. وهو الكلام الذي لم يتركه النعمي مجرد طرحٍ نظري، بل شفعه بتجربة شعرية كاملة تحت هذا الشكل الشعري تمثلت في ديوانه آنذاك(كولومبيا/ أبللو ورحلة البراق)، الذي ما يزال مخطوطاً، حتى اللحظة، لأنه كان مفقوداً ،طيلة ثلاثين عاما، ثم أتبع التجربة بديوان من آخر دواوينه هو: (لعيني لؤلؤة الخليج)، ومن الشكل نفسه (الشعر الحر) جاءت آخر قصائده المنشورة مؤخراً (صرخة الشهـادة). ولا تتعارض رؤية النعمي هنا لأدب المرأة، ولا للشعر الحر مع شروطه السابقة لمستوى الأدبية التي كانت قضيته الأساسية.
فالأدب النسائي، الذي كان ناشئاً آنذاك، شأنه شأن الشعر الحر، كانا عنصرين جديدين من شأنهما إثراء المحصلة الإجمالية للأدب السعودي، فمنظورات المرأة الأدبية مختلفة بطبيعة الحال، عن منظورات الرجل. كما أن الشكل الشعري الجديد، يمثل نَفَسَاً جديداً في تجربة الشعر السعودي، وهو الشكل الذي تنامى، وأضاف .
ومما يمكن استنتاجه من مقالات النعمي الأدبية ثقافته، وقراءاته في تلك المرحلة، التي كانت على تواصل مع الأدب العربي، بمدارسه الأدبية والنقدية الحديثة آنذاك. إلى جانب اطلاعه على الأدب العربي القديم.
فقد كان على اطلاع بالأدب المهجري، ومتابعا للأدب في الأقطار العربية التي تميزت بتوهج نهضاتها الأدبية، ولا سيما لبنان، ومصر. يدل على ذلك إشاراته الكثيرة لأعلام الأدب العربي المعاصر آنذاك في ثنايا مقالاته.
أما الأدب السعودي، فقد كان يجاري بقلمه وكتاباته، كبار رواده آنذاك أمثال الشاعر حسين سرحان، والعطار، والعواد، وعبد القدوس الأنصاري، حيث كان يتطرق لكثير من آراء أولئك الأعلام وغيرهم بالمناقشة، متفقاً مع بعضها حيناً، ومختلفاً مع بعضها الآخر، أو مضيفاً إليها في حين آخر. كما لم يكن متجاهلاً لآراء مجاييله من الأدباء الشبان آنذاك، أمثال، محمد الشدي، وعبد الله نور ومن تلاهم من الشعراء والأدباء الصاعدين آنذاك، كالشاعر سعد الحميدين وغيره.
وختاما، فإنه لو تسنى النظر في الإرشيف الكامل لكتابة شاعرنا الصحفية، فإنني أجزم أن الباحثين سيخرجون منها، بما لا يقل عن مادة لأطروحة علمية، أو أكثر.. كما أن نتيجة البحث في مثل هذا الإرث الكتابي، لدى شاعرنا وغيره من أقرانه وسابقيه، من شأنه أن يسلط الضوء على حقيقة الحراك الأدبي، وتاريخ أدبنا السعودي الحقيقي في فترة مهمة من مراحل نشوئه، وتكونه، وهو ما تسعى إليه أحدث مقولات مناهج تأريخ الأدب، باعتبار مثل تلك الكتابات نابعة من داخل الوسط المفعم بحيوية الحركة الأدبية، وضجيجها الصاخب آنذاك ..
التسامي لمن أراد التسامي
مطرٌ وردة وعود بشامِِ
***
كمن كان في إغماءة شعرية طويلة، صحا بعدها على وقع الحقيقة الجارحة، والحياة الواقعية المرة.، التي اكتشف أنها ليست عابئة، لا بمردود الاحتراف الشعري، ولا بجدوى الاحتراق الإبداعي.
صرخ الشاعر السبعيني عقب، خمسة وخمسين عاماً، في رحاب الشعر، غناء للأرض والإنسان؛ عقب هذا العمر الإبداعي مناجياً الحرف:
(فأفق يا قلب فالحرف الذي أعطيته
عمري
وأحلامي
وأحلى صبواتي
وتغنيت به
للأرض والإنسانِ
مزهّوا بأشجى النغماتِ
وأرقّ الهمساتِ
لم يعد يعلم عني
بعد أن أعلنت الأهواء
ذات النظرة الجوفا كسادَهْ
وأفق ثم أفق يا قلب
فالحلم هوى والعمر شاخ...
وهل يدرك من قد جاوز السبعين
في معترك الأيام مجروحا
مرادَهْ)
حينما تنطلق صرخة الشعر هكذا، شجية ذابحة من العمق، ندرك حينها أي رصاصات يطلقها الشاعر. وأي خذلان اكتشفه، وكأنما يكتشف للتو، عقب ذلك العمر الشعري، أن تلك المسيرة مع الحرف كانت وهما.
وحينما لا يعود الشاعر يستشعر سوى (التغييب، والنكران، والإحباط والحزن والدمع)؛ فإن ذلك يوحي بألم الشاعر ضحية مفهوم: (الشعر صدى المجتمع)، قبل أن يكون صدى للذات.
كيف يحتمل هذا الكائن كل هذه العذابات:
(اعذروني بعد أن أسلمني
التغييب والنكران، والإحباط للحزن وللدمع
وغابت عن مساءات خيالاتي، وأطيافي
اللحون المستعادة)
وبعد أن استشعر في صورة غاية في تجسيد الخيبة من إنسان الزمن المتأخر:
(أتملّى في خطوط الطول والعرض
بألواحي
وشح القطر في شتى مناحينا
وما أقسى جفاف الأرض
كالأخلاق في الإنسان...)
إن هذه الصرخات لم تكن مناداة للقراء وإن كان كل مقطع يبتدئه الشاعر بعبارة:
(أعذروني أيها القراء)
إنها صرخاته لجلد ذاته بالحقيقة، التي كان يتهرب من مصادمة المجتمع بها، في رحلة طويلة من المداراة والمجاملة على حساب الذات. وضجره الذي لم يعد يحتمل شتات كتابته بين تيارين يقسمان نهره الشعري إلى جهتين: شعر يُستَكْتَبُ من النعمي رغماً عنه ضريبة لمطالب قراء مجتمعه، القريبين.
وشعر أعمق هو الذي يكتب النعميَّ، ويستخرج مكنوناته، رغما عن المجتمع، كلما خلا بذاته وصفا لها.
إن قصيدة (صرخة الشهادة) الأخيرة، تأتي في تصوري في هرم قصائد النعمي الذاتية الثرية بوجدانها، وعواطفها، وهي مرآة يفجر بها فهم قرائه لذاته الشعرية، التي تغيب كلما جره المجتمع، بمعيارية الشاعر الغيري الذي عليه دائما وأبدا أن يكون الانعكاس لمناسبات مجتمعه أولاً وثانياً وثالثاً. وما على هذا المجتمع أن يعبأ بذات الشاعر.
ظل علي النعمي يكتب تحت إلحاح وظيفة الشاعر في المجتمع، بأنفاس شعرية لا تجارى كماً، وحينما يقلب القارئ دواوينه الثمانية، يجد أن شعر المناسبات، شغل حيزا ليس بالبسيط، ويجد أنه الطريق الذي سلكه النعمي مضطرا، لكنه لم يستسلم له؛ فلطالما اخترق جاهزية منظوماتها بأبيات ذاتية، تعكس حس الشاعر الحقيقي بداخله، وجوهرية شعريته، عندما تنفلت بها الأبيات المعبرة عن عمقه فيما يشبه الشذرات الكاوية بحكمة الذات المجربة، التي استعصت على على الرضوخ لأسر قصيدة المناسبة. التي ليس نادرها ذلك البيت الذي تصدر هذه الورقة.
وخارج قصيدة المناسبة تفوح معظم أوراق دواوين الشاعر القدير علي النعمي الثمانية بذلك الشعر الذي تنبعث منه رائحة تعالق ذاته الخالصة بتراب الأرض وعطور نباتاتها، والتصاق أناسيها بحقولهم، وأغانيهم لها.
ما بين أشجار الأراكِ تناثرتْ
أحلامُ قلبي في الصباح الناعمِ
***
أيتها الزهرة بثّي الشذا
حولي، وحول الناس في كل آن
بثيهِ يحيا الحب.. تحيا الرؤى
تحيا انطلاقات الهوى والحنان
تصحو عيون الشوق من نومها
تخضلّ بالنور لحاظ الحسان
بثيه ترتاح النفوس التي
أرهقها عيش الأسى والهوان
***
يا حلوة العينين مرّي كما
بالأمس مثل النسمة الحالية
مرّي كما كنتِ، وكان الهوى
يخضلّ في وجنتكِ الزاهية
مرّي فبي شوقٌ لدفق الرؤى
وللنجاوَى العذبة الحالية
عيناك يا هيفاء ما زلتا
أشهى إلى قلبي من العافية
***
زرع مجتمع التلقي المباشر من حول النعمي تصور الشعراء القدامى عن بواعث الشعر الخفية، الجني/الشيطان الشعري الملهم، لذلك هنا قد رثاه، في رمزية لكل ما من شأنه سلْب تقدير ذاته الشعرية، فندب غيابه في هذه القصيدة. قائلا:
(لم يعد يا شعر (عطّاف) يوافيني، كما كان، بأنفاس الربا...)
وعطاف هو ما تخيله النعمي ملهما شعرياً لعدة عقود، ولم يعد يوافيه، ظناً منه أنه قد غاب منذ زمن. كما هو الحال في هذه القصيدة، التي لم يكتبها بمعايير (استجادة المجتمع لحسن تصوير المناسبة) والذي زرع احتفاءه الكبير بقصائده (عطافا) في ذهنية احتفائية؛ ليستهلك به جزءا من طاقته الشعرية في الضجيج القوي في وقتها، وغير الثري بفنيته. الأمر الذي يجعله لدى دارس شعره الباحث عن ثرائه الفني، لا يمثل سوى وثائق تاريخية، تتخللها شذرات شعرية متأثرة هنا وهناك. مقابل تلك الروائع التي صب فيها ذاته المتأنقة شعرياً، كلما أحست باحتراق، وشجن وطرب وحزن لموقف يعتصر ذاته من الداخل، فتبرز شعرية النعمي الحقيقية الخالدة. التي تمنحه بكل جدارة لقبه الأعمق المستحق (شاعر الأرض).
علي النعمي من الشعراء القلائل الذين حققوا مفهوم الاحتراف الشعري، ومن الشعراء الذين لم يكتبوا الشعر بوصفه (هواية) بوقت فراغ ما، وإنما بمفهوم من كرس حياته للشعر، قراءة، وكتابة.
ولذلك فهذه القصيدة (صرخة الشهادة) هي صرخة استشهاد لاحتراق الذات بمناسبات مجتمع اكتشف النعمي (أخيرا) مدى تنكره له، وخلوص وتركيز يلفت به النظر إلى شعره الذاتي. وليس أقل أهمية من هذه الصرخة الشعرية، صرخته الشعرية السابقة بقصيدة المطولة، التي كتب فيها سيرته الذاتية شعرياً، مختاراً لها اسما جميلا هو (طائر الشعر الجريح).
حتى على صعيد الشكل، فلئن اتخذت قصيدة صرخة الشكل التفعيلي، وجاءت قصيرة في نفسها الشعري قياسا بمطولاته، فإن قصيدة (الطائر الجريح) جاءت على بحر شعري ليس بالسهل في شعرنا المعاصر (بحر الطويل) وبقافية وروي صعبان للغاية، قافية رويها حرف (الواو) (أحوى، أهوى، نجوى) ومع ذلك جسد بها حياته فيما يربو على المائتي بيت، مما يشير ولو من حيث إلى مقدار ثراء شعرية النعمي كلما التصق شعره بذاته.
* أخيراً، هل يعلم قراء هذا الملحق بهذه الصحيفة، أن علي النعمي، أول شاعر سعودي يحقق ميدالية ذهبية بمشاركة شعرية خارجية، وأنه كان من رواد الصحافة بالمنطقة الوسطى في الثمانينيات، وأنه كان، في فترة ما، يخط مواد هذه الصحيفة (صحيفة الجزيرة)، بخط يديه، بجوار سعادة الأستاذ المالك؟
أي حرقة تكتنف الشاعر القدير الآن بسبعينيته، هذه المفارقة، ليست الوحيدة بحياة النعمي، ومسيرته الإبداعية والصحفية والاجتماعية. فمن آخر المفارقات أن آخر قصائده المنشورة هنا قبل شهرين، قصيدة سبق نشرها (بالجزيرة) قبل أكثر من (أربعين) عاما، حيث كتبها آنذاك في ممرضة، حينما كان راقدا بالمستشفى، ولما أعيد نشر القصيدة مؤخراً، كان أيضا راقدا بالمستشفى منذ شهر، ولم يجد من يجلب الصحيفة ليقرأها، ليطلق بعدها من بين جدران غرفته بالمستشفى قصيدته الأخيرة (صرخة الشهادة)، وأن آخر أمسية شعرية دعي لها، وكانت بمناسبة اليوم الوطني لهذا العام 1427هـ، لم يتمكن من حضورها، بجسده، لأنه كان يرقد بالمستشفى، لكنه فاجأ الحضور بصوته، باتصال، وكلام قاله عبر الهاتف بالأمسية، ونقل كلامه مباشرة عبر المايك، فأبكى الحضور، بحشرجة الكلمات في صدره، وانقطعت مكالمته على دوي تصفيق حار لم تشهد له القاعة مثيلا، لم يشأ الغياب عن يوم الوطن، لأنه صاحب ديوان (الوطن.. الحب الكبير).

الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved