Culture Magazine Monday  14/05/2007 G Issue 198
نصوص
الأثنين 27 ,ربيع الثاني 1428   العدد  198
 
الباب المكسور
أسماء الزهراني

 

 

ليلة شتوية:

طرقات هزت سكون تلك الليلة.. التفتت شذا باتجاه الباب:

- معقول نوف للآن ما نامت؟

- ليش ما تكون نوير؟

- لاااا.. لا تقولين!!

كنت قد حركت المفتاح.. حين دفعني الباب للوراء.. انفجر من فتحته وجه مشرفة المبنى نادية.. وشهقة فزع من قاع حنجرة شذا.. أما أنا فوقفت أعدل هيئتي وأنا أنظر ببرود غبي لهاتفي النقال بين يدي نادية.. تدسه في كيس نفايات.. بعد أن قطعت عنه أسلاك الحياة.

- رجاء أقفلي الجهاز قبل ما تخرجي من هنا.. (هتفتُ بها).

- بإمكانك أخذ الجهاز من مسؤولة العهدة وقت خروجك مع ولي أمرك.

- أكيد.. خروج نهائي إن شاء الله.

وضحكنا بجنون.. كانت الغرفة ما زالت تتنفس شهقات شذا الفزعة.. مع ذهولي بنظرات بلهاء.. حين دخلت نوف تعبث بشعرها.. يتساقط النعاس من أهدابها.. وتسأل: أين القنبلة الموقوتة؟ وهل نجا أحد؟

قررت نوف أن تمسح بقايا النعاس في عيونها برائحة البن المحمس على الطريقة الشمالية.. وشرعت في طقوس قهوتها.. تتابعها بشغف لهطلان الحكايات - عيون الموقد الصغير في ركن صالتنا المشتركة.. أنا ومنى ونوف ورابعتنا الشرقاوية، سرّ مبنانا الذي انهارت دون فك رموزه كل مسابقات التكهن الممهورة بخاتم الفراغ وحده.

رائحة القهوة تشي بليلة أخرى طويلة من ليالي الرياض الشتوية.. حيث يتكاتف الأرق في ساحات سكن الطالبات الممتدة.. يقطع طريق البصر صوب نهاياتها.

- هيفاء.. ألم أخبرك؟ كان اتصال قيس الملوّح في هجير الهوى هو ما أزعج منامي.. لو يعرف أن ليلاه قبض عليها متلبسة بحيازة هاتف نقال!!

- يا الله.. مسكين.. هو من كان يهتز النقال بأرقه.. داخل كيس مضبوطات نادية.

***

موسم خصب خاسر:

يتوسط بستان النخيل مباني السكن الجامعي.. يقال إنه جزء من وادٍ مندثر.. استوطنته الحكايات.. صفوف النخيل الممتدة تلك.. كم ستر شموخ قاماتها من انكسارات.. كنا قد اعتدنا حين يطفح من أعيننا الأرق أن نريقه على عتبة البستان المرتفعة قليلاً.. نطل على رؤوس النخيل، نتخيلها تنظر إلينا.. نقرأ في حفيف أغصانها المصطخب تواريخنا.. شموخها في عزلة وسط أحجار الرصيف التي تطوقها بصرامة جوفاء.. ما يسقط منها من جنى تدوسه أقدام البلادة على امتداد الممرات.. حيث تتناثر البقع الحمراء وتشكل لوحة من رقصات انتحار جماعية.. يؤديها النخيل كل موسم خصب خاسر.

تلك الليلة.. قررنا حضور طقوس الحداد.. وجلسنا ثلاثتنا نترقب بصمت.. رؤوس تشق فضاء الخيبة بجلال.. تنخلع من تجربة فاشلة لتلبس تجربة أخرى.. تقبل التحدي رغم كل ما يحمله ثوب الأمس من ثقوب.. وفي تلك الليلة بسطت شذا التي تصطفيها الرؤى من دوننا نبوءتها الأخيرة.

- أنت يا نوف أقفلت الباب وأنت تبتسمين وتركتني أقفل بابي وأنا أنتحب.. لكن قبل أن أقفل بابي رأيت باب هيفاء ينفتح مرة أخرى.. آه نسيت أن أقول إنها أول من أغلقت باباً منا.

ثم أمضينا بقية الليلة مع قصة السفينة الجبارة التي حطمها جبل الجليد.. كانت نوف تحكي قصة فيلم (التيتانيك) الذي شغل عطلتها الأخيرة في قالب فلسفتها هي.. أسبغت عليه أحلامها ورؤاها للحياة.. ارتأت نوف أن السفينة الجبارة هي روح حب متوقد أو قامة حلم سامقة.. لا فرق.. وجبل الجليد هو الحياة بكل يبوسة الواقع فيها.

***

صباح مبعثر:

صباح مبعثر بين العقل والقلب.. أمي تكرر الاتصال كل ساعة تناقشني في لون ثوب الخطوبة.. والدكتور محجوب ينتظر مني تسليم البحث خلال يومين.. وأشتكي من تصلب فقار الرقبة جراء العكوف مشدودة الأعصاب لساعات على الأوراق.. ولولا بيروقراطية نادية الفارغة كنت وجدت وقتاً للحديث معه.. على الأقل أعرف عنه أكثر قبل أن أقترن به للأبد.. كانت خطبتي لقيس تقليدية.. هجس بها صغار العائلة قبل كبارها.. قيس مكتوب في باطن كف هيفاء.

فرصتي في إعداد مقبلات خيال تلائم حفلة حياتي مع قيس بكل ما يكتنفها من إحداثيات المستقبل المجهولة.. ضعييفة.. ليس لدينا امتحانات.. ولا تعترف أمي بأن الأبحاث المطلوبة في كل مادة تفوق الامتحان ألف مرة في صعوبتها.. وهكذا كان عليّ أن أكون على الشاطئ بعد أربعة أيام و10 ساعات من الآن.. بصرف النظر عن أي ظرف.. حيث سأشغل دور العروس في أحد أشد مشاهد الحياة صخباً.. وأكثرها عشوائية.. رغم ما ينفق في التخطيط على دروبها من ساعات يصطرع فيها سواد الآلام وبياض الآمال.

- التفاحي لون الفرح.. (قالت شذا).

- لكني أعشق الأرجواني.

- يا شيخة بلا غم.. الفضي يعطي فخامة وبعداً أعمق للمستقبل.. (قاطعتنا نوف)، وأمي تنتظر على الهاتف.

- خلاص يمه.. خليه فضي.. والموديل على ذوقك الحلو..

***

رائحة الرؤيا:

في العيادة الصغيرة وقفت الممرضة تحاول تثبيت العدسات الطبية في عينين نديتين.. دمعات تطفر بعفوية لم أستطع تفسيرها ولا حبسها.. وبالكاد استطاعت إتمام مهمتها وهي تكظم غيظها بصعوبة.. تركتها تعمل بحرية بينما أنا منشغلة بالبحث عن دواء التحسس.. لعله يوقف تدفق المياه من عيني.. تمنيت لو تقبل شذا اعتذاري عن حضور درسها النموذجي.. يبدو هذا الصباح مشحوناً برائحة الرؤيا.

- كم مرة أحتاج أن أذكّرك بعدم تفويت موعد الفحص الدوري يا هيفاء؟!

- مشاغل لا تنتهي.

- ونفسك.. ما لها نصيب من مشاغلك؟

تابعت غادة سلسلة ملاماتها وهي تسجل الوصفة الجديدة.. وسرحت أنا في الحبل الممتد بين ركني الغرفة.. وقد عُلقت فيه بالونات ملونة.. علامة استفهام كبيرة ارتسمت فوق إحداها.. آخر انتصبت فوق وجهه المشدود علامة تعجب.. عادت بي الذاكرة إلى غرفة غادة في السكن، حيث كنا نتندر بوجوه غادة المتحولة.. يرتبط وجود المستفهم منها بهبوط قلب جديد في جدب غادة.. أما المتعجب فيمثل (حضوراً) بين قوسين.. وتفترش الأرض دمية موقوتة بصوت الباب.. تستقبل الطارقات.. دفء ينبعث في الغرفة مع ندائها المبحوح.. غرفة غادة حيث مخبأ الوجوه التي تحتلها العلامات.

لملمتُ ما استطعتُ الإمساك به مما انبث في الغرفة الأنيقة من علامات السنين.. وتركت بعضها لغادة.. وكانت قد باشرت إشعال شمعاتها المعدة لطقوس الاسترخاء.. بينما تنفث أصابعي في يمناها تميمة وداع.. خرجت من عيادة غادة (رابعتنا الغامضة بعد أن غادرت قوقعتها).. ومررت بمدرسة الصغيرة آمنة (كما أحلم).. كان أمامنا طريق طويل.. صوب بيتنا الذي انكسر بابه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة