الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th December,2004 العدد : 87

الأثنين 1 ,ذو القعدة 1425

«الترجمة»..عماد الحضارات وبوابة الثقافات
أهيعربياًمهملة؟! (22)
يوسف عبدالرحمن الذكير
بداية لا بد من القول إن ما قد يدعو للتفاؤل أن مسيرة الترجمة للعربية المعاصرة، قد انبثقت وسارت على ذات خطى مثيلتها السابقة، التي مهدت لسمو الحضارة الإسلامية الباهرة، في تماثل أقرب ما يكون إلى التطابق! فمثلما بدأت الترجمة بعد عصور من ظلام الجاهلية قبل بزوغ شمس الإسلام، فقد بدأت الرحلة الحاضرة بعد قرون من ظلام جهل وتخلف بعد انهيار الإمبراطورية العربية الإسلامية، ومثلما بدأت الرحلة الأولى بقطرات ترجمة متناثرة لم تنهمر إلا في القرن الثاني للهجرة عند بداية عصر التدوين، فقد مضى قرن من الزمان قبل أن ينهمر مطر سحب الترجمة الحديثة التي بدأت في أوائل القرن التاسع عشر بعدما تم إنشاء مدرسة (الألسن) لتعليم اللغات، وعودة أوائل البعثات التي من أشهرها تلك التي ترأسها الفقيه الأزهري رفاعة الطهطاوي وما قام به من ترجمات كانت بمثابة قطرات إلى جانب ترجمات متناثرة أخرى في ذلك القرن والتي قد يكون من أبرزها ما قام به (فارس الشدياق) الذي أضاف إلى أسمه (أحمد) بعدما أعلن إسلامه، تماماً كالمترجم ثابت ابن قره في العهود السابقة وهو ما يقود إلى مماثلة ثالثة لافتة تتمثل في اليد الطولى للعرب غير المسلمين في جهود الترجمة في كلا المرحلتين، فمثلما كانت بدايات الترجمة آنذاك على يد اصطفان وأبو زكريا بن البطريق وقسط بن لوقا وحنين بن إسحاق وابنه إسحاق وابن أخيه حبيش فقد كان من أوائل المترجمين في العصر الحديث على يد سليمان البستاني بترجمته لإلياذة هوميروس عام 1904م والدكتور شبيلي شميل بترجمته لنظرية داروين (النشوء والارتقاء) وفرح أنطون ونصيف اليازجي ويعقوب صروف، مما يبرهن على مدى ما ساد المجتمع الإسلامي من تسامح ورعاية لاتباع مختلف الأديان، فمنذ ذلك الحين وحتى الآن!
ذلك التماثل في البدايات، يزيد من حرارة التساؤل حول ما آلت إليه النهايات من فارق شاسع ما بين حركة (ترجمة) فاقت كل ما سبقها وعاصرها من حركات إبان عصرنا الذهبي الزاهر، وأخرى في عصرنا الحاضر تدنت إلى ما لا يزيد على خمس ما يترجم لإحدى أقل دول أوروبا سكاناً؟! تساؤل لا تكمن الإجابة عليه بالتذرع بانتشار ما لم يكن متاحاً في العصور الغابرة من مسارح وأفلام وفضائيات، تلهي الشيب والشباب عن القراءة والمطالعة، فجميع تلك البدائل متوافرة في الدول الأوروبية بما يزيد أضعافاً مضاعفة عما هو موجود في الدول العربية كماً ونوعاً وإثارة، ومع ذلك فإن (الترجمة) ليست في تراجع بل هي في تزايد، كما أنا ما يفند بشدة مقولة عزوف العرب عن القراءة هو ذلك الإقبال المتعاظم سنة بعد أخرى على معارض الكتب وافتتاح المزيد من المكتبات عام بعد عام!.. فالأسباب الحقيقة خلف تراجع حركة الترجمة الحالية، ربما كان من أهم أسبابها العديدة، ثلاثة أسباب:
أولها: يكمن في الحافز المادي، فمقارنة بما كان يحصل عليه المترجم آنذاك، فعلى سبيل المثال، ذكر ابن النديم في (الفهرست) أن أبناء موسى بن شاكر (في عصر المأمون) كانوا يدفعون خمسمائة دينار شهرياً للعمل وقتاً كاملاً في الترجمة وكان الدينار آنذاك يساوي (4.25) غرام ذهباً، فعليه يكون راتب المترجم الشهري ما يساوي (2125) غم من الذهب وهو ما يعادل (75) أونصة، فإذا ما حسبت بسعر (360) دولاراً للأونصة حسب القيمة الحاضرة، فإن راتب المترجم يصل إلى (27000) دولار شهرياً، أو ما يزيد على مائة ألف ريال شهرياً وهو ما يفوق ربما بأضعاف مضاعفة ما قد يحصل عليه أمهر مترجم عربي حالي عن ترجمة كتاب قد تستغرق ترجمته شهوراً طويلة بل وحتى سنوات!..
وثانيها: ما يعترض الترجمة من منع بل وقمع أحياناً إما من سلطات سياسية بحجة محاربة أفكار هدامة أو من عصبة دينية متطرفة تكفر وتمنع بحجة الإلحاد والهرطقة تماماً مثلما كانت الكنائس المتسببة في (ظلام) أوروبا تفعل أو من خليط منهم من المحافظين بدعوى الخصوصية والخروج على الأعراف والتقاليد مثلما كان يجري في اليابان والصين إبان عصور الانغلاق، فيما لم تحظر مطلقاً أي قيود على الترجمة في عصورنا الزاهرة، سوى ما ذكر (الطبري) من استثناء وحيد، جرى في عهد المعتمد (سنة 279هـ): (ما كان من أمر السلطان بالنداء في مدينة السلام.. فحلف الوراقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة) وما كان من إحراق لكتب أبو حامد الغزالي وابن رشد في الأندلس إبان عهود التعصب الأعمى المتطرف للمذاهب!
ولكن كلا العقبتين من السهل إزالتهما إذا ما أنشئ صندوق متخصص للترجمة سواء على مستوى الدول العربية، أو الجامعة العربية مدعوماً من الحكومات وتشرف عليه هيئة نخبوية من المثقفين والأكاديميين المحايدين والموضوعيين إذا ما أريد لنا اللحاق بركب الحضارة من جهة ودعم ما ندعو له من حوار للثقافات الذي لا يمكن أن يتم دون التعرف على ثقافات الشعوب الأخرى، واحترامها وكبحاً للتطرف والإرهاب.
السبب الأخير قد يكون هو الأهم والأكثر صعوبة واستعصاءً على الحل.. ألا وهو ما تعانيه الشعوب
العربية بصورة عامة من تخلف حضاري على المستوى البشري!.. فعلى الرغم مما قطعته معظم الدول العربية من أشواط لا تنكر وخاصة الدول النفطية الغنية منها، لا على صعيد إقامة منشآت عصرية من طرق سريعة واسعة مترامية المسافات، ومطارات رائعة التصميم والخدمات وفنادق فاخرة وأسواق زاهية عامرة، بل وحتى في نشر التعليم بإنشاء مئات المدارس على مختلف المستويات وعشرات الجامعات الحديثة، إلا أن كل تلك الجهود لا تزال قاصرة، إذا ما قورنت بما جاء في تقارير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية في العالم العربي، من أرقام مؤسسية!.. فالأمية تصل إلى أربعين بالمائة بين البالغين العرب (65 مليون أمي وفي حالة إضافة الأطفال فسيرتفع العدد حسب التقارير الرسمية إلى ما يزيد على 115 مليوناً).. وتبلغ نسبة من يعيشون تحت خط الفقر (أقل من دولارين في اليوم) حوالي ثلث سكان العالم العربي (87 مليون عربي).. ونسبة البطالة وخاصة بين الشباب تصل إلى ما يزيد على 25 بالمائة!!.. فهل يتوقع من أمي أو عاطل أو من لا يكاد يجد ما يسد به رمقه الإقبال على اقتناء كتب مترجمة؟!
ذلك يعني بكل بساطة انتفاء الفائدة المرجوة من الترجمة الهادفة إلى النهوض بالمستوى الثقافي العربي إن لم تعالج أمراض الجهل والفقر والبطالة بصورة جادة وفعالة، وخاصة بعدما باتت تداعيات تلك العلل المزمنة لا تهدد استقرار وأمن مجتمعاتها فحسب بل والعالم بدرجات متفاوتة، مما قد يهدد استقلال الدول العربية ذاتها، بعدما أضحى التقاعس في علاج تلك العلل لا سبباً في التخلف الذي أحد مظاهره ما تعانيه (الترجمة) من تراجع معاصر مقارنة بما كانت عليه إبان ماض زاهر، بل وذريعة ومدخلاً للدول العظمى للتدخل بدعوى اقتلاع منابت وحواضن الإرهاب.
المصادر
1 الفكر اليوناني والثقافة العربية
تأليف: ديمتري غوتاس ترجمة وتقديم الدكتور نقولا زيادة بتكليف من المنظمة العربية للترجمة ونشر مركز دراسات الوحدة العربية
2 تاريخ كيمبردج للأدب العربي الأدب العربي الحديث
تحرير محمد مصطفى بدوي وعبدالعزيز السبيل وأبو بكر باقادر ومحمد الشوكاني ونشر النادي الأدبي الثقافي بجدة
3 الفهرست لابن النديم
بتقديم وتعليق الشيخ إبراهيم رمضان دار الفتوى بيروت
نشر: دار المعرفة
4 أدب الكاتب لابن قتيبة
تحقيق محمد طعمة الحلبي
نشر: دار المعرفة
5 هوامش على دفتر التنوير
تأليف: جابر عصفور
ونشر: المركز الثقافي العربي
6 تاريخ الطبري الجزء الثامن
تأليف: محمد بن جرير الطبري
نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
7 تقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 2003م
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved