الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 14th June,2004 العدد : 63

الأثنين 26 ,ربيع الثاني 1425

زوايا.....
أيُّ قيم تحكمنا!!!
أمل عبدالله زاهد
عرض مسلسل (طاش ما طاش) في رمضان الماضي حلقة تسلِّط الضوء على المظهرية في مجتمعاتنا، وعلى قدرتها على التغلغل في نفس الفرد السعودي والتي قد تصل إلى التحكم والهيمنة على كثير من الأمور الرئيسية في حياته، مفسدة شؤونها ومخربة كيانه الاقتصادي والنفسي، وقد تقلب حياته رأساً على عقب في سبيل الحصول على ما يلفت إليه الأنظار أو ما يجذب إليه الاهتمام. وبالطبع تناولت الحلقة الموضوع بطريقة ممعنة في السخرية والتندر، وغالباً ما تذهب السخرية إلى أقصى مدى حتى تبرز الجانب المراد تصويره ووضعه تحت مجهر العرض والتحليل، فتلجأ إلى التضخيم والمبالغة الزائدة في رسم خيوط هذه القضية أو تلك، حتى تنتزع تلك الابتسامة المبطنة بالإحساس بالمرارة، والمغلفة بالألم من وضع معين يرفضه المنطق وتستهجنه الفطرة السوية.
دارت أحداث الحلقة عن الأرقام المميزة سواء في لوحات السيارات أو أرقام الجوالات، وكيف يُقاد الشاب كالأعمى في طريق التفاخر والتظاهر والتباهي، ويتمادى حتى يصل إلى ذلك الحد الذي من الممكن معه أن يفقد المسبب الأصلي لوجود اللوحة أو لاقتناء ذلك الرقم المميز. كأحد أبطال الحلقة الذي فقد سيارته نفسها في سبيل اقتناء لوحة ذات حروف وأرقام مميزة، وتصل السخرية إلى حافة تجرع المرارة وابتلاع الآلام حين يضع لوحته المميزة على عنق حمار امتطاه متبختراً بأرقامه المميزة. وعندما حاولت أن أسال عن واقع الحال بالنسبة لما عرضته الحلقة عن اللوحات والأرقام المميزة، اكتشفت أن المبالغة لم تقفز على الحقيقة كثيراً، ولم تتجاوز أبعادها الحقيقية بخيال خصب لا يمت إلى الواقع بصلة، وأن المبالغ التي تُوضع كأسعار للوحات والأرقام المميزة مبالغ خيالية بالفعل، وأن كثيراً من الناس في مجتمعاتنا مستعد لوضع نفسه في أوضاع قد تعرضه للخيبة والخسارة في سبيل (الفشخرة أو الكشخة)، ولزوم انتفاخ الأوداج بمظاهر الثراء والعز.
وهو مرض يسري في الشرايين العربية ويتدفق في دمائنا فنقتني أشياء لا نحتاجها، ولا نستفيد منها، ونسكن بيوتاً لا نشغل إلا أطرافها المتواضعة، بينما ندجج غرف الضيوف بما يسر الأعين ويبهج النفوس ويضخم الذات، ونسعى حثيثاً إلى امتلاك كل ما يضعنا في دائرة الضوء ويشعر الآخرين بأهميتنا وتميزنا، وينتهي بنا الأمر بأن نصبح نحن ملكاً للأشياء بدلاً من أن تكون الأشياء ملكنا.
وهذه الظاهرة واحدة من ظواهر كثيرة موجودة في مجتمعاتنا العربية ومعظمها وليدة الازدواجية وطفلة النفاق، وتتكون في أحضان موبوءة بالعقد النفسية، تصارعنا ونصارعها، حتى تصرعنا رافعين لها الراية البيضاء، وتاركين لها الساحة خالية تعيث بقيمنا فساداً وبمبادئنا تحطيماً، وتلقي بنا في براثن أوضاع لا نحسد عليها. تحدث الدكتور على الوردي عالم الاجتماع العراقي المعروف عن الازدواجية في المجتمعات العربية المتدينة، قائلاً إنها غالباً ما تبدأ وتتشكل بوجود صراع نفسي شديد الوطأة ما بين قيم البداوة وقيم الدين الإسلامي العظيمة. قيم البداوة التي يرسم التفاخر بالحسب والنسب والمال والجاه، والتعصب القبلي، والكرم غير المقنن خطوطها الرئيسية، وما بين قيم الدين الإسلامي التي تدعو إلى العدالة والمساواة وإلى الارتقاء بالنزعات البشرية وتهذيب الرغبات الجامحة، وإلى التركيز على تفاضل الناس بالتقوى وبمكارم الأخلاق والتدين الحقيقي البعيد عن التظاهر والرياء. يدور هذا الصراع النفسي في أعماق الفرد، ويتأرجح ما بين رغبته في الامتثال لقيم الدين وإطاعة أوامر الخالق، والتي يشدد عليها الوعّاظ في خطبهم وندواتهم، وما بين قيم البداوة المسيطرة والمتجذرة داخل فكره وتكوينه النفسي. ثم لا تلبي كفة قيم البداوة والقبلية أن ترجح، ويستقر الصراع النفسي، وتظهر تلك الرغبات الدفينة الموجودة في الأعماق، معبرة عن نفسها وفارضة صوتها لا ترضى لقيم البداوة بديلاً.
والسبب الرئيسي لانتصارها يكمن في أن قيم الدين تصبح هاجساً عند الفرد لا يستطيع تحقيقه على أرض الواقع وذلك لارتفاع المقاييس التي يضعها الوعّاظ، وابتعادها عن طبيعة النفس البشرية وتغافلها عن الضعف الموجود فيها، وعن حقيقة تكوينها، ولمطالبتها بسطاء القوم بالامتثال لأوامر الدين متغافلة عليه المجتمع ووجهاءه، وكأنما تعاليم الدين وُضعت لتنفذ على طبقة وشريحة معينة. وهكذا تسيطر الازدواجية لتصبح سمة من سمات الشخصية، ويكون الشخص عادة جاهلاً بازدواجيته غير مدرك لأبعادها، فلا يستطيع أن يتخلص منها لأنها تصبح جزءاً من شخصيته وقطعة من تكوينه النفسي.
لن نستطيع أن نتخلص من البدوي الذي يسكننا، وتسيطر قيمه على تفكيرنا وتفاصيل حياتنا إلا بالاعتراف بمرضنا وإدراكنا لأبعاده وملامحه، وتسليط الضوء على مشاكلنا، وامتلاك الشجاعة الكافية للنقد الذاتي، وللقيام بتلك الرحلة الشاقة داخل نفوسنا.


amal_zahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved