Culture Magazine Monday  14/05/2007 G Issue 198
فضاءات
الأثنين 27 ,ربيع الثاني 1428   العدد  198
 

مساقات
(فِتْنَة): البنية النفسية
د. عبد الله الفَيْفي

 

 

تطرّقتُ في المساق السابق إلى بعض ملامح البنية النفسية في رواية (فِتْنَة)، للكاتبة أميرة القحطاني (بيروت: دار العلم للملايين، مارس 2007)، ومنها إعجاب البطلة بكثير من الرموز الذكوريّة، سواء تلبّست شخصيّاتهم بالأدب، أو بالفنّ، أو بالثورة السياسية، مع غياب تام لأي رمزٍ أنثويّ يبعث على الإعجاب في النص، من حيث قد ظلّت الأنثى في مخيّلة فِتْنَة تلك الأُمّ الطيّبة الضعيفة، المغلوبة على أمرها، التي تخاف عليها من أن تتبخّر في أي لحظة. وفي هذا تناقض نفسي صارخ بين ما تعلنه المرأة/ البطلة -كحال المرأة غالبًا- من ثورة على الذكورة، وتهافتها بوَلَهٍ على أقانيم الرجال، عربية وغير عربيّة! وبين ما تبديه من ثورة على قيد الأبويّة، وحُلم به، حاميًا، إذ - كما تُقِرّ فِتْنَة: (لا يمكن أن أكون إنسانة سويَّة من دون أب، الأب الذي يمنح أبناءه الأمان والثقة بالنفس) (ص116)، كل ما في الأمر أنها لم تعرف الأبوّة إلا قسوة، فعافتها ونفرتْ منها. وكذا القبيلة، التي تزعم لجوناثان- نورس أحلامها المتخيّل، رمز الخلاص من غابات القيود- أنها ستلحق بتحليقه، قائلة: (أنت تعلم لم لا أرى من الدنيا الجميلة إلا موطئ القدم، تعلم بأنني أقبع تحت.. تحت القبيلة، القبيلة السجن.. أنا أنشر القيد بمنشار صغير. نعم، هو صغير، ولكنه منشار! سأكسر قيد القبيلة.. أعتقد بأنني سأكسره وسأنجح) (ص117)، إلا أنها لا تكسره هو الآخر، ولا تنجح، وإنما تستبدل بالقبيلة قبيلة، في شكل دولة، أو في هيئة حزب، أو إيديولوجيا، وبقيدها الصغير قيدًا أكبر. وكأنما تلك القيود جاذبية الأرض، التي مهما حلّق جوناثان بعيدًا عنها سيعود إليها في النهاية. حتى إن فِتْنَة لم تَعُد تفكّر إلا في الموت مأمنًا من تشظيها وخوفها (ص117- 118).

وبما أن (جواناثانيات) فِتْنَة لم تكن عن وعي بشروط الحريّة الحقيقية وتبعاتها، بمقدار ما كانت عن احتيا ج إلى بدائل مستأنس ة لتلك الوحوش التي تتربص بها الدوائر، فلقد ظلّت تجد للرجل رائحة تميّزها - بزعمها- عن بُعد مسافات شاسعة، وبخاصة (رائحة الرجل السعودي)! وهي وإن كانت أحيانًا -كما قالت- رائحة ذكوريّة متسخة بالنساء (ص 105-106) -وفي هذا التعبير في ذاته (متسخة بالنساء)، ما يكفي من النظرة (الذكورية) الدونية إلى المرأة- إلا أنها تتعشّق تلك الرائحة، إلى درجة أنها لم تُحِبّ زوجها حمود، وإن لم تكرهه، لأنه كان -حسب قولها-: (لا شيء. فهو رجل عادي لا تفوح منه رائحة الرجل السعودي، رغم أنه سعودي الأصل)! (ص41).

وتبعًا لذلك ظلّت طموحات فِتْنَة طيلة النصّ العودةَ إلى الأب السعودي، مصدر القوة والأمن، وإنْ في صور ذكوريّة بديلة، (مَشْنُوءة/ معشوقة)، لكنها طموحات ما تفتأ تتكسّر تباعًا، أو تهزمها كلما راودتها ظنًّا بأنها هي المنتصرة، لتصل الحالة ذروتها من الاندحار النفسي فيما انتابها من خيبة التقائها بالحلم الأبويّ/ الأمير - مصدر السلطة والقوة والأمن والجمال- أو حتى رؤيته عن قُرب.

على أن ذلك الحُلم/ الأمير لم يشكّل في النصّ بطولةً، كما تزعم فِتْنَة على غلاف الرواية الأخير، إذ لم يَعْدُ كونه هاجسًا تعويضيًّا، ومتخيّلاً طفوليًّا، سرعان ما حالتْ دونه المسافات والجموع. بيد أن الشخصيّة الحقيقية التي جسّدت الحُلم وتمثّلت فيها تلك الرائحة العصيّة الفاتنة، لتُقاسم فِتْنَة البطولة واقعيًّا، هي شخصية عبدالعزيز، طبيب العيون السعودي الذي أحبّتْ، وكان أول ما جذبها إليه (كذلك) سُمعته في جفاء تعامله مع النساء اللائي يراجعن عيادته في قَطَر! إنه تلك العجينة الإنسانية التي عشقتْ، شكلاً ومضمونًا، عاطفة وانتماءً وإيديولوجيا. ذلك الرجل الذي تقول فيه: (شَمْمتُ رائحة أعرفها، رائحة أُحِبُّها، رائحة لرجل سعودي ليست كباقي الروائح). (ص119). وهي في حقيقة الأمر رائحة نفسيّة شدّت فِتْنَة إلى ذلك الطبيب: رائحة الذِّكْرَى، رائحة الأبّ، رائحة الأمن الضائع، رائحة العِلْم، رائحة المعتقد، ورائحة الرؤية، التي ظلّت فِتْنَة تتخبّط في دياجير التفتيش عن صدرها الرؤوم، كي تطمئن إليه في سفرها الكئيب، ولات مطمأنّ. عبدالعزيز الرجل المفارقة، الذي اكتشفت ذات يوم أنه يحمل أفكارًا شيوعيّة، لم تُفلح في مناقشته حولها -وإن كانت هي، كما قالت، قد مرّت بمرحلة كانت فيها (من عشّاق الشيوعيّة) (ص55)، وانضمّت إلى بعض تنظيماته الصغيرة دون أن تستمرّ- كما لم يفلح هو في علاجها النفسي لدى إحدى زميلاته من الطبيبات النفسيات، لتكتشفه بعد حين من الدهر في مكّة، وقد انقلب رأسًا على عقب، فأصبح رجلاً آخر، قادمًا من أفغانستان، بعد أن انضمّ إلى قوافل الجهاد في الخارج وفلول الإرهاب في الداخل! (ص120- 126). وهو ما بعث أسئلة كأداء في نفس فِتْنَة حول أسباب تقلّبات الولاء في الإنسان العربي، سائلة نفسها:

(ما الذي حدث ويحدث؟ ما هذه التقلّبات التي تفعل بالإنسان ما تفعل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؟ مَن الذي يُعطِّّل تلك البوصلة التي تقبع بداخلنا؟ مَن الذي يحرِّكنا ويديرنا و(يلخبطنا) هكذا؟ هل هي التربية؟ هل هي المدرسة؟ هل هي البيئة؟ هل هو المحيط؟ هل هو بيتنا؟ هل هـ...) (ص127).

وهي أسئلة تَصْدُق على تجربة البطلة كما تصدق على تجربة عبدالعزيز.

ولقد جاء حُبّ فِتْنَة لعبدالعزيز واستمرار تعلّقها به، رُغم تبدّل حاله، وزواجه بامرأة أفغانية استشهد أهلها فتزوجها (لوجه الله) -حسب قوله- ليعكس ما يُشبه على المستوى النفسي نوعًا من (عُقدة إلكترا)، حينما رأتْ فيه صورةَ الأبّ المفتقد، من حيث هو ضرورة لا مناص منها، مهما كان أو كانت. ولهذا البُعد الأبويّ، ولكي يكتمل الحُلم، ما انفكّت تُلحّ عليه أن يذهبا للعيش في أبها، دِيْرَة أبيها. لكأن عبدالعزيز قد مثّل لفِتْنَة ما مثّله الأبّ الكبير شيانغ -معلّم النورس جوناثان- في رواية (النورس جوناثان ليفنغستون)، السابق وصفها في المساق الأول من هذه القراءة. وكان عبدالعزيز، قبل أن تكتشفه فِتْنَة صدفة في مكة، قد اختفى من حياتها فجأة، للتحوّل الفكري الذي طرأ عليه، تمامًا كما اختفى ذات يوم الأب شيانغ معلّم النورس جوناثان، حينما أدرك (جوناثان/ فِتْنَة) أن دروس الطيران تكاد تنتهي، (فكان كلما مارس طيرانه إلى عوالم المحبة والحنان، أحس رغبة في الهبوط من السماء إلى الأرض ليهدي قومه سواء السبيل).

ولم يقتصر موقف فِتْنَة النفسي، (السلبيّ ظاهريًّا)، من عالم الرجال على أسرتها، بل تخطى إلى المجتمع، فشرعتْ تفاضل بين فئاته من منظور مواقف تلك الفئات -الحقيقية أو المتوهّمة- من المرأة. وهذا ما أوقع العمل في تصوير شرائح اجتماعية معيّنة، ولاسيما القَبَلِيَّة منها أو الدِّيْنِيَّة، بتشويهٍ ظاهر، ومتعمّد، يتبنّى انحيازات مسبقة، مضمِرًا خطاب تيارٍ مضادّ، لا يرَى إلا ما يريد من سلبيّات، حتى إنه ليصل إلى السخرية من مظاهر هؤلاء، (ص18)، في توظيفٍ -لا يخلو من فَجاجة- لأفكار محتشدة في اتجاه نضاليّ واحد! بل لم يقتصر الأمر على تشويه هؤلاء فحسب، بل طال أيضًا مواطنهم أحيانًا، وبيئاتهم، وثقافتهم، وسلوكياتهم، وكأنهم نَبْتٌ شيطاني بغيض!

وفي هذا كله ما يكشف مقدار ما تشربته بطلة الرواية -بوصفها نموذجًا اجتماعيًّا- من فكر مضادّ، يواجه ما يراه تطرّفًا بتطرفٍ لا يقلّ شراسة، وبنهج غير سويّ في تعامله، ولا متزن، ولا عادل، ولا قادر على أن يرى الحياة خارج خارطة عُقَده، التي نَمَتْ عبر صدمات الحياة. وهي حالة مندغمة في رؤية كالحة إلى العالم، وفق منظار أحادي العين، كثيرًا ما يلعب دوره في تمزيق النسيج الاجتماعي، شِيَعًا وتيارات وأحزابًا، مترافضة متناحرة! وفي هذا تسليط ضوء على نماذج إنسانية يكابدها المشهد الاجتماعي والثقافي. إلا أن العمل الروائي، في نضجه وكماله، ليس بخطاب منبريّ، يعلن مواقف تيّار فكريّ من آخر، ويقف عند ذلك السياج، وإلا صار بنفسه خصمًا وحَكَمًا، وصار عمله مطيّة توجُّهِه الفكري ومواقفه الخاصة، وإنما العمل الروائي تصويرٌ أمين للحياة بأوجهها المختلفة، في موضوعية نسبيّة، لا تُشعر القارئ بصوت المؤلّف، ناهيك عن صُراخه!

(وإلى دراسة البناء الفني في المساق الآتي، بمشيئة الله).

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

عضو مجلس الشورى aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة