الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th November,2006 العدد : 176

الأثنين 22 ,شوال 1427

(النعمي شاعر الطين والإنسان)
عمرو العامري*
.. في بدايات مرحلة دراستي المتوسطة.. و عندما كانت الأرض متربة والفصل غابة من جريد انضم إلى كادر التدريس في مدرستنا البعيدة إلا عن قلوبنا(متوسطة ضمد) مدرس شاب قادم من العاصمة.. مدرس تسبقه سمعته كشاعر وصحافي وأكاديمي يحمل درجة الليسانس في اللغة العربية.
كان ذلك الأستاذ الشاب هو أستاذنا الشاعر والإنسان والمربي على بن أحمد النعمي. وكان (فوق كل ذلك) قريبا منا.. يشبهنا.. فقط كان يختلف عنا هو أننا كنا نربط (الحمير أعزكم الله) قريباً من المدرسة بينما هو يوقف (الموترسايكل) الخاص به الذي كان ينقله إلى قريته (حرجة ضمد) التي كان يطلق عليها أيضاً في قصائده (الحزام الأخضر) داخل حوش المدرسة.
وكنا مبهورين به في ذلك الوقت النائي من المكان والزمان واستحالة الأشياء. وكنا نحاول أيضاً أن نقلده.. كلنا كنا يحاول أن يكتب الشعر ولم يكن هناك سوى الشعر كجنس أدبي رائج ولم يكن هناك مكان للقصة أو المقالة.. فقط الشعر والشعر.. كما كنا ندرس حينها. وكنا نريه قصائدنا.. محاولاتنا.. خربشتنا.. وكان يبتسم.. يصحح للبعض.. ويضحك من سذاجة البعض ويجامل آخرين.
وعاش بيننا الأستاذ علي ردحا من الزمن شاعرا ومعلماً ومربياً ضمن مجموعة سنظل نحمل لهم الوفاء أنى أوغلت بنا المسافات قبل أن ينتقل إلى مدرسة (البديع والقرفي) كمدير لها، ثم أخذت بنا الأيام كل مأخذ وانداحت بنا السبل في أرض الله الواسعة وما عدت أنا اسمع عنه ومنه إلا من بعيد.
وكنت أتابع قصائده من غربتي الموزعة ثم دواوينه التي كان يهدي إلى بعضها كلما زرته في قريته.. ونادراً كنت أفعل. وتغيرت الحياة والناس.. وتغيرنا نحن.. لكن النعمي لم يتغير.. بقي كما هو.. منزله كما هو.. مجلسه كما هو .. (رزة شماغه) كما هي.. وبالطبع بساطته وحبه للناس والطين والحياة.
وحتى في شعره لم يتغير أيضاً.. وظل كما هو يغني للطين والأرض.. للزرع والحصاد.. للرعاة والبسطاء والمعدمين والحالمين. وكنا ننقد عليه (بين أنفسنا) انه بقي في حصانة مطلقة من التأثر بكل جديد في مجال القصيدة.. غير أننا نعود ونتذكر أننا نتحدث عن النعمي البسيط الحالم بزمن يأفل. وأكتب هذا المساء وأنا بعيد عن كتبي ومكتبتي فلا أستطيع أن أدلل بشيء من شعره وهذا من عقوق الذاكرة أيضاً. وكبرت الدنيا وبقي هو في قريته الصغيرة.. لم يبرحها إلا لماماً قانعا بحب الناس من حوله وبأشيائه البسيطة والقريبة من النفس. وانشغلت عنه المؤسسات الرسمية والمنابر الأدبية والجرائد التي كان يمنح حبر مطابعها ضوء عينه ورعشة أصابع يديه حتى الصباح وأدار لها أيضاً ظهره فلم يسع إليها وزهد فيها.
وتوزعنا نحن تلاميذه في كل مكان.. لكنه لم يتغير.. وبقي كما هو يفرح بكل من يتذكره بلمسة وفاء ويعاتب كل من ابتعد ويسامح الجاحدين.. كل الجاحدين.
أسماء كثيرة لا تمتلك نصف موهبته.. ولا نصف قامته ولا شيء من مروءته.. وصلت.. لأنها عرفت كيف تصل إلى منابع الضوء.. وكيف تقدم نفسها وكيف تسنمت مراكز ومواقع أدبية.. وبقي هو كما هو مفتونا وقانعا بما حوله.. داخل قريته الصغيرة.. (الحزام الأخضر).. حرجة ضمد. وظل يحمل عتابه لكل من زاره.. عتاب الإنسان الكريم الذي عرف ولمس الجحود من الناس والمؤسسات ومن الذين كان يوما ما تلاميذه ومريديه. لكنه لم يتغير.. لم يتغير.. وهنا تكمن عظمة الإنسان فيه. قد نختلف أو نتفق فنيا مع لونه وطابعه الشعري.. غير أننا وعندما نقرأه في زمنه محيطه.. عندما نقرأ النعمي في ذلك الزمن الماحل ثقافيا لا يمكننا إلا نحتفي بتجربته الشعرية.. ولا نملك إلا أن نضعه حيث يستحق في موقع الريادة.. ولا يمكننا إلا أن ندعو الآخرين أيضاً إلى قراءته من جديد. لقد قدم النعمي لمنطقته الكثير.. خلد ورصد ووثق أجواء كثيرة من طقوس القرية.. القرية التي تختفي الآن دون شهادة أو تحية وداع.
ولكن ماذا قدمت له المنطقة؟؟ نادي جيزان.. ؟ تلاميذه وهم كثر..؟ كلنا (وأنا أولهم) يجب أن نتوارى خجلاً من هذا العقوق.. وهذا الركض خلف السراب.
سيدي لك أرفع قبتي.. وأحييك رغم البعاد.


* القمري

الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved