الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th November,2006 العدد : 176

الأثنين 22 ,شوال 1427

النعمي.. ومتلازمة الإبداع والدموع
محمد بن علي النعمي*
لستُ أدري!! فيما إذا كان الحزن والألم.. أو الشعور بهما هو قدر المبدعين من الشعراء والأدباء، ليس هذا تساؤلاً أدبياً بقدر ما هو سؤال ينكسر في القلب كلما فتحت نافذة على مدارات أدبائنا الكبار وعوالمهم الخاصة المسكونة بحلم الإبداع ومرارة الألم، في تلازم يفطر القلب ويدمي المآخي ويستأثر بالتأمل، وما قصة الجميل الراحل عبدالله نور عنا ببعيد، فقد أهدانا الورد ثم رحل والشوك مغروس في قلبه!!
وشاعرنا الكبير الأستاذ علي بن أحمد النعمي هو الآخر عُرف بظرفه وروحه المرحة التي ينثرها على جلسائه ومسامريه في ساعات أنسه، وكذا على عواده حتى في أشد حالات مرضه، تلك الروح الرنانة التي ينثرها ملحاً بخفة الفراشات، وقفشات لها قفشة المطر، ونشوة النسائم، كأنما هو قنديل فرحٍ يثري بهاء المساءات التي تتشهاه حضوراً بقامة شاعر أصيل أدار ظهره للأبراج العاجية ليعيش مع الناس ولهم منصهراً في يومياتهم، وركضهم، وتعبهم، وعذاباتهم، فإذا هو وجدانهم الصادق، وصوتهم المسكون بالألم والأمل، واستطاع بعبقريته أن يلامس وجدانهم يوم أن غنى لهم، وللحياة وللأرض فيقول:
أنا منكم أرضكم أرضي ولي
خافقٌ في غيرها لم يهمِ
عشقها عشقُ روابيها احتوت
هاجسي واحتلَّ مني أعظمي
زرعها الأخضر نبعٌ وافقٌ
في شراييني وشهدٌ في فمي
هذا الانصهار والتماهي في النسيج الاجتماعي وفي الحياة اليومية ببساطتها وتلقائيتها، وتعقيداتها أحيانا أمَّن للشاعر مكانة عالية في قلوب الناس من حوله الفلاحين والرعاة والحرفيين والطلاب والمعلمين وأصحاب البقالات، فهو صديق الجميع يجلس إليهم ويبادلهم الحديث والبسمات، وكانت روحه المرحة تطفو كأوراق الورد على هذه الحميمية التي تجمعه بالناس أو تجمع الناس به، هكذا عرفه الناس شاعراً ملامساً لهمومهم وتطلعاتهم، ورجلاً بسيطاً مكتنزاً بالظرف والدعاية والمرح.
وحدهم أفراد أسرته وأصدقاؤه الخُلص يعلمون أن الشاعر الكبير يُخفي بين جنبيه وفي حنايا ضلوعه جراحاً لا يتوقف نزيفها، وألماً كظلمة الليل ومرارة يتجرعها ليل نهار، يأبى عليه كبرياؤه وعزة نفسه أن يلحظها الناس، لكنها كثيراً ما تندس بين ثنايا شعره أنيناً صامتاً، وبكاء بلا دموع يقول:
كلُ شيء يسير في العمر ضدي
بتحدّ فهل أطيق التحدي؟
لي في العيش قصة سوف أروي
كل فصلٍ في سفرها المتردي
خضتُ لجَّ الحياة وحدي فطاشت
خطواتي فيه.. وما زلتُ وحدي
إذاً هو شعر بالإحباط والوحدة، ورحلته المريرة في هذه الحياة وما زال يعيش الوحدة حتى بعد أن قارب السبعين!! وإذا كانت هذه المشاعر الحارقة المحبوسة في وجدان الشاعر التي ما تنفك تطل في شعره على استحياء، فإن أصدق حالات الشاعر التي تتجلى فيها حقيقته المسكونة بالألم والجراح عندما يعود مساءً إلى قريته الحرْجة، وكلما اقترب من بيته، من عزلته كان أقرب إلى حقيقته، حتى إذا استوى على فراشه المتواضع وأطفأ سراجه، انكبَّ على نفسه كومةً من الأحزان، والهموم والجراحات والمرض ليطلقها صرخة مدوية في آخر قصائده التي سماها (الصرخة الشهادة).
وافق ثم أفق يا قلب
فالحلم هوى
والعمرُ قد شاخ
وهل يُدرك
من قد جاوز السبعين
في معترك الأيام
محروقاً مُراده!!
لم يعد شيء نرجِّيه
إذا كنّا نُرجي بعد هذا العمر
من شيءٍ فما ثمّ
سوى الدمع سوى الدمع سوى الدمع
الذي نسكبه في آخر العمر
على صدر الوسادة
وهنا يسدل الستار على فصل جديد من متلازمة الإبداع والدموع التي أشرت إليها في بداية حديثي، وإني هنا لا أدعو لأن نبكي من أجل شاعرنا الكبير علي النعيمي، فهو ليس بحاجة إلى الدموع ولكنه بحاجة إلى الإنصاف، والاحتفاء والتقدير.
وقد بات رهن العجز والعوز المرض بعد رحلة ثرية بالعطار ثرة بالإبداع غذاها بزهر شبابه، وأندى أيام صباه وأفنى أيامه ولياليه يجمع الزهور والعطور والمطر ليضعها جميعاً في سلالنا ثم يمضي وعلى جبينه كبرياء شاعر وفوق هامته شموخ وطن، ورحلة عطاء صادق.


*عضو مجلس إدارة نادي جازان الأدبي

الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved