Culture Magazine Monday  14/05/2007 G Issue 198
فضاءات
الأثنين 27 ,ربيع الثاني 1428   العدد  198
 

الثقافة العربية المعاصرة:إشكاليات حقيقية أم زائفة؟!!
د. خلف الجراد

 

 

يحدّد المفكر المعروف محمد عابد الجابري الإشكالية الأساسية في الفكر العربي الحديث والمعاصر (بأنها تتمثّل في مشكل الاختيار بين النموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة. . . إلخ، وبين (التراث) بوصفه يقدّم أو بإمكانه أن يقدّم، نموذجاً بديلاً و(أصيلاً) يغطي جميع ميادين الحياة المعاصرة ومن هنا تصنّف المواقف إزاء هذا (الاختيار) إلى ثلاثة رئيسة:

مواقف عصرانية، تدعو إلى تبني النموذج الغربي المعاصر بوصفه نموذجاً للعصر كلّه، أي النموذج الذي يفرض نفسه تاريخياً كصيغة حضارية للحاضر والمستقبل. ومواقف سلفية تدعو إلى استعادة النموذج العربي - الإسلامي، كما كان قبل (الانحراف) و(الانحطاط)، أو على الأقل: الارتكاز عليه لتشييد نموذج عربي - إسلامي أصيل، يحاكي النموذج القديم في الوقت نفسه الذي يقدّم فيه حلوله (الخاصّة) لمستجدات العصر.

ومواقف انتقائية تدعو إلى الأخذ ب(أحسن) ما في النموذجين معاً والتوفيق بينهما في صيغة واحدة تتوافر لها الأصالة والمعاصرة (1).

في حين يؤكد الدكتور طيب تيزيني أن الفكر العربي النهضوي (الحديث) هو، في مساره الإجمالي والرئيس، (فكر النهضة المخفقة، فكر الإخفاق). وهو بصفته هذه، حمل ثلاث سمات رئيسة شكّلت وشمه الراجح البيّن، تلك هي: الهجانة والإصلاحية والقصور. ولذلك يرى تيزيني أن الاضطراب والتشوش والتهشم في مواقف ومواقع النهضويين العرب جاءت كأشكال متمايزة من ردود فعل على الأفعال الخارجية الضاغطة العنيفة(2).

ويعود تيزيني ليبحث في (اللوحة الإشكالية بين الأصالة والمعاصرة) فيشير إلى أن الأنساق المكوّنة لتلك اللوحة يمكن ضبطها وحصرها في ثلاثة أساسية، هي: السلفوية (النزعة السلفية)، والعصروية (النزعة العصرية)، والتلفيقوية (النزعة التلفيقية). ويضيف مستدركاً: (لعلّه من نافل القول أن هنالك خطوطاً تتقاطع عند تلك الأنساق مشكلّة ما يمكن اعتباره امتداداً لهذه الأخيرة أو أنساقاً متاخمة تحوم حولها. من ذلك، على سبيل المثال، ما نطلق عليه مركزوية شرقية أو عربية أو إسلامية)(3).

وإذ يسترسل طيب تيزيني في تفكيك مفهوم (العصروية) فإنه يعيدها بمجملها إلى النزوع باتجاه العصر القائم - الراهن، أي العصر الغربي والراهن الغربي. وكانت النتيجة المنطقية التي تولدت من هذه النزعة هي رفض (العصرويين) التاريخ والتراث العربيّين والإسلاميّين رفضاً قطعياً على الصعيد المنهجي والأخلاقي. وكان من شأن ذلك أن أدّى إلى مواقف ليبرالية إلحادية أو ما يقترب من ذلك(4).

ويعقّب الباحث المغربي الدكتور محمد عزيز الحبابي على هذه الحوارات، فيؤكد أن المعاصرة، قبل كل شيء، تفتّح على حصيلة المعارف والفنون والتقنيات، وعلى الأفكار التي تسود الفترة المعيشة. ويستلزم هذا التعريف حرية الفكر، ومرونة الذهن للتكيّف مع ما يستحدث، في مختلف الميادين.. فالكسل، والرتابة، ورفض التطور، خصال تعادي المعاصرة.

ولا اعتراض للحبابي على استخدام كلمة (عصري) وصفاً لمن (أحسن اندماجه في القرن العشرين)، لكنه يعتقد أنّ من التجنّي على اللغة والواقع، أن تطلق صفة (عصري) على من يتقن، فحسب، رقصة (السوينغ) و(بوب ميوزيك)، ويعرف آخر موضة في الأناقة، أو يكثر من استعمال (حرمان) و(اغتراب) و(استلاب)، و(إيديولوجيا) و(ديالكتيك) و(كبح)، وألفاظ أخرى لها سحر (الموضة)(5).

وعليه يرى الحبابي أن المقابلة بين الأصالة والمعاصرة ليست سوى مسألة زائفة أو إشكالية مصطنعة. فلفظ (عصري) مشتق من عصر. والعصري من أو ما ينسب لعصر، وبما أن كل الناس عاشوا أو يعيشون في عصر ما، فكلهم إذاً عصريون.

وإذا كان بعض المجدّدين قد وضع في مقابل (عصري) زيادة على (رجعي) لفظ (ماضوي)، من (ماضوية)، وهي تعني لديهم: اتخاذ الماضي مرجعاً، على حساب العصر والمعاصرة، فإن تلك المقابلة غير قائمة في الواقع. فأبو نوّاس، مثلاً، عصري بالنسبة لعصر بني العباس، وفي الوقت نفسه، ماضوي، من حيث إن لكل شخص ماضياً، عليه يتأسس شخصه وشخصياته، وبه تحد كينونته، ويتم تشخصنها، إنه مرجعي فيما يتذكر وفيما يتخيل: الماضي حضارة وثقافة أي تراث مشترك، وذاكرة جماعية. وبما أن التواصل من أبعاد الذات العميقة، فكل عصري (معاصر) لأن (الإنسان حيوان مدني بالطبع).

وبناء عليه يجزم محمد عزيز الحبابي بأننا (كلنا معاصرون لمن تجمعنا بهم ثقافة أو تراث، لأن لنا ذاكرة شخصية وذاكرة جماعية). بل ويؤكد من جهة أخرى: أننا جميعاً، عصريون، ورجعيون - ماضويون، في الوقت نفسه، وبالتساوي(6).

ويقع كثير من الباحثين والمتفلسفين العرب في تناقضات منهجية ومنطقية حين يلّحون على موضوعة الصراع الأبدي والحتمي بين الأصالة والمعاصرة. فمنهم من يطالب باسم التقدمية، بضرورة الاستغناء عن التراث العربي - الإسلامي، لأنه (عائق أمام التفتح والرقّي... ولا بّد من تنظيف ذهننا من بقايا ما علق به من آثار الماضي)، ومنهم من وصل به الأمر إلى حدّ المطالبة بالتخلي عن الحرف العربي، بزعم أنه غير قادر على استيعاب مكتشفات ومصطلحات العصر ومجاراة سنن التقدم!!

وغالباً ما تستخدم لفظة (معاصرة) معارضة للفظة (أصالة)، حتى باتت فئة من المصلحين الاجتماعيين العرب ضحية لتلك المعارضة.

لكنّ ذلك لا يعني أن (التراث) كلّه و(الأصالة) بمجملها قابلان للحياة والعصرنة. فمن خصائص (الأصالة)، لكي تبقى حيّة لابّد أن تكون قابلة للاستثمار، أي أن تبقى دائما محلّ تكيّف وتجدّد وانفتاح على مقتضيات النهضة والتقدم. ومن دون هذا التفتح المتحرّك، تذبل الأصالة وتنعدم، عملياً، وتبقى مجرّد عبء ثقيل يعرقل مسيرة المجتمع.

ولهذا فإننا نتفق مع الفكرة القائلة: إن الأصالة هي القاعدة التي يقوم عليها التجديد، وتنعكس الهوية الخاصة والعامة في تطورها. وبدون أصالة، من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على (الأنا) أن ينسجم مع ال(نحن).

فأصالة، بهذا المعنى، لا تتعارض مع معاصرة، بل تتكامل وإياها، انها تعطي للتعصير معالم وتجارب وعبراً، فتثريه، وبالتالي تعين في توجيهه وجهة أكثر التصاقاً بواقع هذا المجتمع أو ذاك، تبعاً لأوضاعه التاريخية والجغرافية والاقتصادية.

لذلك، لا نجاري طائفة من المفكرين العرب تقدم لنا الغرب، بكل ماله من مزايا ومساوئ، كنموذج أو حد يجب نندمج فيه كي نتقدم ونتطور وننجو، ولا نجاة عن غير ذلك الطريق(7).

وهنا يبرز السؤال المنطقي التالي: إذا كان الغرب قد بنى ثقافاته المعاصرة على أصالته، فلماذا يريدنا بعض المثقفين العرب أن نقفز من لا شيء إلى حضارة القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين.. بعد أن نقبر أصالتنا ونبقى بلا زاد تاريخي ؟!

إنهم يدعوننا إلى التحزب للاتجاهات والنظريات الليبرالية الغربية، متجاهلين التجارب التيارات الفكرية والتطبيقية الأخرى، بما فيها تلك التيارات والمدارس النقدية، المنفتحة على أنماط مستجدة من العلوم الإنسانية والاجتماعية واللسانية في الشرق والغرب بآن معاً.

ونختم بالقول: إذا كانت المعاصرة انتفاضة ضد التقليد والجمود، فإن كل مثقف واع سيباركها، أما إذا أريد منها نفض اليدين من الأصالة والهوية الثقافية والقيمية والأخلاقية، وتحطيم الشخصية العربية-الإسلامية-، وسلخها عن أرضها وذاتها ومقومات وجودها، فإن مثل هذا التوجه الاغترابي لا بدّ أن يرفض ويقاوم بوعي ومعرفة وخطاب عقلاني ومنطقي متوازن، يقوم على تقديم البدائل الفكرية والواقعية والعملية، ولا يكتفي بالرفض وردود الفعل، والانكفاء السلبي على الذات..

الحواشي:

(1) د. محمد عابد الجابري، (إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر: صراع طبقي أم مشكل ثقافي، ضمن أوراق ندوة (التراث وتحديات العصر في الوطن العربي)، التي نظمها (مركز دراسات الوحدة العربية)، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية 1985)، ص- 31

(2) د. طيب تيزيني، (إشكالية الأصالة والمعاصرة في الوطن العربي)، في المصدر السابق، ص- 89

(3) المصدر نفسه، ص- 90

(4) المصدر نفسه، ص- 95

(5) د. محمد عزيز الحبابي، في المصدر السابق نفسه، ص- 99

(6) د. الحبابي، المصدر نفسه، ص- 100

(7) د. الحبابي، المصدر نفسه، ص- 101


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة