الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 13th November,2006 العدد : 176

الأثنين 22 ,شوال 1427

الولد الأسود
مريم خليل الضاني
خمسة أصدقاء صغار يلعبون في ساحة الحرم النبوي الشريف، بعد صلاة عصر يوم الجمعة يتسابقون ويضحكون وينادون الحمام السابح في الفضاء بين المآذن والقباب الخضراء.
ينثرون الحب على أرض الساحة الرخامية الباردة فيهبط الحمام ليتلقط الحب. أحد الصغار كان أسود اللون، يبدو كالشامة بينهم، مسك حمامة بيديه الصغيرتين، شم رائحتها، وداعب رأسها بأنفه فتململت الحمامة، رفع الولد ذراعيه وأطلق الحمامة فحلقت صوب سرب حمام هبط فوق إحدى المآذن.
نادى أحد الصغار بقية رفاقه بصوت عال قائلاً: تعالوا.. تعالوا.. سنلعب لعبة جديدة.. تعالوا بسرعة، سأشرحها لكم، تحلق رفاقه حوله.. التحمت أجسادهم ورؤوسهم حتى بدوا كحلقة مستديرة اقترب منهم رجل عجوز عابس الوجه يدل مظهره على اليسار، يتكئ على عصا سوداء ذات مقبض ذهبي اللون موشى ببعض الأحجار الكريمة، تأملهم العجوز بعيني صقر ثم نادى بصوت غليظ: هيه يا أولاد.. يا أولاد.
رفع الصغار رؤوسهم وتأملوه بفضول، رفع العجوز عصاه وصوبها باتجاه الولد الأسود ثم تساءل وقد ازداد وجهه عبوساً:
كيف تلعبون مع ولد أسود؟ إن السود لا خير فيهم.
تعجب الصغار منه وتبادلوا نظرات استهجان لكلامه إلا أن أحداً منهم لم يتكلم.
تأملوا وجه رفيقهم الأسود، كان يزدرد ريقه بصعوبة. دنا العجوز من الولد حتى كادت عصاه أن تلامس أنف الولد ثم قال:
ألا تعلمون أن السود لا يدخلون الجنة؟!
اغتاظ الصغار من العجوز فانصرفوا عنه وهم يسبونه ويرمونه بالسفه والجنون.
تحلقوا حول رفيقهم وقرروا أن يلعبوا بعيداً عن هذا المكان، جذبوه بقوة كي يركض معهم إلا أنه كان يجر قدميه بصعوبة وجسده يرتجف بقرة. حاول جاهداً أن يختفى عن أنظارهم دون أن ينتهبوا إليه. حشر جسمه النحيل بين جموع المنصرفين من الحرم ومشى حتى وصل إلى البوابة التي يخرج منها أبوه بعد انتهاء الصلاة.
جلس على عتبة البوابة ينتظر أباه، تتردد في ذهنه كلمات العجوز:
إن السود لا يدخلون الجنة.
اجتاحته رغبة قوية في البكاء وإحساس آسر بالغربة.
في تلك الأثناء خرج إمام الحرم مع رفاقه من تلك البوابة فوقف الولد على أطراف أصابعه لكي يرى وجه الإمام، ولكنه لم يتمكن من ذلك بسبب الزحام الشديد، مشى مسرعاً خلف موكب الإمام ينسل من بين الرجال ليقترب من الإمام إلا أنه كلما اقترب منه حال بينه وبين الإمام بعض المنصرفين من الصلاة الذين يسيرون في اتجاهات مختلفة.
بدأ قلبه يخفق بقوة، ترتعش في صدره صرخة دامية، يجاهد ليخرج صوته المختنق.. أحس أنه يركض وحيداً في ممرات سجن كبير، ينادي بلا صوت.. كلماته تتردد في فضاء الحرم لكن أحداً لا يسمعها:
يا شيخ.. يا شيخ.. أرجوك توقف، انتظرني، أريد أن أقول لك شيئاً، أرجوك التفت إلى الوراء، أنا قريب منك جداً.. يا شيخ يا شيخ.
حين عجز أن يخرج صوته من صدره تساقطت دموعه غزيرة.
ابتعد موكب الإمام عن الحرم حتى وصل إلى سيارة الإمام.. فجأة وجد الولد نفسه محاذياً للإمام ممسكاً ذيل عباءته بكلتا يديه، كان يلهث ويشعر بعطش شديد، حاول أن يتكلم فخرج صوته ضعيفاً مرتجفاً:
يا شيخ أرجوك.. توقف.. أريد أن أسألك.
انتبه الإمام إلى الولد ورثى لحالته فابتسم له فاطمأنت نفس الولد.
سأله الإمام: ماذا تريد يا ولدي؟
هدأ الولد قليلاً واسترد أنفاسه، حاول أن يستجمع قواه رغم جفاف حلقه والرهبة التي غمرته حين رأى وجه الإمام ثم سأله:
هل صحيح يا شيخ أن السود لا يدخلون الجنة؟
أطرق الشيخ هنيهة، دنا من الولد وربت على رأسه وسأله: من قال لك ذلك؟
قال الولد: رجل عجوز خرج من الحرم قبل قليل.
ابتسم الشيخ ابتسامة جميلة مشرقة أضاءت نفس الولد ثم هبت نسمات ربيعية عليلة حملت معها شذا طيب المسك من ثنايا ثياب الإمام فانتشي الولد حينئذ، قال الإمام:
يا ولدي لا تصدقه، الصالحون هم الذين يدخلون الجنة، سوداً كانوا أم بيضاً، الذين يطيعون الله ورسوله وإذا وقعوا في معصية سارعوا إلى التوبة والاستغفار، الذين لا يؤذون أحداً من الناس، هؤلاء هم الذين يدخلون الجنة. الله لا ينظر إلى أجسامنا ولون أبشارنا ولكنه ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا إن شاء الله أنا وأنت ندخل الجنة، ولكن هل تعلم من سنجد قبلنا هناك؟.
من يا شيخ؟
بلال رضي الله عنه مؤذن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان أسود اللون، قال له النبي ذات مرة: (إني سمعت (قرع) نعليك بين يدي في الجنة) ذلك أن بلالاً لم يتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صلى بذلك الطهور ما كتب له أن يصلي.
وأسامة أبن زيد (حبّ) رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسود اللون، وأم أيمن (بركة) الحبشية مربية الرسول كانت سوداء اللون. هؤلاء يا بني من أقرب الناس إلى المصطفى، كانوا سوداً.
مد الشيخ يده ليصافح الولد فلم يصدق الولد عينيه، مد يده المرتعشة فشد الإمام يده على أصابع الولد وقال: الله يدخلنا الجنة ويجيرنا من النار، قل آمين.
قال الولد: آمين.. آمين.
انصرف الإمام وركب سيارته بينما الولد ينظر إلى يده التي صافحت يد الإمام، فوجئ الولد برفاقه يحيطون به ويعاتبونه لأنه جعلهم يبحثون عنه في الساحة وقتاً طويلاً حتى وجدوه.
أمسك أحدهم بيده وركضا سوياً، إلا أن الولد الأسود لاحظ للمرة الأولى أن لا شيء يشبهه في تلك الساحة سوى حمام الحرم ذي اللون الرمادي الداكن.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved