Culture Magazine Monday  14/05/2007 G Issue 198
فضاءات
الأثنين 27 ,ربيع الثاني 1428   العدد  198
 
الحضارة الغربية والحنين إلى الأخلاق
د. عبدالملك بن منصور*

 

 

خصص المفكر العربي عبدالوهاب المسيري الفصل الرابع من كتابه (دراسات معرفية في الحضارة الغربية) لحوار مطول مع مؤرخ أمريكي هو كافين رايلي متناولاً قضاياً متعددة مما جاء في كتاب الأخير (الغرب والعالم) الذي ترجمه المسيري وهدى حجازي إلى العربية ونشر ضمن سلسلة عالم المعرفة. وفي سياق محاولتي تقديم قراءة لكتاب المسيري (دراسات معرفية في الحضارة الغربية) تتناول موقفه من هذه الحضارة توقفت عند هذا الحوار لأهميته من وجهة نظري في تقديم وجهتي نظر مختلفتين إحداهما لمؤرخ أمريكي والأخرى لمفكر عربي متخصص في النقد الأدبي والدراسات الصهيونية وعلم الاجتماع المعرفي.

وفي البداية أود التعريف بكافين رايلي؛ الذي يشير إليه المسيري والذي تحدث عنه في إشارات قليلة دالة في سيرته (رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية، غير موضوعية (وذلك للعلاقة الفكرية الوثيقة والمستمرة بينهما منذ العام 1964 حين التقيا للمرة الأولى. يخبرنا المسيري في سيرته (تعلمت من كافين الكثير وكما جاء في مقدمة كتاب رايلي تعلم هو أيضاً مني الكثير) (124) قال له المسيري: (متى دخلت حياتي، فلن أسمح لك بالخروج منها). لقد تعارفا في منتصف الستينات وكان كل منهما ماركسياً وإن كانا سوياً لديهما تحفظات على التفسيرات الاختزالية للمادية البسيطة. وكانا يؤمنان بالإنسانية الماركسية ويهتمان بدور الفكر في التاريخ. يضيف المسيري: (لم يوافقني كافين في البداية ودخلنا في نقاش حاد (123) لقد كانت شكوكي بخصوص الرؤية المادية تتزايد بدرجة أكثر حدة من كافين رايلي ولكنه (أي رايلي) مع هذا كان صاحب عاطفة جياشة يدرك العالم بعقله وقلبه وحواسه وروحه). وكتابه (الغرب والعالم) يتناول تاريخ الحضارة لا بطريقة السرد التاريخي المألوف وإنما من خلال موضوعات وإشكاليات ومن خلال رؤية مركبة لا ترد عالم التاريخ والإنسان إلى عالم المادة والطبيعة ولا تعطي أي مركزية للحضارة الغربية، وإنما تقدم رؤية عالمية حقة) (125) ولعل هذا الفهم من النقاط الأساسية المشتركة بينهما. وعلينا أن نتذكر أن هذه الصداقة التي جمعتهما في الستينيات من القرن العشرين في الولايات المتحدت تمت في فترة ثورة الشباب الأمريكي ضد المجتمع بإمبرياليته واستهلاكيته وكان كلاهما نشيطاً في حركة اليسار.

ونحن نعرف من قراءة سيرة المسيري غير الذاتية وغير الموضوعية ومن كتابه (العالم من منظور غربي 2001) ومن كتابه (الحداثة وما بعد الحداثة حوارات لقرن جديد 2003) تحولاً كلياً في رؤيته للعالم. يحدثنا في تمهيده للحوار حول الحداثة وما بعد الحداثة مع الأستاذ التونسي فتحي التريكي عن هذا التحول في بداية الاحتكاك الفكري مع المثقفين الأمريكيين والحضارة الغربية عبر اللقاءات التي كان ينظمها وليام فيليبس رئيس تحرير الباراتيزن ريفيو والتي كان يحضرها: دانيال بل واريفنج هاو ولسلي فيدلر وسوزان سونتاج حين اكتشف وهو المؤمن بالعقلانية والاستنارة وقدرة الإنسان على تغيير واقعة وتجاوز ظروفه اهتمام كبار مثقفي الولايات المتحدة باللاوعي والأساطير والانتحار والمخدرات واللذة الجنسية والشكل الذي لا مضمون له أو المضمون الذي لا يمكن لشكل أن يحتويه. ويوضح لنا المسيري أن إدراكه المبكر لهذا التطور للفكر الغربي تجاه اللاعقلانية والعدمية قد غير من الصورة الإدراكية التي ينظر من خلالها إلى هذه الحضارة ويلخص لنا التراجع الذي حدث في الحضارة الغربية في تراجع الجوهر الإنساني لصالح شيء غير إنساني: الآلة، الدولة، السوق أو شئ أحادي البعد: الجسد، الجنس، اللذة يقول: (إن المنظومة التحديثية بدأت بإعلان الإنسان وانتهت بالقضاء عليه).

وعلينا أن نتوقف قليلاً لتأمل تلك المفارقة التي يحياها الغرب الذي بتأرجح بين التقدم التكنولوجي والفراغ الفكري والوجداني الذي أفقده بوصلته الإنسانية فتشاكلت عليه الاتجاهات وتاهت منه الطرق وسنستعين بتحليل الأستاذة الفرنسية جاكلين روس التي تصف لنا ذلك في كتابها (الفكر الأخلاقي الجديد) إجابة عن سؤال هل يحفل العالم اليوم في عصر العولمة وما بعد الحداثة بالأخلاق. حيث تؤكد على مفارقة أو إشكالية أساسية وتتمثل هذه المفارقة في الرغبة إلى العودة إلى الأخلاق في عصر ما بعد الحداثة بعد أن غابت وتلاشت في عصر فقد فيه اليقين وتزعزت الأساسات ونزعت عنه القداسة وهو ما يسميه المسيري (التغير والحداثة وانفصال القيمة).

وتبين لنا مجموعة أسباب أدت إلى ضياع وتلاشي الأخلاق في عصر الحداثة هي أولاً إفلاس المعني والفراغ الأخلاقي النظري. فالأزمة التي يحياها الإنسان أزمة في الحقوق ومفهوم العدالة وهو ما عبر عنه هانز يوناس (أننا نرتعد الآن في عراء عدمية تتراوج فيها أكبر قدرتنا مع الفراغ الذي نحيا فيه). بالإضافة إلى غياب المنظومات الكبرى

وموت الأيديولوجيات وهو السبب الثاني وقد أشار إليه ليوتارد فاختفاء الحكايات الكبرى بعد أساسي من هذه العدمية الشاملة بوصفها عصر انتهت فيه الغايات وتلاشت القيم العليا وهذا يرتبط بالسبب الثالث لغياب الأخلاق، فحين تختفي الحكايات الكبرى وتنحل الأيديولوجيات تظهر الفردية بشكل سافر، حين يطرد المتعالي وتغيب الغائية يمهد الطريق ليتخذ المرء ذاته قيمة عليا وتسود الفردية. إذا كانت الفردية في مرحلتها الأولى تعتز بالفرد مقابل السلطة وتعتز بقدرته على تحقيق غاياته في بناء العلم وتطور الصناعة فإن الفردية الآن تشير إلى انتصار الفرد على القواعد الإلزامية؛ أفراد متمردين على كل القواعد والإلزامات تعبيرا عن الرغبة في المتعة اللامتناهية النرجسية، فتحولنا إلى عالم من النراجسة. وأخيراً يأتي تطور العلم والتكنولوجيا، فالعلم الذي كان مصدر تقدم الإنسان ورفاهيته وأمنه تحول من أداة في يد الإنسان إلى معبود يخضع له وأصبحت التكنولوجيا تثير الخوف من أخطارها على الإنسان.

وترى جاكلين روس أن هذه الأسباب نفسها هي التي تجعل الإنسان يشعر بالحنين إلى الأخلاق وتبصر ذلك في عدة أمور وهي التأكيد على الفاعل الحر المستقل الواعي الذي يعد مبدأ أساسياً في الأخلاق، والسعي إلى تجديد مجموعة من المبادئ المتعارف عليها والتي أحيت الإنسانية كالدين والجهد والشعور بالمسؤولية واحترام قيمة الحياة ثم ظهور مبادئ جديدة في الفلسفة المعاصرة مثل مبدأ التواصل والعيش سوياً وأخلاقيات الحوار.

ومن هذا التحليل نقرأ حوار المسيري وكافين رايلي، الذي يؤكد على هذه المبادئ والذي يؤكد على ضرورة التحول من المادية والحياد إلى الأخلاق والالتزام والتأكيد على ثبات الطبيعة البشرية وتجاوز أخلاق الصيرورة والإجراءات والحداثة والمنفصلة عن القيمة على النحو التالي:

يرى المسيري في الفقرة الأولى من حواره مع رايلي أن علينا الانتقال من المادية التي تسم الحضارة الغربية ومن الحياد المزعوم إلى الأخلاق والقيمة وذلك بالتأكيد على ضرورة إكمال النسق العلمي الذي يجزئ العالم بالنسق الحيا بيئي التكاملي (ص177) يقول: (علينا أن نفزع وأن نقاوم حتى ننتقل من علم الوصف والتاريخ وعلم اجتماع المعرفة إلى عالم الأخلاق ومن عالم الزمان الآلي إلى عالم الزمان الإنساني والزمان المقدس). ويبين أن الفردية التي تسود الحضارة الغربية، الفرد المستقل المنفصل الفاقد الاتجاه لا يختلف كثيراً عن العلم المنفصل عن القيمة ويرد على كافين رايلي بقوله إن قيمة التفرد أو الفردية التي يبشر بها صاحب الغرب والعالم وبالشكل الذي يطرحه تشكل هي نفسها المجال الذي يتحرك فيه ذلك النوع من العلم الذي يصفه بأنه الآفة الكبرى.

ومقابل أخلاق الصيرورة يرى أن علينا لإعادة صياغة أنفسنا لندخل العصر الحديث أو لنستوعب العلم والتكنولوجيا يجب أن نضع نصب أعيننا النكبة الحضارية في الغرب، حضارة الإجراءات وأخلاقيات الصيرورة والعلم والتكنولوجيا المنفصلين عن القيمة.

وإذا كان البروفسير كافين رايلي يرى أن التغير هو المفتاح الأكيد لفهم العصر الذي نعيش فيه، فهو انطلاقاً من نزعته التاريخية يؤكد على أن كل ثقافة فريدة وأن الحياة ليست سوى التغير فإن المسيري يبحث في حقيقة التغير ويتساءل هل كل أبعاد الإنسان تتغير وإذا ما كان هناك شكل من أشكال الثبات؟ ويوضح أن الإيمان بالتغير كمطلق ويقين أوحد وغاية وهدف قد يؤدي إلى لا شيء ولعله يؤدي إلى دمار الإنسان والكون إن لم نفترض مركزية الإنسان في الكون واعتبار الإنسان هو الغاية وأن الهدف من وجودنا في هذا الكون هو تحقيق إمكانياتنا الإنسانية التي تتجاوز حدود المادة المتغيرة.

يؤكد المسيري على المشترك بين البشرية الذي يتيح العيش سوياً فكيف يتأتى لنا أن نعيش سوياً دون أن تكون هناك قيم عامة نستند إليها حين نحكم على أنفسنا وعلى الآخرين ومن هنا يشيد باستخدام رايلي مفهوم الطبيعة البشرية، لأنه بدون هذا المفهوم لا يمكن أن نتجاوز أو نصدر أحكاماً، ذلك أن المفكر العربي يعتقد أن إنكار وجود طبيعة بشرية ثابتة هو محاولة واعية للهرب من الميتافيزيقا والإيمان بما وراء المادة، أنها محاولة غير واعية للهرب من الأخلاق. فإن كانت الطبيعة البشرية ثابتة يصبح من الممكن توليد معايير أخلاقية منها.

وعلى هذا الأساس ومن إلحاحه على هذه المسألة وهي الحنين الجارف لديه ولدى الكثير من مفكري الإنسانية للأخلاق يقول (إن إدراك الإنسان أن ثمة طبيعة بشرية ثابتة نوعاً وأن ثمة جوهراً إنسانياً؛ يصبح من المحتم أن تتحول تلك الطبيعة إلى نقطة ارتكاز فلسفية ينبع منها نسق أخلاقي يثري الإنسانية. تلك هي المحاولة التي يسعى إليها عبد الوهاب المسيري من وراء كتاباته المتعددة من تحليل واقع الحضارة الغربية الذي نتخذ منه نموذجاً وذلك من أجل تجاوزه لإيجاد أساس للأخلاق.

* اليمن.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة