Culture Magazine Monday  14/05/2007 G Issue 198
فضاءات
الأثنين 27 ,ربيع الثاني 1428   العدد  198
 
الاقتباسات المطلعية في رواية (جاهلية) 2 من 3
سعد البازعي

 

 

قبل الحديث عن النصوص أو الاقتباسات المطلعية في الرواية، وهي نصوص تجيء بمثابة العتبات للنص، من المهم أن نتوقف عند أبرز مفاتيح العمل، أو عتباته، أي العتبة الأولى والكبرى ربما، وهو العنوان. ولعل أول ما يلفت النظر هنا هو ورود العنوان على شكل نكرة وليس معرفة. فبدلاً من (الجاهلية) التي تعودنا دلالاتها التاريخية والثقافية تفقد المفردة أل التعريف لتكتسب نوعاً من التعويم الذي يذكر بما يحدث للعملات حين تخلص من ثوابت الصرف ويسمح لها بأن تكتسب موقعاً حقيقياً في سوق العرض والطلب. حين تعوم (جاهلية) نتوقع مناورة دلالية تتجه فيها المفردة إلى ما لم تعتد الاتجاه إليه، إلى حقول معرفية أو ثقافية أو اجتماعية أو غير ذلك لتحوله إلى (جاهلي). وبالطبع فإن تعويم المفردة هنا لا يفقدها دلالتها الأولى فهي تظل تطارد المفردة كظلها. نعود إلى ما قبل الإسلام والإيحاءات الصحيح أو الثابت منها وغير الصحيح أو غير الثابت التي اتصلت بتلك الفترة. وحين نتوغل في مجاهل النص السردي سنكتشف أن ثمة بالفعل جاهليات أخرى تبرر سحب (الأل) من (الجاهلية).

عنوان الرواية يمارس هيمنة أولى على النص بلفت انتباهنا إلى جاهليات قادمة. من تلك الجاهليات ما تطالعنا به الاقتباسات المطلعية، ومنها العناوين الغريبة التي اختارتها الكاتبة وسيلة لتأريخ أحداث الرواية والتي ترد في عنوان كل فصل، فهي تستخدم أسماء عربية قديمة ومنقرضة للأشهر والفصول شرحتها في نهاية الرواية، على نحو يستعيد الجاهلية العربية بالمفهوم الشائع.

يضاف إلى تلك الجاهلية ما تتضمنه الحكاية الرئيسة أو المتن السردي الرئيس. لكن قبل الدخول في تلك التفاصيل يحسن بنا أن نلقي نظرة بانورامية على أحداث المتن السردي المشار إليه. هنا نواجه شخصيتين رئيستين، شخصية فتاة حجازية هي محور الانتباه وفتى حجازي ولكنه من أصل إفريقي، بمعنى أنه أسود اللون، وكلاهما يقيمان في المدينة المنورة حيث تدور الأحداث. وتنشأ المشكلة، كما نتوقع، من علاقة الحب التي تتنامى بين الفتاة والفتى وظن كليهما أن في المجتمع من القيم ما يمكن أن يعقد بينهما صلة زواج هي في حكم المستحيل كما يتضح فيما بعد.

ذلك أن الظن سرعان ما يصطدم بتقاليد اجتماعية متوقعة يحاول العاشقان، خاصة الشاب، أن يذللاها. الرفض الاجتماعي يتمثل هنا بوالدة الفتاة وشقيقها. وفي حين تكتفي الأم بالرفض يسعى الشقيق إلى القضاء على الشاب ولاسيما بعد أن اكتشف أن أخته تخرج معه، ولاسيما أنه شاب أسود. هنا تستيقظ قيم الشرف وكوامن التمييز العنصري التي تحرص الكاتبة على إبراز تناقضها مع سلوكيات الشاب نفسه، فهو شاب مستهتر ولا يعبأ بتلك القيم عندما يأتي الأمر إلى سلوكه الشخصي، فهو يعاشر المومسات ويمارس الغش إلى جانب ممارسات لا أخلاقية أخرى. العملية السردية تبدأ بقيام ذلك الشقيق بضرب الشاب الأسود وتركه بين الحياة والموت. وما يتلو ذلك هي عملية استرجاع طويلة تتخللها نقلات باتجاه الحاضر بالإضافات إلى الحوارات الطويلة التي تسلط الضوء على الإشكالية الرئيسة في الرواية وهي ازدواجية القيم أو تناقضاتها.

يفضي بنا هذا إلى دلالة رئيسة من دلالات (الجاهلية) في الرواية: مجتمع يدعي الانسجام مع قيم أخلاقية رفيعة تتضمن العدالة والمساواة والمحبة يسمح بأن تسود قيم نقيضة تتضمن الظلم والتمييز العنصري والعداء. السلوك الذي يصدر من الشاب/الشقيق أحد مظاهر تلك الجاهلية، لكن المجتمع ككل مسؤول عن تلك الجاهلية أيضاً، فهو يكرسه ويدعمها، وإن عاقب أصحابها حين يتجاوزون خطوطاً حمراء معينة.

دلالة رئيسة أخرى من دلالات الجاهلية تتضمنها الاقتباسات المطلعية. هنا نتبين أن تلك الاقتباسات تنقسم إلى قسمين رئيسين: قسم مستل من أحداث معاصرة تتمثل بالدرجة الأولى بحرب الخليج الثانية (أو الثالثة إذا احتسبنا الحرب العراقية/الإيرانية حرباً أولى)، أي حرب احتلال العراق، في حين استل القسم الآخر من التراث العربي الإسلامي، وفي كلتا الحالتين تتماثل أمامنا صور متعددة وإن لم تكن شديدة الاختلاف لدلالات الجاهلية. العنف السياسي المعاصر يمثل المصدر الرئيس لتلك الاقتباسات إذ إنها تبلغ ثماني اقتباسات، بينما لا تتجاوز تلك المستمدة من مصادر تراثية الأربعة اقتباسات. وليس من الواضح السبب وراء هذا التفاوت في العدد. الواضح هو أن الاقتباسات المتصلة بالحروب المعاصرة تتصل بالعنف وبالخداع السياسي، في حين تتصل الاقتباسات المستمدة من التراث بالظلم العنصري والقبلي، أي الموقف من العبودية إلى جانب ازدواجية القيم المتعلقة بالشرف القبلي، ولعل هذا الربط هو ما أرادته الكاتبة، لكن المسألة لا تخلو من جانب إشكالي سأشير إليه تالياً.

ما يترجح لدى القارئ في اعتقادي هو أن الكاتبة أرادت أن تبرز تلك الجاهليات المتعددة من خلال الاقتباسات المطلعية متخلية بذلك عن الخيار الآخر والأكثر شيوعاً وهو الاعتماد على الهوامش، أو حتى على النصوص المتضمنة في ثنايا المتن الرئيس، كما يحدث مثلاً في رواية حديثة لصنع الله إبراهيم عنوانها (التلصص) (2007) تتخلل السرد فيها اقتباسات تمثل نوعاً من الذاكرة الاسترجاعية المضافة لعملية استرجاع رئيسة يقوم بها الصبي المتحدث وهو يستعيد أحداثاً في طفولته طوال الرواية. ما تصنعه ليلى الجهني في (جاهلية) مختلف عن كلا الأسلوبين وفي تصوري أنه يمثل قلباً لمفهوم الهامش تحديداً، بمعنى أنه يمنح المعلومة التي كان يمكن أن تكون هامشية محل الصدارة وبذلك يعليها إلى مرتبة تتجاوز المتن، فهي تأتي بين عتبات النص في مرحلة تتلو العنوان، فارضة بذلك هيمنة دلالية لا تتاح حتى لتلك الاقتباسات التي تتخلل النص. على أن من الضروري أن نتبع ذلك بالإشارة إلى أن التأثير الدلالي يظل مسألة يصعب التأكد منها، فقد يتأثر بعض القراء بما في الهامش أو ما بين ثنايا المتن أكثر مما في مطالع الفصول. لكن من غير المشكوك فيه أن تقديم الاقتباس يمثل مناورة رمزية يجريها الكاتب لمنح ما يعد (هامشياً) أو (ثانوياً)، سواء كان ذلك بسبب موضعه أو بسبب حجمه أو بسبب ما يتضمنه من معلومات خارجة قليلاً أو كثيراً عن المتن الرئيس، منحه موقعاً بارزاً ورئيساً.

فنحن ندلف إلى أحداث المتن وشخوصه ودلالاته معبئين بما تلقيناه من الاقتباس، موجهين إلى رؤية محددة تأخذ بأبصارنا وبصائرنا إلى ما يريد الكاتب أن ندركه جيداً.

ومن هنا كان ذلك التصرف إيغالاً من الكاتب في التدخل في عملية التلقي ومحاولة لفرض رؤية لا تنبع من عملية السرد نفسها.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5135» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة