الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th December,2004 العدد : 87

الأثنين 1 ,ذو القعدة 1425

مساقات
نَقْدُ القيَم مقارباتٌ تخطيطية لمنهاج علميّ جديد «5»
د. عبد الله الفَيْفي
إن القيمة هي مبدأ سلوكي، تمليه الرقابة الذاتية والاجتماعية، لا تسنه القوانين ولا تحاسب عليه، ومن هنا فإنه يختلف عن المعيار القانوني. ولا خلاف على ذلك. ومع ذلك، فلَكَم تجني (الترجمةُ) على الرؤية وإن كانت في أصلها صائبة؟! فمن هذا مثلاً ما نقلته (موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية،) 1: 72 75، (الرياض: دار رواح، 1421هـ= 2000م) من تحليل لعلاقة القِيَم بالمعايير، وذِكْرٍ لما انتهى إليه بعض الباحثين من فوارق بين (القيمة) و(المعيار)، من غير التفات إلى أن تلك النقول تنتمي إلى ثقافات تعتمد على القوانين المدنيّة. حيث تنشأ في تلك الثقافات درجةٌ من التمايز بين المعيار القانونيّ والقِيَم الاجتماعية، فيبرز بين المعيار والقيمة فارق الإلزام والعقوبة في المعيار والتساهل المباح في دائرة القِيَم. أمّا في الثقافة العربية فلا يبدو هذا التفريق قائماً في كل الأحوال، ولا حتى في معظم الأحوال؛ من حيث إن القانون المدنيّ، إنْ وُجد، إنما هو قائمٌ على القِيَم أساساً. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، لأن للقِيَم في المجتمع العربي قوانينها الاجتماعية الإلزامية، التي قد يترتّب عليها عقوبات معنويّة أو ماديّة. بل لقد كان الأخذ بالقِيَم الاجتماعية صالحة أو طالحة وما زال سُلّماً في بعض الحالات للوصول إلى سُدّة التصرّف في القوانين المعيارية الإلزامية نفسها. فالكرم مثلاً كان قديماً باباً لدى العرب للسيادة، مثلما أن الوجاهة العرقية أو الاجتماعية أو الشخصية اليوم التي توشك أن تكون بمثابة (طوطميّة) حديثة، سواءً سُميت (محسوبيّة)، أو (وساطة)، أو احتيل لتزيينها بقناع اسمه (شفاعة) ما زالت قِيَماً مرعيّة، يختلف الناس حولها بحسب مصالحهم، لكنها في النهاية تكسر معيارية القانون ومبدأ العدالة والمساواة أمام سلطته الإلزامية للجميع، وتتدخّل لإبطال ما يترتّب عليه من عقوبات ماديّة أو معنويّة؛ بالنظر إلى أن القيمة نفسها في المجتمع العربي، من حيث تنظيمها لعلاقة الإنسان بالآخرين، ما انفكّت شخصيّة، قائمة في كثير من صورها على مبدأ الانتقائيّة العلائقيّة بالأشخاص. وعليه، وبما أن القِيَم في الثقافة العربية هي قِيَم مؤسساتية (تمثّل سلطة اجتماعية) بالدرجة الأولى، وشخصيّة (انحيازيّة) بالدرجة الثانية، فإنها تتداخل والمعايير تداخلاً عضويًّا، يُفسِد أكثر مما يُصْلِح. ولا سيما أن للقِيَم قابليّاتها للتنوّع والتغيّر والتأوّل، بينما للمعايير شروطها غالباً، التي تقتضي فيها التحديد والثبات والعموم.
ويبدو أن الاعتماد على الترجمة من دراسات غريبة قامتْ أساساً على دراسة المجتمعات الغربية والثقافات الغربية، دون دراسة الثقافة العربية نفسها لم تكن سبباً في عدم وضوح الرؤية النظرية التي طرحتها مقدمة الموسوعة حول الفرق بين القِيَم والمعايير فحسب، بل أدّت أيضاً إلى درجة من التناقض في ذلك. ففي الوقت الذي يُشار فيه إلى ثلاثة فروق بين القِيَم والمعايير الاجتماعية وهي أن (القيمة تشير إلى نمط مفضّل للسلوك، بينما يشير المعيار الاجتماعي إلى نمط سلوكيّ فقط؛ القِيَم تتسامى على المواقف الخاصة، بينما المعيار هو تحديد لسلوك أو منع لسلوك آخر في
موقف معيّن؛ وثالثاً القِيَم هي أكثر شخصية وداخلية بينما المعايير اتفاقية وخارجية(1) فإن هيئة الموسوعة تُعْقِب ذلك بقولها: (إن الالتزام بالمعايير يكون أكثر ظهوراً في سلوك المجتمعات الريفية، منه في المجتمعات المتمدّنة، ذات التشابك الاجتماعي والثقافي. ) (1: 75). وذلك أن الكاتب هنا قد نكص عن النَّقْلِ عن (لوتمان Lautmann) أو عن (ويلي Willi) إلى استخدام كلمة (معايير) بمعنى (المعايير القيمية)، حينما تتمازج القيمة والمعيار، بل تصبح المؤسسة القيمية بخيرها وشرها، بإيجابيّها وسلبيّها، وحقّها وباطلها هي النِّسْغ في تفرّعات المؤسسة القانونية المعيارية في كثير من الأحيان. وعندئذ يزداد تمسّك المجتمعات الريفية بتلك المعايير، لا بوصفها معايير شرعية أو نظامية أو قانونية فالمجتمع المدنيّ هو الأقرب قابلية للالتزام بالمعايير بهذا المفهوم ولكن بوصفها قِيَماً موروثة، وعادات مرعيّة، وتقاليد متّبعة.
وهذا التداخل بين (القيمة) و(المعيار) يقف بمثابة إشكالية عضوية في بنية الثقافة العربية. وهو أحد أسباب التصدّع القيميّ الاجتماعيّ بين الأجيال أو حتى داخل الجِيْل الواحد نفسه؛ لأن مَعْيَرَة القِيَم هو حملٌ للمتحوّل على الثبات، بل هو سَعْيٌ إلى تجميد القيمة المفترض فيها الحراك والتطوّر في قوالب معيارية تستعصي على الحراك والتغيّر. وكأنما مشروع ك(موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق) هو مشروع لجعل القِيَم معايير وفرض الثبات عليها؛ في وقت زعزع التغيّر الثقافي بعض ما يُراد له الثبات من القِيَم العربية السالفة، وآن أن تنهض نظرية قِيميّة عربية تنقذ ما يمكن إنقاذه من إرث الآباء والأجداد.
ذلك أن قيمة كقيمة الشجاعة، على سبيل المثال التي كانت قيمة قَبَليّة معيارية، حتى وإن تلبّست بالطيش أو
الظلم مهدّدة بالتراجع كثيراً في مجتمع اليوم، الذي يقوم على شجاعة الحقّ والقانون، أو هكذا يفترض فيه.
ولكنّ سُلطة المعيار القيميّ القَبَلي تفرض نفسها في كثير من الأحيان على الوعي واللا وعي الفردي والجمعي، فإذا هما يفرزان عن (الشجاعة) أقوالاً خطابية ادّعائية كاذبة أو واهمة ربما أردفتْها أفعالٌ (عنترية) هوجاء. هذا إلى جُبْن عن الاعتراف بالضعف أو الخطأ البشريّ، وإشفاق من الاعتذار عن الإخفاق أو الإساءة. وهي سلوكيات تتوالى في مضاعفات مرضيّة، لا تحتكم إلى العقل أو الحكمة أو منطق الأشياء، بمقدار احتكامها إلى معياريّة القِيَم الملزمة الصارمة، كما يُلقّن إيّاها الطفل وتحاصر ضغوطاتُها شخصيتَه منذ نعومة أظفاره(2).
ولا يمكن إغفال مثل هذه المساءلة القيميّة في تأمّل معطيات صراع العرب لاسترداد حقوقهم العادلة من أعدائهم. فما أكثر ما يُفسد عليهم التخطيط والتدبير العقلاني للوصول إلى انتزاع تلك الحقوق تنازعُ القِيَم دواخلهم، أفراداً وجماعات، حتى لقد يضحّون بما في أيديهم، أو بأنفسهم نفسها، لكي (يُقال)، أو خوفاً من أن (يقال). وبذلك تغدو قِيَمٌ معيارية خُلقتْ لزمان غير زماننا عوائق ثقافية وحضارية، كما يغدو التنظير لتثبيتها وتمسيك الأجيال بها عملاً لا يخلو وإن حسُنت النيّات فيه من إسهامٍ في استدامة تلك العوائق.
وتمرّ مقدمة (الموسوعة) (1 : 55 56) مروراً على سؤال ضمنيٍّ حول كيفية وجود القيمة وعملها؟ فإذا كانت الأقسام الكبرى الثلاثة للقِيَم تنضوي تحت (الحق والخير والجمال)، فإن الآلية الإنسانية التي تعمل في تلك القِيَم تستند إلى ثلاثة عناصر في مكوّنات الشخصية الإنسانية، هي: الذهن، والسلوك، والوجدان. ومع تداخل هذه المكوّنات الشخصية الثلاثة، إلا أنه يمكن القول: إن العقل هو دافع السعي دائماً إلى الحقّ؛ وأن السلوك الإنسانيّ، بما يصحبه من تشابك السلوكيّات وتوالج المصالح، يسعى إلى ما يحقق الخير العام، العائد على الفرد والمجموع؛ بينما تدور دوافع الوجدان على تحقيق قِيَم الجمال، التي ترضي النفس وتغذيها بأشواق الحياة.
هذا وجه التصنيف الإيضاحي، بيد أن القِيَم ودوافعها لا تخلو عادة من تعاضد التفاعلات. وما دام مردّ الأمر في نهاية المطاف إلى الذهن والسلوك والوجدان، فإن القِيَم ستبقى خاضعة لعامل التغيّر في الذهن والسلوك والوجدان، المرتبط بما يحقّق (الحق والخير والجمال)، (وبذلك لا تكون القيمة صفة خاصة بالموضوعات، بل نسبية تلحق بأنواع الذوات)(3).
( والحديث مستمرّ ).
إحالات
1 موسوعة القِيَم، 1: 74. نقلاً عن: جلبي، علي عبد الرزاق، (1984)، دراسات في المجتمع والثقافة والشخصية، (بيروت: ؟)، 163
2 انظر مثلاً تأمّلات محمد ربيع الغامدي في هذه الحال: (الأربعاء 15 رجب 1424ه= 13 أغسطس 2003)، (دلالات الخطاب المؤجلة: خطاب القبيلة نموذجاً)، جريدة الوطن، (السعودية)، ع 1048
3 قنصوه، صلاح، (1987)، نظرية القيمة في الفكر المعاصر، (القاهرة: دار الثقافة)، 72


aalfaify@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved