الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th July,2003 العدد : 20

الأثنين 14 ,جمادى الاولى 1424

الذاكرة النسوية
قراءة في رواية "وجهة البوصلة" 2/1
حسين المناصرة

"لن ولا يجب أن اتجاهل أن في داخلي "أمراً غريباً" "امرأة غريبة".. "فضة" قالت ذلك.. كل صديقاتي، والمشاكل في حياتي سببها هذه الغربة.."
"صوت الراوية/ البطلة، ص137"
لا شك أن الذاكرة النسوية، بما تمتلكه من عداء او حسد على حد تعبير الدراسات النقدية النفسية المعاصرة للجنس الآخر "الذكور"، سمة تميز الكتابة النسوية على وجه العموم، وقد اتضحت بعض معالم هذه الذاكرة في قراءتنا لروايتي:" الارض اليباب" لليلى الجهني، و "خاتم" لرجاء عالم.. ولا تخرج بدورها رواية "وجهة البوصلة" لنورة الغامدي عن هذا السياق المعجون بالذاكرة النسوية، مع ميل واضح لدى نورة الغامدي الى تداعيات الثرثرة المنولوجية وتشعباتها التي كما يبدو تكشف عن تأثرها كثيرا بكتاباتها الصحفية، وبكتابتها للقصصية القصيرة، خاصة أن بعض اجزاء روايتها نشرت سابقا في صحيفة الجزيرة!!
ان الرؤية النسوية التي تظهر من خلال منظور الرواية/ البطلة في "وجهة البوصلة" تقدم صورة المرأة الضحية في عالم الرجال، فتبدو الرواية في الاساس تجربة مأساوية عاشتها كل من هذه الرواية/ البطلة وصديقتها/ قريبتها "فضة"، حيث تتشكل خلاصة الرؤية النسوية في عبارات عديدة تصف الرجال بأنهم "كلهم متشابهون.. كلهم يسمعون ولا يعون.. كلهم رجال شرقيون.. جراء.. ترضع من كلاب.. لتكون في عنفوانها كلابا" "ص 36" في حين نجد صور النساء تختزل في صور الحمامة الغريبة:" الحمامة امرأة.. ان اطلقوها ملأت الدنيا بكاء، وان اسروها اثقلوا جناحيها بخلاخل الذهب" "ص 275".
في هذا السياق "او المنظور" النسوي "سياق مواجهة الذكورة تعيش المرأة "الراوية وفضة على اقل تقدير" تجربة المرأة الغريبة "الغربة الجسدية والنفسية" في مواجهة كل من رجلي الواقع والحلم، حيث الرجل الواقعي او الرجل الكلب "ثامر" الشهواني الذي يهدف بتصرفاته الى أن يسقط المرأة ويستغلها جسديا، وخاصة المرأة التي تعشق كيانها وانسانيتها "انظر ص 124".
ولأن المرأة ليس بإمكانها ان تعيش في معزل عن الرجل، فإنها تبحث عن الرجل الحلم او الرجل الامنية "شخصية علامة" الذي يحرك المرأة ويلهب احساسها من خلال "صوته.. حركته.. حديثه.. لغته.. لفتاته.. احساسه المرهف" "ص 136".
على هذا النحو ، لا تقدم الساردة "نورة الغامدي" رؤية نسوية انفصامية تهدف الى هدم العلاقة بين الرجل والمرأة على الطريقة النسوية الامازونية العصابية، وانما تنشئ طريقة للتواؤم بين الجنسين من خلال الحوارية والايمان بقدرات الآخر، حيث انها تكتب بحميمية عن شخصيات الرواية كلها على الرغم من اختلافها مع الكثير منهم، وتكتب ايضا بحميمية عن المكان، وتقيم في نهاية المطاف في حياة الراوية/ البطلة حياة حقيقية متوقعة على الرغم من ما في الحياة الحقيقية الواقعية من مآسٍ، بل انها تجعل بطلة روايتها والعم جبر معا يبكيان قرب القبور التي حوت في جوفها شخصيات الضعف والقوة معا، فجعلت ضعف فضة الجدة وبنتها بركة وحفيدتها فضة بجانب قوة الجد العظيم، وسلطة العم السبتي، بوصفهما خلاصة القوة والعنف.. فتبدو الحياة في ضوء هذه المفارقات كذبة كبيرة، خاصة في حياة المرأة التي تبدو من وجهة نظر الساردة:" لا تحرق مجاهرة انما يمص دمها في الليل المستور حتى تذوي، فتموت.. فتنسى" "ص46"!!
على هذا الاساس تبدو الكتابة النسوية في هذه الرواية ذات ملمحين واضحين:
الاول: التعمق في تصوير المرأة الضحية في العلاقات داخل المجتمع، بحيث تصبح المرأة مأساة من ولادتها غير المرغوب فيها الى وفاتها المأساوية في سياق من سياقات المعاناة، ولعل تجربتي الحب والزواج هما ابرز الملامح التي تتوغل من خلالهما الساردة الى تصوير معاناة المرأة الداخلية، يضاف الى ذلك أن حركتها خارج المنزل تواجه بقيود كثيرة تحت عنوان "العيب"، مما يجعلها في نهاية المطاف في تصورها سجينة المنزل وشئونه، وهذا يضيع عليها فرصة حقيقية في ممارسة الحياة الطبيعية في تصورها، تقول البطلة عن نفسها:" لا اتذكر انني حاربت من اجل نفسي.. بل أترك للآخرين حرية استعبادي، واعتبر ذلك كرماً.." "ص32"!!
الثاني: التعمق في تصوير الرجل النمطي السلبي الذي يضطهد المرأة، ويسعى الى استغلالها والحط من منزلتها، وتكون علاقته في العادة بها لا تتجاوز الشهوة الجسدية مما يجعل صور الرجل صوراً قاتمة، لا تنتمي الى عالم الاخلاق والانسانية.. فالرجال على حد تعبير جميلة زوجة السبتي "كلهم مرضى.. وقذرون" "ص 106".
في ضوء هذين الملمحين تصور الرواية النساء ضحايا، مع تركيز على حياة الرواية/ البطلة وصديقتها فضة، بحيث تصبح الرواية مأساوية في تصوير المعاناة الناتجة عن حبهما او زواجهما، مما يشكل رؤية نسوية مشحونة بسياق المرأة الضحية، وكذلك تصور الرواية الشخصيات الذكورية شخصيات غير رحيمة، او غير انسانية، نرى هذا واضحا في قسوة العم "عبدالرحيم السبتي" في ظل تعدد زوجاته، وفي شتائم ابنه "حمود السبتي" وزيجاته المتعددة، وفي البحث عن تعددية العلاقة غير الشرعية بالنساء عند الطبيب "ثامر الزبيدي".. وفي عربدة عبود السبتي واختطافه للنساء قبل أن يتوب!
ربما يصعب على قارئ هذه الرواية ان يمسك بخيوطها المتشابكة كلها، خاصة ان الرواية تقوم على تداعيات السرد، والثرثرة المتعددة الاطراف، والدمج بين الازمنة بعضها مع بعض.. لذلك لا تتشكل رؤية كاملة لسياق الرواية قبل اتمام قراءتها، لتغدو الرواية في نهاية المطاف حكايات متداخلة بعضها مع بعض.. يمكن أن نشير الى هذه الحكايات ومولدات الحكي البارزة من خلال العلاقات التالية:
العلاقة الوطيدة التي قامت بين الراوية/ البطلة وقريبتها "فضة"، بحيث أصبحت هذه العلاقة مليئة بأسرار اسرية كثيرة ابتداء من تصرفات الطفولة وحتى اسرار الحب والزواج!!
العلاقة بين الراوية/ البطلة فضة والطبيب ثامر الزبيدي، وتلاعبه بمشاعرهما، بحيث استغلهما معا تحت ستار الحب، مما جسد ازدواجية الرجل، وضياع المرأة في سياق هذه العلاقة غير النظيفة وغير الشريفة.
العلاقة بين الراوية: البطلة فضة وحمود السبتي/ ابن عمهما الشيخ عبدالرحيم السبتي، حيث تزوجتا هذا الرجل في زمنين مختلفين بناء على رغبة الشيخ السبتي، فظهر زواجهما سلبيا، مما مكن الساردة من فضح علاقات الزواج التي لا تقوم على الحب والتفاهم، خاصة في ظل الاسر المحكومة بسطوة الرجل الكبير وهيمنته على الاسرة والقبيلة معا!!
العلاقة بين فضة والموت من خلال ولادتها لابنها البكر، فيشكل هذا الموت رؤى مهمة عن وضع المرأة في البيئة الاجتماعية التي تنظر اليها بوصفها مجرد رحم لانجاب الذكور تحديدا، مما يجعل من موت فضة بنية اسطورية خاصة في سياق اختفاء جثتها، وعمل جثة بديلة من القش.
العلاقة بين الراوية/ البطلة من خلال الهاتف بالرجل "علامة" في سياق من سياقات الحب او اللغة التي تجعل الحنجرة الذكورية بارعة في توليد لغة حياة فاعلة، مع التخوف من أن تغدو هذه العلاقة في نهاية المطاف مجرد اصوات لا تنتمي الى الواقع الحقيقي، او ان تكون مجرد صدفة من الصدف، او اسطورة من الاساطير.
العلاقة بين المرأة والمكان، حيث تبدو العلاقة بالقرية الجنوبية حميمة ومتناقضة في الوقت نفسه، وتحديدا العلاقة بالبيت الكبير والمزرعة، والوادي العظيم، والمقبرة، والمدرسة.. وكذلك العلاقة بمدن جدة، وابها والرياض.. ونجد في هذا السياق اشارات حميمة الى مأساة فلسطين من خلال العلاقة بالعم جبر.. واشارات اخرى الى بغداد من خلال حرب الخليج، حيث تجري احداث الذاكرة/ الراوية في اواخر التسعينيات كما يفهم من سياق السرد في غير موقع!!
العلاقات بين الناس في القرية من خلال الزراعة والرعي، والاعياد، وحفلات الزواج، والتعليم، وعلاقات القربى، وهيمنة الجد الكبير، ومن بعده العم الكبير، لتصبح العلاقة القبلية هي البعد الذي يربط العلاقات بعضها ببعض، بحيث تصبح قرارات العم الكبير "الشيخ السبتي" هي القرارات النافذة، خاصة في مجالات الطلاق والزواج، مما يعني هيمنته البطرياركية الابوية على العلاقات كلها، وعلى الجنسين ذكورا واناثا، فتصبح النساء مجرد سلع في قرارات الرجل الكبير من وجهة نظر السرد!!
تشكل هذه العلاقات ذاكرة الراوية/ البطلة، دون غياب التعددية الصوتية عن بنية السرد، كما سنلاحظ فيما بعد. لكن ما يهمنا هنا هو ان المرأة المحور في هذه الرواية، وهي الراوية/ البطلة، هي منبع هذه العلاقات، وهي بالتالي من يجري بنية السرد في اطار ثنائي من الناحية اللغوية: لغة الحاضر المفعمة بالامل والحب والدعوة الى الحياة كما تبدو من خلال الحوارية اللغوية الفاعلة بينها وبين "علامة"، حيث تبدأ الرواية، وتنتهي، وهي تعانق هذه اللغة.. ولغة الماضي المفعمة بالسواد والمعاناة، فتظهر المرأة المحطمة من خلال الفشل في الحب مع ثامر، والزواج الاجباري من حمود، والعلاقة غير الحميمة بالآخرين الذين يتوعودن امرأة لم تخضع لتصرفاتهم التي تضطدهها، سواء أكان هؤلاء الآخرون رجالاً ام نساءً!!
تبدو أزمة الذاكرة النسوية كامنة في استلاب حقوق المرأة، وبالتالي تشييئها في البنية الاجتماعية المحكومة بالهيمنة الذكورية، فتصبح المرأة من وجهة نظر السرد غير قادرة على ان تنتج حياة مستقرة وآمنة، وهذا ما يحدث في حياة الرواية/ البطلة ابتداء من تفكك اسرتها الاولية عن طريق الطلاق بين امها وابيها، لان الاب تزوج اخرى، فعاشت البنت في بيت عمها، تحت مراقبة العيون وقيود ابوية تجعل البنت ملفوفة بشرنقة، في حين تمنح الحرية الكاملة للمذكر، الى حد تصبح معاناة المرأة يومية، وخاصة في مجال الزواج والطلاق، وانتهاء بكونها معلقة على ذمة حمود!!
من هنا تصبح مصائب الآخرين ذات فوائد في حياة المرأة، فمأساة فلسطين هي التي جعلت العم جبر اباً حنوناً يعطف على الفتيات، ويستر اسرارهن، وقد يصفعهن ان تمادين في فضح اسرارهن على طريقة "ان بليتم فاستتروا" وحرب الخليج هي التي اتاحت بعض الحرية في التنقل والسفر الى جدة.. ومأساة زواج فضة الاجباري من حمود هي التي اتاحت الفرصة لتكون العلاقة اقوى بين الراوية/ البطلة وثامر.. والموت والمرض يساهمان بدورهما في انتاج بعض الفوائد، وهذا ما يحدث تحديدا بعد موت الشيخ السبتي!!
لكن موت فضة اثر كثيراً على الراوية/ البطلة، بحيث اصبحت تشعر ان فضة تتلبسها، ولم تغادرها روحا وجسدا، وهذا ما يجعلنا نفسر فضة على انها حياة الراوية/ البطلة في الماضي، فما تعجز الراوية البطلة عن كشفه من خلال علاقتها بالآخرين، استطاعت ان تكشفه عن طريق معادلتها/ فضة في التحام البنية السردية، بحيث تصبح مأساة فضة من ولادتها الى موتها حالة استثنائية في ازدواجية المرأة بين الحياة والموت، الحرية والقيد، الجرأة والخوف، الحب والزواج، الخرافة والثقافة، الواقعية والرومانسية، الواقع والوهم، الغباء والتغابي، التستر والفضيحة.. وكان فضة من الناحية العملية هي البطلة الحقيقية في الرواية، بوصفها البطلة النسوية الضحية قبل غيرها، وان الرواية/ البطلة هي البطولة النسوية الثقافية الواعية التي تعرف كيف تسير بين الاشواك القبلية، لتقطف الوردة التي تحلم بالعيش معها، وهي وردة الرجل المختلف "علامة".
ان الشخصيات كلها في الرواية تتصف من خلال الذاكرة النسوية ببطولة سردية بطريقة او بأخرى، فالسبتي بطل نمطي، يرضع الآخرين حليب الذكورة العظيمة التي رضعها بدوره من ثدي الجد العظيم، وارضعها لابنه حمود من بعده، وتبدت في تصرفات عبود السبتي، ووالد الراوية، ويوسف والد فضة وغيرهم!! والجدة فضة بطلة في تحولاتها من اميرة حضرمية الى جارية مخطوفة في بيت السبتي، بحيث قبلت في نهاية المطاف ان تكون امرأة ضحية مستلبة روحاً وجسداً، فأرضعت حليبها لابنتها بركة، ثم لحفيدتها فضة، والاخريات كلهن نهلن من هذا الحليب بوصفهن يعبرن عن بطولة الاستلاب النمطية، يتضح هذا في تصرفات جميلة وزينة زوجتي السبتي، وعذبة زوجة حمود وغيرهن!! وثامر الزبيدي يعبر عن بطولة الرجل النمطي صياد النساء، الذي يهمه أن يستغل المرأة، وان يعدد علاقاته اشباعا لشهواته، فيصير انتهازياً بلا اخلاق!! والعم جبر بطل فلسطيني نمطي يعيش مرارة الشتات التي تحكم تصرفاته واخلاقه!! من خلال هذه الرؤى المكونة للرواية يمكن القول بأن رواية "وجهة البوصلة" رواية عميقة في توصيفها للتجربة النسوية كما تعاش في الواقع، لا كما ينظر اليها في وسائل الاعلام المختلفة..
هل يعني الكلام السابق ان تكون الرواية سيرة ذاتية بطريقة او بأخرى!!.. تبدو مغامرة الاجابة عن هذا التساؤل تحمل النص اكثر مما يطيق، لأننا لا نستطيع ان نحيل الروايات النسوية الى النمط السيري، لأن الكاتبات يموهن كثيرا في هذا السياق، ومن الصعب ان ندخل في هذا المجال، حتى لا ندفع باتجاه محاكمة النساء من خلال كتاباتهن، لذلك اتقنت الساردة جماليات التعبير عن سيرة بطلتها "الراوية/ البطلة" وعن العلاقة المتداخلة بين هذه البطلة والبطلة الاخرى "فضة" فكانت الرواية من الناحية النسوية رواية عميقة الدلالات في التعبير عن الذاكرة النسوية وتصادمها مع الواقع، وخاصة مع الحركة الذكورية التي تهيمن على هذا الواقع وتشل فيه اي حركية نسوية فاعلة من وجهة نظر السرد!!.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved