الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th April,2003 العدد : 7

الأثنين 12 ,صفر 1424

الحرب من أجل المتعة
سعد البازعي

في الثالث والعشرين من يناير 1918م، أي في نهاية الحرب العالمية الأولى، قتل في إيطاليا شاب أيرلندي كان يشارك في الحرب كطيار، وكان أحد معارف ذلك الشاب الشاعر الأيرلندي الشهير وليم ييتس الذي تأثر لموت الطيار الشاب فكتب قصيدة نشرت عام 1919م صارت فيما بعد من أبرز ما كتب ذلك الشاعر حول الحرب والموت، ودوافع الإنسان في الدخول إلى ما يقربه من النهاية.
القصيدة قصيرة وعنوانها بعيد عن اللغة الشعرية بمفهومها الرومانسي، أي اللغة الموحية البعيدة عن المباشرة. هنا نقرأ عنوانا أقرب إلى المباشرة: «طيار أيرلندي يرقب موته».
وفيما يلي ترجمة تقريبية للقصيدة، وكل الترجمات تقريبية بالطبع، ولاسيما حين يكون النص المترجم شعرياً:
أدرك أنني سألقى حتفي
في مكان ما في السحب؛
لا أكره الذين أحارب
ولا أحب الذين أحرس؛
بلادي هي كلتارتان كروس،
وأهلي هم فقراء كلتارتان،
وليس ثمة نهاية يمكن أن يخسروا بسببها،
أو تتركهم أسعد مما كانوا.
لم يدفعني قانون أو واجب للحرب،
لا ولا مسؤولون أو حشود تهتف.
لم يكن سوى هاجس من المتعة
هو الذي ساقني إلى هذا الضجيج في السحب
استحضرت الأشياء في الذهن ووزنتها،
الأعوام القادمة بدت تافهة،
وتافهة بدت كل الأعوام التي مضت،
وزنت هذه الحياة، وهذا الموت.
ما استثار خيال الشاعر وفكره حين سمع بموت ذلك الشاب هو، في تصوري، الدافع الذي أودى به إلى حرب بعيدة عن بلاده وأهله: لماذا يغامر في حرب أبعد ما تكون عنه، وليس له بها أدنى علاقة؟ تأمل الشاعر في ذلك وتخيل الشاب في اللحظات الأخيرة قبل سقوط طائرته: ترى ماذا دار بخلده، وهو يرى الموت أمامه في السحاب؟ كيف تراءت له حياته، وأهداف حياته؟ هل أسف على مجيئه، أم لا؟ هل تمنى لو بقي في قريته كلتارتان كروس في أيرلندا بعيداً عن هذه الدول المتحاربة؟ وما الذي جناه من هذه النهاية؟
هناك نقطتان فاصلتان في القصيدة، تأتي الأولى منهما في السطر الثاني والثالث. فبعد البداية المرعبة للحظة الإدراك تأتي إشارته إلى ما دفعه إلى هذه الحرب: «لا أكره الذين أحارب/ ولا أحب الذين أحرس». وفي تصوري أن هذا الموقف لا يقل رعباً عن سابقه، أي عن إدراك لحظة الموت، على الأقل بالنسبة للقارئ الذي يؤمن بقيم مثل الدفاع عن الوطن، أو الحرب من أجل المبادئ، وصد العدو لأنه معتد على الحرمات والممتلكات، إلى آخر تلك الأسباب التي تكمن في التركيبة النفسية والعقدية للإنسان بغض النظر عن الثقافة التي ينتمي إليها، وبغض النظر أيضاً عن مصداقية القائل بها «وما أقلها من مصداقية أحياناً!».
ما يرعب في مكاشفة الطيار لنفسه، في أنه لا يكره من يحارب ولا يحب من يحرس، هو أنها مكاشفة تلغي كل القيم على نحو معلن، وتظهر الحرب ليس بوصفها أداة للدمار المادي فحسب، وإنما بوصفها انهيارا لما يحفظ قيمة الإنسان وكرامته، للقيم التي نتمسك بها، وإن على نحو كيشوتي أحياناً، لكننا بدونها نقترب أو نتماهى مع المستوى البهيمي. والحق أن الحرب ليست أحياناً سوى هذه البهيمية تكشر عنها نفسها، ويضطر البعض للمشاركة فيها دون وعي بما يفعلون. والطيار الذي نتأمل مشاعره هنا هو أحد أولئك المضطرين في لحظة اعتراف للنفس «ومن خلال الشاعر طبعاً للآخرين» بأنه حارب دونما هدف من تلك التي تدفع الناس عادة للحرب.
أما اللحظة الفاصلة الثانية في القصيدة فهي تلك التي تأتي في السطرين الحادي عشر والثاني عشر «لم يكن سوى هاجس من المتعة هو الذي قادني إلى هذا الضجيج في السحب».
هنا نتلقى الإجابة على السؤال الملح منذ السطر الثالث: إذا كنت لا تكره من تحارب ولا تحب من تحرس، فلماذا شاركت في الحرب إذاً؟ والإجابة بكل تأكيد مرعبة، فأي متعة هي التي تدفع بالإنسان إلى قتل الآخرين ثم تعريض نفسه للقتل! التبرير الذي يسوقه الشاب المقبل على الموت هو مبرر للكثير ممن يقدمون على الانتحار: الحياة بلا قيمة، سواء ما فات منها أو ما سيأتي، مما يجعل الحياة والموت متساويين، ويجعل البديل الوحيد هو الموت بمتعة نهائية، بصرخة لذة في الختام.
من ناحية أخرى يمكن للقارئ أن يتوقف أمام هذه القصيدة من حيث هي نوع من التأبين أو الرثاء، وفي هذا بالطبع صعوبة، فما نقرؤه هنا أبعد ما يكون عن لغة الرثاء الشعري المألوفة، والواضح أن الشاعر قد اختار منذ البدء أن يبتعد عن أجواء الرثاء باختيار الشكل الدرامي للنص، حين جعل القصيدة مونولوجاً درامياً إلى حد ما، أي حديثاً فردياً مشحوناً بالحدث والعاطفة، فابتعد هو عن التعليق، باستثناء تقديمه للطيار في عنوان القصيدة. وبذلك جعلنا نقرأ نصا عن الموت خاليا من لغة التأبين الشائعة في التعبير الشخصي عن الحزن للفقد والإشادة بمآثر المفقود. ثمة موقف فلسفي بلا شك في النظرة إلى الحياة والموت، ودوافع الإنسان في الإقدام على المشاركة في حرب لا علاقة له بها، موقف ألفناه في بعض شعر الرثاء قصيدة المعري مثلاً «غير مجد في ملتي واعتقادي» وكما نجد أيضاً في بعض الشعر الحديث في تناول موضوع الموت.
إن الجو الطاغي على القصيدة هو جو من البرودة العقلانية التي نلمسها في تحليل الذات والموقف المحيط بها، فالشاب المقبل على حتفه يستعرض حياته بسرعة ويقدم تحليلاً خاطفاً لنفسه، وعلى نحو يقترب من أجواء المفارقة أو السخرية. وبالطبع فقد كان على الشاعر هنا أن يضحي بالجانب الواقعي المتمثل في سؤال كيف عرفت أن الشاب قال هذا الكلام قبل موته؟ فليس ما يبرر هذا السؤال لأن القصيدة تتطلب القبول بخيالية النص للوصول إلى المحتوى التحليلي النافذ إلى أعماق النفس الإنسانية في أصعب لحظاتها، الخيالية التي لم يكن للأدب أو للفن أن يوجد بدونها، التحليل وبالتالي الفهم الأعمق للنفس الإنسانية هو ما تطمح إليه القصيدة وتقدمه لنا فعلاً في النهاية.
ولعل القارئ يتذكر هنا أنني توقفت في مقالة سابقة عند قصيدتين في رثاء الشاعر العراقي بدر شاكر السياب كتبهما شاعران مختلفان أحدهما محمد المغوط. أذكر بتلك المقالة، وبالذات بقصيدة الماغوط التي تقدم السياب من زاوية لا تختلف كثيرا عما نجد هنا في قصيدة ييتس، فالموقف في قصيدة الماغوط، وإن اعتراه قدر واضح من العاطفة، يقترب مما نجد في قصيدة الشاعر الأيرلندي من ناحية السخرية إزاء الموت. وهي سخرية، أو برودة تحليلية عقلانية إلى حد ما، تتمثل في تلك اللفتات الكوميدية الساخرة التي تدهشنا في قصيدة عن الموت: «هل تضع ملاءة سوداء على إشارات المرور وتناديها يا أمي؟ لكن المقارنة ما تلبث أن تفضي وبسرعة إلى نقاط اختلاف واسعة، لعل أهمها أن الماغوط يصدر في رؤيته لعبثية الحياة والموت من شعور بالمرارة ينطوي في أعماقه أو في خلفيته على حب للحياة، فليس هجاء الحياة وتمني الموت في قصيدة الشاعر العربي سوى حالة اضطرارية قادته إليها مساوئ الظروف، وكأنه يقول: إننا نحيا حياة الموت أفضل منها، فاحتفظ بموتك يا سياب.
هذا الموقف يختلف عما نجد لدى ييتس في صياغته لرؤية الطيار الشاب، فالعبثية هنا ناتجة عن موقف فلسفي يقوم في تصوري على فلسفة اللذة بوصفها هدفاً كبيراً يستحق السعي إليه، ومن يعرف شعر ييتس سيربط تصويره للذة، حتى وإن أدت إلى الحرب، أو الموت بنظرة الشاعر إلى الفن كقيمة رفيعة تعلو على قيم أخرى كثيرة، فالفن عند ييتس هدف سام للحياة، فهو وليس الإيمان الديني مصدر الخلود، نلاحظ ذلك عند الشاعر الأيرلندي في قصائد كثيرة منها «اللازورد» و«الإبحار إلى بيزنطة»، حيث تؤكد الأولى أن الحروب تدمر الحضارة، وأن الفن هو الذي يعيد بناءها، وأن جوهر الفن هو المتعة، أما القصيدة الثانية فتصور إنساناً يترك عالم الطبيعة الفاني بمتعته القصيرة، بحثاً عن متعة الفن الخالدة في الحضارة البيزنطية التي ترمز للفنون في أوج تألقها.
قد نقرأ قصة الطيار الباحث عن الموت في سياق البحث عن متعة ما، لكن لا شك أن متعته تختلف عن ذلك التي يبحث عنها الراحل إلى بيزنطة. كما أن لا شك، لدي على الأقل، أن كثيراً من سلوك الإنسان يسيره شكل من أشكال المتعة أو البحث عنها، حتى وإن أدى ذلك إلى التهلكة، تهلكة الباحث ومن حوله، ولك أن تتأمل في الكيفية التي يقود بها كثير من الشبان سياراتهم في مدننا المعاصرة، كما أن لك أن تنظر في الحروب من حولك، وستجد أن طيار ييتس ليس غريباً عن شبان يحاربون من أجل المتعة ولا يهمهم من يموت ومن يحيا، ألم يصف أحد الجنود البريطانيين ذلك الطيار الأمريكي الذي أصابه «بنار صديقة» بأنه يتصرف مثل «كاوبوي»؟
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved