Culture Magazine Monday  14/05/2007 G Issue 198
قراءات
الأثنين 27 ,ربيع الثاني 1428   العدد  198
 
قراءة في أدب ما بعد الحداثة
مجموعة: (صحراء تخرج من فضاء القميص) أنموذجاً
عبدالله بن عبدالرحمن الزيد

 

 

بعد مجموعته الأولى: (عيون على بوابة المنفى) الصادرة عام 1993م، والثانية الصادرة عام 1999م بعنوان: (بحر يجلس القرفصاء).. أصدر الشاعر (دخيل الخليفة) مجموعته الشعرية الثالثة (صحراء تخرج من فضاء القميص).. عن دار (المدى) للثقافة والنشر.

والمجموعة تضم عنوانين كبيرين هما: (صحراء نَقَشَتْ وشْمَها في الذاكرة) و(وجوه معلقة في الفراغ)، الأمر الذي يعطي انطباعاً أولياً بأن بين دفتي المجموعة مجموعتين شعريتين..

وفي كل الأحوال ليس هناك من مشكلة.. فالمجموعة - كلاً - تشير إلى نضج فني ومعماري في كتابة القصيدة المعاصرة، وبخاصة ما يتعلق من ذلك بقصيدة الومضة أو القصيدة - الفلاش.. إذ يغلب على نصوص المجموعة قصر المقطوعات بشكل لافت.

أما الشكل الفني للقصائد، فهو في غالب القصائد من نوع (النثيرة) أو (قصيدة النثر) في حين تشتمل المجموعة فيه على جملة من قصائد التفعيلة، وتحديداً على بحر واحد هو بحر (المتدارك) المبني على تفعيلة (فاعلن).

وقصائد المجموعة تعبر عن وهج يتردد دون مواربة ولا تسديد، وهج من الضياع والشتات والحزن الشفيف واللوعة وحميمية الشعور بالإنسان المُسْتَلَب والصحراء المُقْفِرة والأرض القاسية.

يجيء ذلك كله بمترتباته وبمشاهده وبعنفوانه وبانكساره كذلك ضمن لوحات شعرية تتراوح بين الواقعية بزخمها وبين الخيال المفرط في الركض خلف صيغ الخلاص الذي يأخذ في كثير من صوره المكثفة نهايات السراب والفناء المحقق.

يفتتح الشاعر مجموعته ولوحاته تلك بقصيدة وجودية تذكر بأصل الحكاية.. يقول:

(أينما يمّمُوا الريح..

واستوطنوا دمهم..

عبروا حلمهم خاسرين الحداء..

وعلى رِمْث دلتهم..

سهروا..

خلعوا وتد البيت من صبره

أفلوا..

تاركين الربابة

تستلهم الحلم من جرحها..

يقرؤون المدى..

يعشقون الصدى..

خسروا نجمهم

إنما..

ربحوا الانتظار الطويل..!

.....

رقصوا

لحنين المزامير..

لكنهم

خلفوا ضوءهم - ظلهم

في مكان... بعيد

فانطفا بين أثوابهم قمر..

...........

وانتهى الأمر

لم يسألوا غدهم عن تمرده

يجهلون المسافة..

ما بين عشب البراءة..

والبحر..

لكنهم..

سلموا الأمر..

للغيب

واحتشدوا

هذروا خلف دلتهم

عن عفاريت

كانت تشاغب جرأتهم..

في الظلام..

وعن كل شيء..

في المساء

مسحت نحلة البيت فانوسها

ثم..

ناموا..

ولكن بعض العفاريت

قد طرقت بابهم..

اختفوا). من قصيدة (الذين خلفونا معلقين في الهواء).

هذا المشهد المشحون بالأسطورية الواقعية فعلاً يرسم بالكلمة المثقلة بالدلالة والإيحاء (الأهل) الذين انحدر منهم الكاتب، يرسمهم في أكثر حالاتهم تفتيشاً عن (الوَنَس) و(الكيف) الآنيّ الذي لا علاقة له بما سيكون.. ذلك الابتهاج اللحظوي المفصول تماماً عما قبله وما بعده في سياق من البراءة التي تعزّ على احتمالات الهموم وشكاية البال.

لقد (مَسْمَرُوا) خشب الحلم، وانتهى الأمر، وسلموا أمرهم للغيب، وهذروا خلف دلتهم.

وعلى إيقاع النهايات اللذيذة والعفاريت التي لا تغفو انتهى المشهد، وما انتهى الإرث الذي حمله الأبناء، اختفت الأصول ببراءتها وبقيت الفروع مثقلة بهموم اليقظة والمعرفة والوعي. إذاً كانت تلك مشاهد الحكاية وعذاباتها.

وتسرد المجموعة - عبر لوحاتها المعبرة - جملة من قاموس الأرض - الصحراء التي فقدت براءتها وصارت أمّارة بالسوء؛ ففي مقطوعة (ذاكرة ولد صغير):

(الصحراء مزروعة بالخراف

يا صديقي..

وكلب واحد لا يكفي لحراستها..)

وفي مقطوعة: (يرون الجمل في الصور فقط):

(مثل رئيس عائد من عرس النار

كانوا في ضوضاء المدينة..

يشكلون هلالاً بشرياً حول جدّى

مندهشين..

من رغاء ناقته الكبيرة..

وشواربه المفتولة مثل سهم حاد..

بينما النسوة الحضريات

يرتجفن من بعيد...).

وفي مقطوعة (براءة):

(سارحين كنا

بقطعان السحاب الأبيض

صغيرين..

مثل ريشتين في الهواء..

وببراءة شديدة قال:

عندما يفاجئنا الذئب

نختبئ وراء الخروف).

وفي مقطوعة (ضيف على غير العادة):

(ذات غفوة

أحسّ بنعومة في الفراش

في الصباح

صحا على أفعى تتمدد بحضنه

فقط..

ترك لها فروته

وانسلّ بهدوء تام

ليقدم لها قهوة الضيف

عندما تصحو..).

وتتوالى الصور المثرية تحكي دلالات الأصل والفصل والصحراء وهي تعبر ذات الشاعر في تكوين سهل ومن دون تعقيد.

ولا ينسى الشاعر (أو هو لا يستطيع ذلك) - وهو في غمرة قراءاته الأثنية لصحرائه وأصوله الممتزجة برمل الوطن وترابه - أن يرسم لوحات مماثلة تسجل واقعه الذي يعيشه ويتفاعل به وفيه ومعه؛ واقعه الذي يختلف تماماً عن الأجواء التي عاشها الذين (تركوه معلقاً في الهواء). يقول في قصيدة (صديقان):

(ثمة شوك..

يملأ راحتينا عندما نتصافح..

تحديداً..

بعد غياب متخم بالوشاية..

أتذكر..

خيالين بدشداشة واحدة..

يتسلقان جدار الأبجدية

باتجاه ضفة

أكثر رحابة من صدر مدرس اللغة..

حينها لم يكن في جيبي..

ما يكفي من الهواء..

نكسر ضلع الشارع

باتجاه (مطعم الغزال)..

نأكل..

نهذي..

نهدم..

نبني..

ونضحك..

نحلم بأشياء أكبر من رؤوسنا

ومن كوب الشاي يطل (غيثارا)..

هازئاً..).

أما معاناة الشاعر المتمثلة في الإحساس المرير بالتشتت والضياع وفي شدة الخوف من المجهول المنتظر وفي عدم ارتوائه من الأرض والوطن فنجد ذروة الإفصاح عنها في قصيدة (فجأة وجدت ضحكاتهم). وفي قصيدة (بحثاً عن جهة خامسة) يقول من القصيدة الأولى:

(أشعر بغربة إضافية..

يد تمتد من صندوق البريد..

ترسم لي بيتاً بحجم عشرين غرفة..

أنا المنبوذ أدناه..

لي إخوة وأصدقاء..

وأكثر من عشرين خارطة..

يراودها الشك في دمي..).

ومن القصيدة الأخرى يقول:

(أسهو..

لأصطاد الهوس في الشارع

أعبئ الوقت

في ذاكرة من طين

نتشظى في بئر لا تتسع لشخص

يعشق الهواء

و...

كمن يبحث عن موته في الركام

أنذر الضوء

لخارطة أكثر اتساعاً من ثوب أمي

...........

أيها الوقت:

ها أنذا بين عقربيك

دون لافتة تدل العابرين على بقاياي

خذ وترى الحزين

وامنحني قمر الحضور

لأزرع الهوس في الشارع

فقط..

أعد لي وجهي القديم..

أعدني لبعضي..

لأطير إلى جهة خامسة..

ولو بجناح مكسور..)

أما طريقة الأداء لدى الشاعر ومعمارية القصيدة لديه فتمتاز بالسمات الآتية:

1- التكثيف الشديد في الصورة والمشهد الشعري (اعتماد الفلاشات المعبرة).

2- شعرية العبارة النثرية.

3- توظيف المعتاد واليومي.

4- شعرنة الكلمات والمصطلحات الشعبية.

5- الاستعانة بتوظيف الفلكلور القديم الناطق والصامت.

6- اعتماد الحوار والمونولوج الداخلي في القصيدة.

ومجموعة (صحراء تخرج من فضاء القميص) أنموذج حيّ للمرحلة التي وصلت إليها القصيدة المعاصرة في الخليج العربي، ويمكن أن يجد فيها الراصد والمؤرخ الأدبي صياغة حقيقية لأدب ما بعد الحداثة التي عاشها الخليج العربي خلال العقود الثلاثة الماضية.

ولعل بعنوان المجموعة دلالات شعرية وأدبية ومعنوية بلا حدود؛ فخروج الصحراء من فضاء القميص أمر ليس بالسهل ولا بالهين على الصعد كافةً.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة