الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th March,2005 العدد : 97

الأثنين 4 ,صفر 1426

الأزمة.. في الثقافة أم في فهمها؟
*عمر طاهر زيلع
لا يزال الافتراض موجوداً في منابرنا الثقافية عن وجود (أزمة ثقافية) محلياً وإقليمياً!! بدا ذلك واضحاً في آخر استطلاع قامت به صحيفة المدينة في ملحقها الأربعاوي الثقافي قبل أيام. بدا واضحاً أيضا أن كثيراً من القائلين بوجود (أزمة ثقافية) لا يزالون يعنون ب(الثقافة) مفهومها التقليدي المحصور في الابداعات القولية والفنية، من شعر وقصص وفنون جميلة، ودراسات نقدية، وتأريخية... والثقافة بهذا المفهوم، أو بهذا الشرط لدى المتمسكين به حتى الآن تعاني بالفعل انحساراً نوعياً وبخاصة في الدراسات النقدية الأدبية والتأريخية. لا بسبب وجود (أزمة) كما يقال، ولكن بسبب التحولات الشاملة التي طالت كثيراً من المفاهيم والمصطلحات، ومنها مفهوم الثقافة. فمفهوم الحرب مثلا لم يعد يعني ما كان يعنيه سابقاً: مواجهة بالسلاح بين جيشين أو فريقين مثلاً. والأمن الخارجي بات يعني: المبادرات الاستباقية، والدفاع عن النفس والوطن والأعراض غدا عنفاً. والإعلام غدا يعني قلب الحقائق، والانحلال حقوقاً وحريات. وهكذا في سائر المفاهيم والعبارات بما في ذلك القيم من حق وخير وجمال وأخلاق.
أكبر قدر من هذه التحولات قد أصاب مفهوم الثقافة نفسه. سقطت الرموز والمرتكزات التي كان ينطلق منها الأدب والفن، ونهضت قيم ومرتكزات ووسائط وآليات أخرى عصفت بالمفهوم السابق للثقافة، عملت على توسيع دائرتها لتشمل كل صور ومظاهر ومعطيات وافرازات الحياة المعاصرة من معلومة، وصورة، ومشهد ورسوم وسياسة ولعب، وتهتك ورصانة. تغيرت ذائقة جيل التحول العولمي، وتطورت في المقابل وسائله التقنية للقراءة والكتابة والتعبير. الثقافة في تحولاتها لا تعاني أزمة بل اتساعاً يكاد يكون مطاطياً في المفهوم والممارسة، فلم تعد تعني الفنون القولية والفنية، ولا تعني حسب مرجعية الدكتور الغذامي، ثقافة صورة تلفزيونية وحسب، بل تعني هذه الأشياء وغيرها من متعلقات الحواس الإنسانية بما فيها حاسة الذوق الاستهلاكية. فهي ثقافة حسية جسدية يدخل فيها ما نراه، ما نسمعه ما نتذوقه، وما نحسه. الحقيقة الآن هي ما تراه وتسمعه لا ما تعرفه، أو هكذا يراد لها أن تكون.
إذن فالأزمة ليست في الثقافة. بل في فهمنا الجامد لها، فهمنا الجزئي لما هو في حقيقة الأمر منظومة واسعة يرتبط بعضها ببعض. الأزمة في القراءة العربية للمستجدات والمتغيرات.
هذه القراءة المقطعية إن صح التعبير تكاد تكون سمة خالدة في العقلية العربية. وهي واحدة من مآسينا المزمنة. فنحن ما زلنا مثلا نتحدث عن (السلام) العربي الإسرائيلي بمفهوم ما قبل الحرب الباردة. نتحدث عن العدالة، بتصورات المدعي الذاهب إلى محكمة شرعية. نتحدث عن مجلس الأمن وكأنه الفيصل بين الحق والباطل. وعن حقوق الإنسان بمعزل عن السياق العام في السياسة العربية. عن المجتمع المدني وكأنه مجرد عملية اصلاح إداري. وعن الثقافة بمعناها لدى المبرد وابن عبده ربه، وابن قتيبة وابن خلدون، مع الاحتفاظ بحق أولئك القدماء بمرونة تعريفهم الأدب (بمعنى الثقافة) بأنه: (الأخذ من كل شيء بطرف)، فجاءت أجيال بعدهم بقرون حجرت واسع هذا المفهوم المطابق لواقع الحال اليوم تقريبا، وحصرته أو كادت في الفنون القولية.. المفهوم نفسه الذي يحيل إليه القائلون بأزمة الثقافة.
إن نقاد النصوص الأدبية الذين كانوا يتحدثون استعراضاً عن نظريات ومناهج معظمها ولد ومات في مناخات أخرى، أكثر من حديثهم التطبيقي على أرض الواقع الثقافي المحلي. فكانوا بذلك مثل أبطال القصة الرَّمزية الشهيرة عن (زير الماء) الذي تكونت من أجل صيانته وإتراعه بالماء مجدداً ، دولة كبرى من اللجان والمديرين والوزراء والمشرفين، وضجة أكبر من السخرة والفصل والتعذيب والجلد والتعزير، وفي آخر المطاف وجد الزير مكسوراً، أو مندثراً.. كتلة من التراب. هؤلاء النقاد آل بهم الحال إلى (النقد الثقافي) و(الدراسات الفكرية ..والاجتماعية)، بحثاً عن البدايات التنويرية في الأدب.
لقد أدرك معظمهم تحولات الخطاب الثقافي الجذرية، التي يصبح في ظلها الحديث عن قصيدة، أو قصة أو لوحة ترفاً، ومضيعة للجهد والوقت معاً. فما تزخر به أوساطنا من ابداعات شبابية، وربما غير شبابية لا تزال محسوبة على مرتكزات وأحلام وأوهام مراحل مندثرة عصفت بها التحولات التي لا تزال في عنفوانها كالأعصار الكاسح، وتحتاج إلى زمن قد يطول، أو يقصر كي تدرك أن ورِقها لم يعد رائجاً في المدينة بعد ثلاث مائة سنين وتسع من الموات تقضت كحلم صحا على واقع جديد وزمن آخر.
وإذا كانت الابداعات كما أشرنا ترتهن إلى تصورات غابرة، فإن الطاقات النقدية التي أهدرت جهودها في تنظيرات تفتقر إلى تطبيقاتها غالباً، قد غيرت مساءاتها بسبب التحولات، إلى اهتمامات فكرية.
الشواهد كثيرة لا يتسع المجال الآن لكثير منها، ونكتفي بالاحالة إلى العدد (الجزء 52) المجلد (13) من دورية نادي جدة الأدبي الثقافي (علامات)، وهو العدد الخاص ب(ملتقى قراءة النص) الرابع. فبالمقارنة بين موضوعات وقراءات هذه العدد، وموضوعات وقراءات الاعداد السابقة يُدرَك بيسر وجلاء تحول معظم نقاد الأدب البارزين في بلادنا من الاستقراء الجمالي الأدبي للنصوص، إلى استنطاق المحتويات الفكرية، والمضامين (التنويرية) حسب تعبيراتهم في النصوص المحورية في هذه القراءات، التي غضت الطرف عن (الفنى) لصالح (الموضوعي) ادراكاً منهم لمقتضيات التحول الثقافي في سياق التحولات الشاملة، ودعما للخطاب الخاص في مواجهة الخطاب العام.. العربي بوجه خاص.
صحيح أن معظم تلك الدراسات كانت في طرحها لا تزال ترتهن إلى تصورات ومصطلحات لهج بها الفكر القومي النظري ك(التنوير)، وهو فكر موصوف به أيضاً بوصفه كان واحداً من المشروعات المقترحة لحل أزمة التردي العربي بقدر من العقلانية، وقدر آخر من الطوباوية، مما جعله حلقة من حلقات (الظاهرة الصوتية التي لا تتجاوز فضاء منابرها وسطور كتبها وبياناتها. إلا أنها (موضوعات علامات 52) خطوة نحو التحول من (الأدبي) إلى (الفكري) ستتلوها خطوات أوسع إلى فهم الواقع الجديد.


* جازان ص.ب 246

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved