الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th April,2003 العدد : 7

الأثنين 12 ,صفر 1424

في ذكراه الثالثة
مشري.. ما زال في الذاكرة
دعه يستمتع ولو بلحظة فرح!

ورحل عنا عبدالعزيز مشري.. وتمر الأيام كئيبة حزينة.. وتأتي ذكرى وفاته 2/2/1421هـ للسنة الثاثة في وقت من أسوأ الأوقات وأشرسها والعدو الأنجلو أمريكي يكشر عن أنيابه ويصلي إخوتنا في العراق بنيرانه. بأحدث ما توصل اليه من أسلحة الدمار وأشد فتكاً وكأن الأمة العربية قد كتب عليها أن تصبح مسرح تجارب لأحدث اسلحته كأم القنابل وغيرها.
وتأتي ذكرى الصديق الراحل في هذا الوقت العصيب السيئ، وأتذكر.. وأستعيد شيئا مما في الذاكرة عندما كان في زيارات وتنقلات شبه دائمة بين جدة والرياض حيث مستشفى الملك فيصل التخصصي.
في شهر رجب 1416هـ رافقت الدكتور يحيى بن جنيد «الساعاتي» في زيارة للأستاذ عبدالعزيز مشري في احدى إقاماته المتكررة بالمستشفيات، وبقيت عنده بعض الوقت وتصفحت بعض الكتب المهداة له من أحدث الاصدارات الأدبية مثل ديواني فوزية أبوخالد وعلي بافقيه وغيرهما، ورأيت ولاحظت انه ضجر بعض الشيء رغم أنه دائما يبادر بسؤالك عن صحتك قبل أن تسأله عنها، فاستفسرت منه، فقال: ألم تقرأ المقابلة التي نشرت في عكاظ مع الأديب.. فأجبته بالنفي، فقال: إنه سئل عن بعض الأشخاص وعند سؤاله عني أجاب «الله يكون بعونه فهو يعيش حالة احباط في المستشفى» فسألته عن هذا الشخص هل اتصل بك هنا ليطمئن عليك؟ فنفى ذلك، فقلت له: هذا تصرف جاهل وغير مسؤول، وانتهى الموضوع بنكتة، وتجرأت وسألته ونحن بمفردنا ماذا عملوا لك هنا؟ فقال: أبداً هناك جرح بسيط بقدمي مصاب بغرغرينا والعلاجات لم تجد نفعاً مما استدعى من الطبيب تنظيف الجرح وأخذ جزء بسيط من الكعب، في هذه الأثناء أتته مكالمة من خارج الرياض وسمعت حواره مع مهاتفه، وأعتقد أنه أحد أشقائه وعرفت أنهم قد بتروا ساقه اليمنى من تحت الركبة، فرفعت الغطاء بشكل سريع قبل أن يتمسك به ليمنعني من ذلك. ورأيت المنظر فضحك من غبائي، وقال هذه أمور بسيطة فأنا أفضل حالاً ممن وصفني بالإحباط.. وبدأ يملي مقاله الأسبوعي لجريدة الجزيرة على شقيقه عبدالرحمن.
خرج بعد مدة من المستشفى وصدر له في هذه الأثناء روايته «في عشق حتى» من المؤسسة العربية للدراسات والنشر.. تكررت زياراته للمستشفى وأصبح لا يخبر أحداً، إلا أنني وبعض الأصدقاء نعرف ذلك من الأخ مسعد الدوسري الذي يرتب له المواعيد أو من الأخ علي الدميني. وبعد رمضان 1417هـ أصيبت قدمه اليسرى بجرح بسيط؛ إذ ارتطم اصبعه بحافة السرير مما سبب لها نزفاً لم يتوقف فخاف أن تصاب بما أصيبت به أختها، فحضر الى المستشفى وعاده الكثير من الأحبة، بقي مدة لا تقل عن الشهر والأطباء يحاولون الوصول الى حل يعالج الجرح ويشفيه دون تمريض القدم كما حصل للسابقة، وكنت عند زيارته وبقائنا لوحدنا يحدثني عن «حتى» وكيف قابلها، وعن تاريخ حياتها وكيف هاجرت مع أهلها الى حين التقى بها، وعن فندق «أبوديك» حيث كان يسافر من أجلها ويكون الفندق داخل مصر القديمة هو مربط الفرس. وكيف تزوجت، وكيف عاشت بقرية بعيدة عنه وكيف أنجبت وتزوج عليها زوجها وهكذا.. في إحدى الزيارات وجدته مضطربا بعض الشيء فسألته عن السبب فقال: إنها اتصلت به من هناك وهي تبكي إذ إنها تشكو من مرض خبيث، وأنه لا يمكن ان يتركها لمصيرها.. ولابد أن يقدم لها أي خدمة تخفف عنها هذا المصاب، وعرفت ان مكالماتها انقطعت أو هو قطع أخبارها عني.
بعد يومين أو ثلاثة قرر الأطباء مجتمعين بتر القدم الثانية اليسرى حتى لا تسير «الغرغرينا» الى باقي الجسم، واقتنع بعد جدال ووقع بالموافقة على هذا الاجراء، وتحدد الموعد صباح يوم السبت.. عدته مغرب يوم الجمعة ولم أجده في غرفته وعند السؤال عرفت أنه خرج باصرار قبل العملية رافضا لها. ومرت الأيام وإذا هو يغادرنا الى أمريكا وعرفت أنهم لاموه لتأخره ولعدم الموافقة على ما اتفق عليه الأطباء بالرياض، ولهذا قرروا بتر ساقه من الفخذ، اتصلت به هناك مرة وعرفت أنه مر بظروف صحية أخرى أبقته أكثر من شهر ونصف تحت العناية الفائقة ولا يعرف من يزوره.
كان قبل سفره حريصاً على أن يرى روايته الجديدة «صالحة» وقد صدرت عن الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة، وقد وصلتني صورة لها فحرصت على ان أرسل له صورة الغلاف، لو بالفاكس تحقيقا لرغبته أو هكذا هاتفت الصديق عبدالسلام الوائل اليحيا من احدى الولايات الأمريكية لعله يسافر اليه ليخبر أصدقاءه وليطمئنهم عليه.
وأرسل لي صباح اليوم التالي رسالة «بالفاكس» يذكر فيها انه اتصل بالمستشفى وأفادته الممرضة انه لا يستطيع التحدث معك وسوف تجرى له عملية جراحية، ويمكنك مقابلته خلال عشرة أيام وقال ما نصه «.. استناداً الى التكليف الأخلاقي الذي حملتني إياه فإني سأزوره نهاية الأسبوع القادم متى ما أصبح من الممكن التحدث معه وأشعر بأن ذلك واجب يتحتم عليَّ القيام به باعتباري ممثلا عنكم هنا..».
وهكذا بعد عشرة أيام استطاع ان يتغلب على ظروفه الدراسية وبعد المسافة التي أعتقد أنها لا تقل عن سبع ساعات طيران. وصل أخيراً فوجده غادر المستشفى قبل ساعات وهو يستعد للعودة للوطن الغالي وقابله بصعوبة إذ انه لم يعرف أين يسكن بعد خروجه من المستشفى وطلب منه أن يزور المكتبات واقتنى مجموعة من كتب الفنون التشكيلية وغيرها.
وكان يحاول ان يقنعه بالبقاء قرب المستشفى حتى يزول الخطر ولكنه أبى بقوة رافضا البقاء ولو لأيام إذ إن الوطن والأهل والأصدقاء لا يستبدلون.
وهكذا عاد وبمجرد الاتصال به للاطمئنان على صحته يفاجئك بأنه هو الذي يستفسر عن صحتك ولا يعطيك مجالا للاطمئنان عليه، فعرضت على أبي سهيل شيخنا عبدالكريم الجهيمان أن نسافر الى جدة لزيارة المشري وبعض أصدقائه القدامى مثل الأستاذين عبدالله عبدالجبار وعابد خزندار ووجدنا جدة تسبح في بركة إذ كانت الأمطار قبل أيام تنهمر بلا قياس.
وجدنا عبدالعزيز ينتظرنا بالشوق؛ إذ هاتفناه بمجرد وصولنا، وتوقعت أن نصل اليه في وقت محدد، ولكن الأستاذ عابد خزندار سبق ان حدد موعداً مع أستاذ الجيل عبدالله عبدالجبار ليجمع الشتيتين بعد ان تفرقا وهما أبوسهيل وعبدالجبار إذ كانا مدرسين في مدرسة تحضير البعثات قبل أكثر من ستين عاما وتفرقت بهما السبل ولم يلتقيا منذ ذلك التاريخ الموغل في القدم.
وقفت السيارة أمام المنزل المقصود ومد الخزندار يده الى خرم في الجدار فسحب خيطاً مثبتاً هناك فانفتح الباب، وسمع العبدالجبار بالحركة فخرج مستقبلا ضيوفه، وكان العناق الحار بينهما والعواطف الشجية، فغمرنا بفيض مشاعره وكرمه وترحيبه وهداياه من الكتب والمصورات ولم يتركنا نذهب للمشري إلا في وقت متأخر، فوجدناه قلقاً علينا، وخاف أننا غرقنا في وحل أحد شوارع جدة وكان محتفلا مع أخويه أحمد وعبدالرحمن وبعض الأصدقاء، ورغم ظروفه الصحية وتحمله السهر والغرفة غارقة بالدخان والشيشة، وأذكر انني هاتفت صديق الجميع الدميني شاكياً له تلك الصورة فرد عليَّ، وماذا بقي له؟ دعه يستمتع ولو بلحظة فرح.


محمد عبدالرزاق القشعمي

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved