الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 13th December,2004 العدد : 87

الأثنين 1 ,ذو القعدة 1425

رداً على السمطي حول الأدب الإسلامي
أنتَ من ألغيتَ الآخر..!

بعد أن أنهيت قراءة مقالتي عبدالله السمطي في العددين (82، 84) من الملحق الثقافي لصحيفة الجزيرة يوم الاثنين 9 شوال لعام 1425هـ الموافق 22 نوفمبر 2004م، تساءلت ماذا يريد الكاتب في مقالتيه؟! هل يريد مهاجمة رابطة الأدب الإسلامي؟! أم يريد مهاجمة الأدب الإسلامي؟! أم تجريح بعض رجال الإسلام وأدبائه وعلمائه؟! أم ذلك كله معاً؟! فالقضايا التي عرضها كثيرة جداً متداخلة ومتناقض بعضها.
لذلك سأتناول بعض النقاط مما ورد في المقالتين رغبة في توضيح الحقائق والمعلومات. وبما أن الكاتب مسلم حريص على إسلامه، يحب الحق ويحب رد الأمور كلها إلى منهاج الله، كما أمر الله سبحانه وتعالى، فإن حديثي سيكون على هذا الأساس، وعلى أساس (نظرية النصح الأدبي) التي أدعو إليها والتي يعترض عليها السمطي.
1 أبدأ بملاحظة سريعة حول تاريخ تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، فهو ليس كما ذكر الكاتب (24 نوفمبر 1984م)، وإنما تأسست الرابطة في المؤتمر التأسيسي في لكنهو الذي عقد في الفترة من 254 274 لعام 1406هـ الموافق 71 91 لعام 1986م، وأنا من الأعضاء المؤسسين للرابطة.
2 وتساؤله أو قوله: (إن هذه الأفكار نابعة من كون أن منظري الأدب والرابطة الأوائل هم من الدعاة وليسوا من الأدباء). ولتصحيح المعلومات فإنّ معظمهم دعاة إلى الله ورسوله وأدباء مسلمون، يشهد على ذلك عطاؤهم. ولا عجب في أن يكن الداعية أديباً مسلماً أو الأديب داعية. فالدعوة إلى الله ورسوله واجبٌ على كل مسلم قادر على ذلك. فأمر الله: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ...} (125) سورة النحل {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت وأنا مسلم داعية وأديب وشاعر ومهندس كذلك.
3 أعتب على الكاتب لأنه لم يكن دقيقاً في عرضه لعددٍ من القضايا، منها رأيي في شعر التفعيلة وما يسمى بقصيدة النثر، فقد عرضت رأيي في كتاب من (160) صفحة وفي كتب أخرى، لخصها الكاتب كلها في بضعة أسطر، فشوّه الفكرة كلها. فقد عرضت رأيي نثراً وشعراً مع البيّنة والحجة. وكذلك لم يعرض رأيي في (نظرية النصح الأدبي) ليكون مصطلحاً بدلاً من مصطلح النقد أو موجهاً للنقد، حتى ينطلق الأديب ليعدل ويحسن. فقد ذكر الكاتب: (... وقد قدّم عدنان النحوي نظرية بديلة لكل نظريات الأدب والفن قديمة وحديثة من (محاكاة) أرسطو حتى (تفكيك) دريدا، هي نظرية (النصح الأدبي)، حيث ينصح الناقد أخاه الأديب أو الشاعر لعمل (الخير) وكتابة شعر (خير) ورواية (فاضلة) وقصة (طاهرة).
وكأن الكاتب حسب ما ذكر يعيب على القصيدة أو الرواية أو الأدب بعامة أن يكون خيراً، ويعيب على الناقد أن يكون ناصحاً، وكأنه يريد الأدب شراً والناقد ظالماً.
ولا بد أن نؤكد للكاتب أن الإسلام هو الذي يريد أن يكون الأدب كله خيراً لا شراً، وأن يكون فاضلاً لا مفسداً، وأن يكون طاهراً لا رجساً. والإسلام هو الذي يريد أن يكون الناقد ناصحاً أميناً لا ظالماً معتدياً مجرّحاً. ولا شك أن الكاتب يعرف النصوص حول ذلك كلها، ويعرف أن الإسلام جعل الدين كله نصيحة في
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة).
ولذلك يقوم الأدب الإسلامي، الأدب الملتزم بالإسلام، ليقدم الحق والصدق والفضيلة والطهارة في مستوى عالٍ من الجمال الفني تدركه القلوب المؤمنة. والناس فيما يعشقون مذاهب، والمؤمن يعشق الحق والفضيلة والطهارة على ميزان إيماني جلي.
أما نظرية (المحاكاة) لأرسطو و(التفكيكية) لدريدا فقد سبق أن نقدتهما في دراسات سابقة. وإن مهمة الإسلام والأدب الإسلامي والأدباء المسلمين أن يقدموا نظريات الإسلام وميزانه للأدب والفن والجمال، وللإسلام نظرياته في ذلك كله. نقدمها للناس كافة بجرأة وثبات وتصميم من منطلق حق. وعلى كلٍ فمن العدل حين يعرض أحدُهم رأياً لغيره أن يُنصف في العرض. والإسلام يفرض على المسلم أن تكون كلمته في الأدب وغيره كلمة طيبة، فالإنسان محاسب يوم القيامة على كلمته: (.. وهل يكب الناس في النار على مناخرهم (أو قال وجوههم) إلا حصائد ألسنتهم)! وقوله سبحانه وتعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } (24) سورة الحج، حتى لا يقع المسلم في أسلوب الاستهزاء والتجريح وعدم الإنصاف والعدالة. فما أحوجنا اليوم وغداً إلى نظرية (النصح الأدبي) وإلى نظريات الإسلام في الأدب والنقد والفن والجمال.
ولو رجعنا إلى جميع المذاهب الأدبية الغربية لوجدنا وراء كل مذهب أدبي مذهب فكري أو فلسفي ينطلق منه، والإسلام أحق المبادئ بأن ينطلق منه أدب يمثل نهجه ومبادئه ورسالته.
4 الحديث الذي أورده الكاتب: (أحبوا العرب لثلاث..) ولم يخرجه، فهو حديث ضعيف رواه العقيلي والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه، وذكره الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزيادته رقم: 173، ولكن المسلم يحب المؤمنين كما يأمره الله، ويحب العرب المؤمنين بذلك، والحب في الإسلام ليس هوى متفلتاً، ولكنه دافع إيماني تبنى عليه رابطة الأُخوة الإيمانية. هذا هو الإسلام كما جاءت به الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
5 وتساؤله: (هل أنقذت الرابطة الأمة الإسلامية من محنتها؟) تساؤل في غير محله. فإنقاذ الأمة المسلمة واجب جميع القوى العاملة في الأمة، لا ينحصر في رابطة الأدب الإسلامي العالمية، ولكنّ الرابطة تُساهم في ذلك في حدود
إمكاناتها وطاقتها.
6 تعريف الأدب الإسلامي حسب ما ورد في كتيب التعريف: (التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان وفق التصور الإسلامي) اعتبره الكاتب تعريفاً غير جامع وغير نافع. التعريف في العلوم التطبيقية يكون جامعاً، أما في العلوم الإنسانية فالتعريف يقصد به إعطاء التصور العام والملامح الرئيسة. وهنالك تعريفات أخرى لعددٍ من أدباء الرابطة لم تخرج عن هذا الإطار.
ويعترض الكاتب على كلمة التعبير الجميل. فيقول: (إن التعبير هنا يشير إلى كيفية خاصة في التعامل مع اللغة. أن أعبر أن أكتب بلغة مختلفة، وبالتالي فأنا أعبر وفق شروط معينة بالعربية أو الفارسية..).
ونقول إن صياغة التعبير لا تنحصر في اللغة وحدها، فهنالك عوامل أخرى تتفاعل مع اللغة حين يصوغ الأديب تعبيره. فالفكرة والعقيدة التي يؤمن بها الأديب تؤثر في التعبير، وكذلك زاده العلمي والثقافي، وتجاربه وخبراته في الحياة. ولكن بالنسبة للأديب المسلم فالأمر يختلف، فالمسلم مكلّف بأن يتدبر منهاج الله قرآناً وسنةً كما جاءا باللغة العربية التي اختارها الله لدينه وكتابه وللوحي والنبوة، بعد أن بلغت اللغة العربية ذروة نضجها واستقرّت خصائصها، حتى تكون اللغة الأولى لكل مسلم مهما كان جنسه أو لونه. ولقد نزل الوحي الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه اللغة لتحمل إعجاز الكتاب الكريم في رسالة جاءت للعالمين، لجميع الشعوب والأجناس. ولذلك أصبحت اللغة العربية هي لغة جميع الشعوب التي دخلت الإسلام دون إكراه، ولكن بحافز إيماني لتدبّر كتاب الله وفهمه والوفاء بالتكاليف فيه. وأصبحت لغة فكرهم وأدبهم، ونثرهم وشعرهم. فنبغ من تلك الشعوب غير العربية علماء عباقرة خدموا اللغة العربية وقواعدها وبلاغتها، وأثروا نثرها وشعرها، وأخذ عنهم العربي وغير العربيّ.
فاللغة العربية لم تعد لغة العرب وحدهم منذ أن نزل بها الوحي الأمين، وإنما أصبحت لغة كل مسلم ينهض لتدبر كتاب الله ليصدق الله في عبادته. وحين اختار الله سبحانه وتعالى هذه اللغة لدينه، فذلك لأنه يعلم أنها تحمل من خصائصها المميزة ما يجعلها هي اللغة التي تصلح لتحمل إعجاز القرآن الكريم، ولتكون لغة الإنسان المسلم.
فيصبح البيان والبلاغة، وسائر
خصائصها النثرية والشعرية التي استقرّت عليها اللغة العربية، هي خصائص متميّزة من أي لغةٍ أخرى، تسمح للمسلمين أن يتدبّروا كتاب الله على مر السنين لا تختلف عليهم لغته وبيانه ولا معانيه.
ويصبح لكلمة (التعبير) ولكلمة (الجميل) مفهومٌ نابعٌ من خصائص اللغة العربية ومن العقيدة التي تحملها هذه اللغة، وتصبح هي الأقرب لفطرة الإنسان التي فطره الله عليها.
و(التعبير) يتأثر بالفطرة والقوى التي أودعها الله فيها وفطر الناس عليها. ومن أهم القوى التي غرسها الله في الفطرة الإيمان ليستقرّ في الفطرة السليمة السويّة التي لم تنحرف بعواصف الأهواء والشهوات. ومن هذه الفطرة، من داخل الإنسان يخرج عطاؤه كله ثمرة تفاعل القوى فيها، من قوة الفكر وقوة العاطفة والموهبة وغير ذلك.
7 ويقول الكاتب: (ومع كل احترامي لكل تشريعات العالم ونواميسه، أرفض رفضاً قاطعاً أن يحدد لي رجل غير عربي مهما كانت وضعيته كيف أكتب في لغتي العربيّة؟ وماذا أكتب ؟! وأرفض أن يتدخل في قوانيني البلاغية العربية واتجاهات قصائدي..).
وكما قلت في أول الكلمة فبما أن الكاتب مسلم مؤمن بدينه يطيع الله ورسوله ويتبع ما أنزل من عند الله، ويرد الأمور كلها إلى منهاج الله كما أمر الله، ولا يتبع هواه، فإن صحّ ظني فقد جاءت كلماته أعلاه متناقضة مع أسس الإسلام، نابعة من هوى شخصيّ.
فبالإسلام والإيمان تنشأ أعز رابطة في حياة البشرية، هي رابطة أخوة الإيمان التي أمر الله بها وجعلها قاعدة ثابتة من قواعد الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...} (10) سورة الحجرات (المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يسلمه)، (والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا..)، ثم قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (52) سورة المؤمنون كما ذكرنا سابقاً بأن اللغة العربية اختارها الله لتكون لغة الإنسان المسلم، لغة المؤمنين جميعاً، كما هو دين الإسلام هو دين أنزله الله ليجمع البشرية كلها على دينٍ واحد لا يقبل الله من أحد سواه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ...} (19) سورة آل عمران {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) سورة آل عمران {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}
(28) سورة سبأ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء.
والإسلام هو دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، كلهم جاؤوا بدينٍ واحد من عند الله هو الإسلام. وهل يُعقل أن يبعث الله الواحد الأحد للناس أدياناً مختلفة يتصارعون عليها؟!
لذلك التقت الشعوب المختلفة التي دخلت في الإسلام ليكونوا أمة مسلمة واحدة. وقد صاغ الإسلام جميع الروابط البشرية: من عائلية، وإقليمية، وقومية، وإنسانية، صياغة إيمانية ربانيّة متوازنة، لتعطي كل رابطة خيرها في حياة البشرية ولتكون رابطة هذه الشعوب أخوة الإيمان تصوغ جميع الروابط صياغة أمينة تنتفي منها كل أشكال العصبيات الجاهلية، ولتكون عزة المسلم ليس بجنسه ولونه، ولا بعرقه وأهله، ولكن عزته بالله ورسوله والمؤمنين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ..} (8) سورة المنافقون.
ومن هذه العزة تنطلق النظرة الإنسانية، في شرع مفصّل حق. وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (55) سورة المائدة.
وحين صاغ الإسلام جميع الروابط صياغة إيمانية حدد فيها الحقوق والواجبات، فقد حدد كذلك علاقة المسلم بغير المسلم من خلال منهاج رباني فصّل ذلك كله، وحدد علاقة الشعوب بعضها ببعض على أساس من هذا الدين العظيم.
يضاف إلى ذلك أن عدداً غير قليل من الذين خدموا العربية وأرسوا قواعد نحوها وصرفها وبلاغتها لم يكونوا عرباً، وإنما كانوا مسلمين دخلوا مع العرب في دين الله أمة واحدة يعتزون بدينهم، فخدموا العربية أكثر من كثيرٍ من العرب.
لذلك لم يكن الكاتب منصفاً حين قال: (... أرفض رفضاً قاطعاً أن يحدد لي رجل غير عربي..).
8 أما قوله: أما النظر في الكون والحياة والإنسان فهو يختلف من ثقافة إلى أخرى، ومن تصور إلى آخر تبعاً للبيئة والتاريخ والجغرافية والتطور الحضاري للأمم..)!
نعم! يختلف النظر في ذلك عندما تصدر النظرة من قدرة الإنسان المحدودة، وعلمه المحدود، ومكانه المحدود، وزمانه المحدود، والوسع المحدود، فتؤثر حينئذ عوامل مختلفة في النظرة إلى الكون والحياة والإنسان، ولكنها تظل نظرة ناقصة مضطربة متغيّرة. أما في الإسلام، فإن النظرة إلى الكون والحياة والإنسان هي نظرة ربانية من رب الكون ورب الحياة ورب الإنسان، من الله خالق ذلك كله وخالق كل شيء، تقوم على العلم الحق الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يفصّلها لنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز علماً وليس مجرد ثقافة.
وتلك النظرة المادية البشرية تهمل الغيب والدار الآخرة التي هي من الكون في مشهده وغيبه.
إن المسلم، والأديب المسلم الذي يعيش مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم، يدرك عظمة هذا التصور وجلال امتداده حتى يجمع الأزمان والمكان والإنسان من بدء الخلق إلى يوم القيامة ثم إلى الغيب، إلى الدار الآخرة، علم لا يعلمه إلا الله، يبيّن لنا الله ما هو كافٍ لحاجتنا وعلمنا.
من هذا التصور ينطلق الأديب المسلم الملتزم بالإسلام، وقد فتح الله له آفاق الكون والحياة والإنسان، من علم حقٍّ لا ظن ولا وهم فيه، فتنفتح للأديب المسلم آفاق وميادين لا تنفتح لسواه، ورؤية لا يبلغها سواه، في جمال وجلال، تتضافر قوى كثيرة على توفيره: علم وحق، وآفاق واسعة، ولغة معجزة، ذلك كله لا يتيسر إلا لمن شرح الله له صدره بالإسلام، وعاش مع كتاب الله وسنة نبيه ولغته العربية المتميزة.
فالتصور للكون والحياة والإنسان في الإسلام لا يتحدد من التاريخ والجغرافيا، وإنما ينطلق من علم حق يجمع التاريخ كله والجغرافيا كلها، مما يجده الأديب المسلم من آيات بيّنات لله وسنن ثابتة لله في التاريخ والجغرافيا والبيئة والتطور الحضاري والعلوم كلها، يجمعها الإسلام كلها جمعاً إيمانياً.
إن هذا التصور تصور ثابت في آيات كريمة وأحاديث شريفة قصّرت عنها كل جهود العلماء في مختلف الميادين، ووقفوا مذهولين أمام هذا الكون الممتد الذي لا يدركون مدى مشهده ولا شيئاً من غيبه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (53) سورة فصلت.
10 وقوله: (إن الإبداع الأدبي لا يتأتى وفق شروط مسبقة، وأن الالتزام يجعل من المبدع مسجوناً في قفص الشرط، وبالتالي لا يتسنّى له التعبير بحريّة..).
الإسلام يشترط على المسلم أن يلتزم إسلامه، أمراً من عند الله وليس من عند أحدٍ من البشر. فالأديب المسلم واجبه أن يلتزم إسلامه في كلمته وأدبه، وهذا الالتزام شرط ربّاني يعني الالتزام بالكتاب والسنة: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (3) سورة الأعراف، فهو التزام بالعقيدة التي آمن بها الأديب فأصبح بإيمانه ذلك إديباً مسلماً، وهو التزام بالكتاب والسنة كما أنزلا على محمد صلى الله عليه وسلم لساناً عربياً مبيناً، كما ذكرنا قبل قليل. وهذا الالتزام النابع من صدق الإيمان والتوحيد، وصدق العلم بمنهاج الله، هو الذي يفتح
له الآفاق الممتدة والميادين الواسعة المشرقة كلها بنور الإيمان يمضي بها على صراط مستقيم. وعدم الالتزام، كما يريد الكاتب، لا يعطي حرية الكلمة، ولكن يعطي حرية المتاهة والتفلّت في ظلمات وليس في نور، في ضيق وسجن وليس في آفاق. إن تلك الحرية المتفلتة هي وهم يقيد الإنسان نفسه فيه ليبعده عن طلاقة الآفاق وفسحة الميادين وسعة الخيال. فالتزام الأديب المسلم بعقيدته يطلق له الخيال الغني المشرق والوعي اليقظ غير المخدّر بالأهواء والشهوات، وبالمصالح والوهم، وبالظنّ والغرور.
وهذا الالتزام يختلف كليةً عما ذكره الكاتب من (أدب الالتزام) الذي انتشر في الخمسينيات والستينيات كما ذكر الكاتب. فأدب الالتزام هذا مدرسة يلتزم بها الأديب بقواعد بشرية سرعان ما تتغيّر، تكون قيداً وسجناً. أما التزام الأديب المسلم فهو التزام بدين حق أنزله الله للناس كافّة ليلتزمه من يؤمن به، وليجتمع عليه المؤمنون أمة واحدة.
وهذا الالتزام ينطلق كذلك من الفطرة السليمة النقية التي لم تتشوّه بالآثام والأهواء، وهو يطلق قوى الإبداع ويغذيها من صفاء الإيمان وقوة العلم واللغة العربيّة المتميزة.
هذا الالتزام لا يضع الأديب المسلم في سجن، كما تفعل النظريات المادية البشرية التي تخنق الإنسان والأديب في سجن ضيّق يحسبه وهماً أنه الكون والحرية والانطلاق.
ولابد أن أشير هنا إشارة سريعة فصّلتها في دراساتي الأدبية والفكرية لدور الكتاب والسنة واللغة العربية في ميدان الأدب. فالإسلام له تصوره المتميز للأدب ولقواعده، وله قواعده الفنية التي تطلق الجمال الفني. للإسلام نظريته أو تصوّره للجمال كله بعامة وللجمال الفني.
والأدب حتى يكون أدباً إسلامياً يجب أن يجمع نوعين من الخصائص في وقتٍ واحد، لا يُغني أحدهما عن الآخر: الخصائص الفنيّة التي تجعل منه أدباً، والخصائص الإيمانية التي تجعل منه إسلامياً. ومن تفاعل الخصائص الإيمانية والفنيّة في ذات الأديب وفطرته ينطلق الجمال الفني بإشراقته الفنيّة.
ودراسة الكتاب والسنة واللغة العربية ليس أمراً خاصاً بالدعاة أو الفقهاء وإنما هو علمٌ فرضه الله على كل مسلم: (العلم فريضة على كل مسلم). وأساس العلم عند الله ورسوله هو الكتاب والسنة واللغة العربية.
11 ويسأل الكاتب: (وهل قرأ الدكتور عدنان النحوي الذي ألف أكثر من ستين كتاباً في كل دواوين شعر التفعيلة وقصيدة النثر حتى يصل إلى هذا الحكم..)!
اطمئن الأخ الكريم أني أملك مكتبة تضم قسماً خاصاً بالحداثة وأدبها وشعرها بالتفعيلة والنثر، وأن مكتبتي تضم مختلف العلوم وفيها بحدود خمسة آلاف كتاب أو أكثر، وأني أعمل يومياً أكثر من أربع عشرة ساعة، وأني قرأت أكثر مما يظن، قرأت بما يكفي للوصول إلى هذا الحكم. كما اطمئنه أني كتبت في الدراسات الأدبية وحدها اثني عشر كتاباً، وتسعة عشر ديواناً وملحمةً، وأما مجموع ما أعانني الله على إصداره فهي بحدود ثمانية وثمانين كتاباً، وقد قرأت بالإضافة للشعر العربي في مختلف مراحله وصوره، قرأت من الشعر الروسي والفرنسي وغيرهما ودرست الأدب الإنكليزي وتاريخه دراسة مفصّلة. ولكن لي ميزان واضح أزن به الأمور كلها من أدب وشعر وغير ذلك.
12 ويقول الكاتب: (كما يسيطر على هذه الذهنية فكرة إلغاء الآخر ونفيه بدلاً من التحاور معه، وفكرة التكفير و(الهجوم الضاري)..).
أعجب من مثل هذا الأسلوب، حيث إن الكاتب في مقالتيه هو الذي ألغى الآخر كله، وألغى رجاله، وانطلق في (هجوم ضاري). وأنا لا أعلم أن أحداً من الأدباء المسلمين هجم الهجوم الضاري مثل هجومه، أو ألغى الآخر مثل إلغائه أو كفّر أحداً. والحقيقة أنّ لا أحدا، فإنسان يكفّر نفسه.
13 وأما روايات الدكتور عبدالله العريني فقد دُرست في لقاء في الرابطة، ودرسها عددٌ غير قليل من الأدباء، وأشادوا بهذا الجهد الطيب الذي لا يتفق ربما مع موازين الحداثة والبنيوية والتفكيكية وسائر هذه المذاهب، إلا أنه نهض بمسؤولية من مسؤوليات الأدب الإسلامي. فجزاه الله خيراً.
وأخيراً فإن للأدب الإسلامي شعراً وروايةً وغير ذلك ميزانه، وله جمهوره الكبير ومحبّوه، ولو أن عبدالله السمطي ليس من جمهوره ولا مؤيديه، ولكننا ندعوه إليه.
وحسبنا أن مذهبنا نعبد الله به في كل كلمة نقولها، ولا أدري لماذا هذا (الهجوم الضاري) الذي انطلق به السمطي وفارق به (نظرية النصح الأدبي).
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved