الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 14th August,2006 العدد : 166

الأثنين 20 ,رجب 1427

أهم الظواهر الفنية في شعر عبدالله زكريا الأنصاري «1-2»
أ.د. سهام الفريح

إن شعر الأنصاري يغلب عليه الشكوى الذاتية، والمشاعر الحزينة وفيه سعى إلى الهروب من هذه المشاعر، والبحث عن ملاذ لنفسه المعذبة والقلقة، فلم يكن حديث الحب وحده هو الملاذ، إنما الحديث عن الشعر بذاته وسيلته للتعبير عن ذاته المعذبة، حتى أمسى هذا الحديث ظاهرة في شعره يفرغ فيه شكواه من الواقع الاجتماعي الذي يدفع به في بعض الأحيان إلى الحنين إلى الماضي، وهو حنين إلى قيم يجدها نبيلة وأصيلة، مع ما كانت عليه حياتهم في الماضي من بساطة وشظف في العيش. أما شعرُهُ في المرأة، والذي بدا فيكادُ يخلو من الصور المادية التي يصور فيها إحساسه بجمال المرأة، وإنما تغلب عليه الصور المعنوية التي يضمنها القيم المثالية، التي تتمكن باقتدار من نقل إحساسه بالجمال بصورته الإنسانية الرفيعة، لذا لم تكن صور الأنصاري الذهنية مبتذلة في وصف جمال المرأة، وهو أمر تجدر الإشارة إليه بعد استقراء جميع قصائده الغزلية التي وقعت إلينا، وكما بينت هذه الدراسة، إلا في قصيدتين أو ثلاث ظهرت فيها الصور الحسية في وصف علاقة الحب أو في وصف امرأة تغزل بها في إحدى قصائده. كما أن هذه الصور التي استخدمها، ليست بالصور التقليدية، أي نعني بها صور الشعر العربي القديم التي أبقى عليها كثيرون من شعراء العربية حتى عصرنا الحاضر. أما الأنصاري فقد جاء شعره في المرأة مختلفاً عن شعر غيره من شعراء جيله، لذا لم تصدر صوره الغزلية عن أخيلة نمطية، وإنما جاءت بخاصية جديدة أملتها عليه قيمة الإنسانية الرفيعة، التي فرضت سطوتها الحادة على حياته، ومن ثم نتاجه الفكري عامة والشعري خاصة، والأنصاري في شعره هذا يقف موقفاً قوياً تجاه المرأة.
لذا فقد عبّر الأنصاري عن واقع الحياة في عصره وبيئته عبر مضامين تلك الفترة مع عنايته بالمشاعر الإنسانية، فلم يكن عندها رومانسياً كمذهب شعراء جيله منغمساً فيها، ولا هو واقعياً بما في الواقعية من جفاف في بعض الحالات، وإنما كان شاعراً يعبر عن معاناته وهموم الحياة في زمانه (فكان واقعياً في مضامينه، رومانسياً في انفعالاته وعواطفه وتعبيراته وأحساسيه).
وان للشعر وقعاً طيباً في نفس الأنصاري، يجعله وهو يعيش عالم النظم الشعري يغفل كل ما حوله حتى يتلاشى، ولا يجد إلا نفسه والشعر ليتوحد معه في حميمية عجيبة، حتى نجده يجسم الشعر ويشخصه حتى يتعالى في القصيدة شامخاً وكأنه الخليل والصاحب الذي لا يفارقه في الحياة؛ يبثه أسراره ومكنونات نفسه باطمئنان وسكينة لا حدود لهما. لأنه يجد ذاته في الشعر، وكأن الشعر له وحده، والكتابة بكل أشكالها للآخرين. لعل هذا الجانب كان السبب في أن يكون الأنصاري ضنيناً بأشعاره لم يكشف عنها ولم ينشرها لأنها ذاته ومكونات نفسه التي لا يريد لها أن تشيع بين الناس. وقد بدأ هذا التلاحم بين ذات الأنصاري وشعره منذ فترة مبكرة من عمره الفني، كشفت عنه أشعاره التي نظمها في فترة الأربعينيات والخمسينيات، ولم تتميز بها قصائده في الحرب والمرأة فقط. وإنما تبرز عنده عندما يثور الشعور تجاه الحدث، فقد يكون الحدث وطنياً أو قومياً أو غيره كما في قصيدته (ثورة النفس) التي نظمها حول قضية فلسطين، إلا أن مقدمتها التي امتدت إلى (15) بيتاً تعبر عن تلك العلاقة التي تكونت بين الشاعر والشعر:-
كم تغزلت بالحسان الملامح
وتغنيت بالظُبا والرماح
إنه الشعر تارة يفتن الغي
د وطوراً يهزّ بيض الصفاح
وبه كم أزحّت هماً عن النف
س وأججت ثورةً للكفاح
إنما الشعر سلوي وغنائي
في غدّوي أشدو به ورواحي
فامتزجنا في شعوري شعري
وانقباضي به ومنه انشراحي
فقد كان الشعر سلوته وغناءه في غدوه ورواحه. حتى امتزجا في ذات واحدة. وكان الشعر في بعض حالاته هو دواء للشاعر.
ويراعي بين الأنامل طوع الأ
مر يجري مسطراً أتراحي
كلما حال في خيالي فكرٌ
خطه مسرعاً طليق سراح
ارسل الشعر من جناني لحوناً
وأداوي به بليغ جراحي
حتى يصل إلى هدفه من نظم القصيدة في قوله:
نكأ الجرح ما أصاب فلسطي
ن من الجور والأسى الملحاح(3)
فملامح الرومانسية تتضح في هذه القصيدة وفي غيرها من ديوانه، حيث تتعالى النزعة الذاتية في تصوير واقع الحياة على وجدانه، وما تخلفه فيه من جراحات عميقة. فليس الحب وحده الذي يهز مشاعر الأنصاري ليطلقها من عنانها إلى حلقات النظم، وإنما تهتز مشاعره الجياشة للعديد من القضايا لأنه إنسان شديد الحساسية دقيق الشعور.
والشعر الرومانسي هو الذي تطغى فيه الأنا على خطاب الشاعر، ولا يكون الشعر إلا وسيلته للتعبير عن هذه الأنا، ولا يهمه العناية بالقيم الجمالية للشعر قدر عنايته به، ولقد ظهر ميل الأنصاري إلى هذا المذهب واضحاً جلياً حتى في آرائه النقدية. (...).
ولنقف أمام هذه القصيدة التي اسماها (الأمر أمرك) ويعني به الشعر، والتي نظمها بتاريخ 2-2-1979م يخاطب فيها الشعر أو وحي الشعر هي:
ريحُ الُّنبُوَّةِ فيك تُحيي من عَبيرك كُلَّ مَيْتْ
أنَا من سَمَائِكَ قد هَبَطْتُ وفي سبيلكَ قد مَضَيْتْ
أنا ما قصدتُ سواكَ أَلْتمسُ الحياةَ وما نَوَيْت
أنتَ الحياةُ الحقُّ إني في مَنَاكِبها سَعَيْتْ
أنا منك يَاعَبَقَ النُّبوَّة مَا ارْتَدَدْتُ ومَا انْثنيتْ
كم رحتُ أسْعَى نَحْوَ فيئكَ مُسْتظلاً وَانْضَوَيتْ
أهَجرْتني أنَسِيتني أقََلَيْتني فيمن قَلَيْتْ
اهبطْ عَلَيَّ فَإنَّني يكَ قد بَدَأْتُ وما انتَهَيْتْ
اهبط لأَنْسُج من حُرُوفِك مَا وَدِدْت وما هَوَيْتْ
وأصوغْ منه خَواطِري شَتىَّ وأُعْلي ما بَنَيْتْ
وَأمْسَحْ به كُلَّ الجُرُوح فَكَم بُحْرقَتِها اكْتَويَتْ
يَاليْت أنَّكَ طَوْعُ أَمْري لَيْسَ غَيْرُك لَيْتَ لَيْتْ
فالأمر أمْرُك ليسَ غيرُك إنْ أَرَدْتَ وإن أبَيْتْ
مرايا الذات ص
وهذه الحميمية التي نُسجت وشائجها بين الأنصاري وبين الشعر لم ترد أمثلتها في أبياتٍ معدودة من شعره، وإنما تعدتها إلى قصائد كاملة هي للشاعر في مخاطبة الشعر ومناجاته وبقيت هذه المناجاة بين الشاعر والشعر لسنين طويلة لم تنحل وشائجها، ولم تنقطع، فإن كانت القصائد التي استشهدتْ ببعض أبياتها هذه الدراسة كانت قد نظمت في السبعينيات فإننا نجدها تمتد حتى هذه المرحلة فنعثر على قصيدة له (وما الشعر إلا عناء الحياة) فقد نظمت بتاريخ 15-1-1997م تظهر ارتباط الأنصاري بالشعر ذلك التلاحم الذي، وأن هذه العلاقة تذكرنا بعلاقة أبي نواس بالخمرة التي كانت أيضاً ملاذه والصدر الحنون الذي يرتمي في أحضانه ليبثه أنينه وشكواه.
عجبت من الشعر في أمره
وحيرني في مدى سره
فالشعر يصد ويهجر وتتداخل المعاني في إطار ألفاظ الحب فلا ندري إن كان يتحدث عن الحبيب الذي أشقاه هجره أم يتحدث عن الشعر؟
حبيب تناجيه في صدّه
وتطرب منه ومن سحره
يصد ويهجر هجر الحبيب
وطوراً ينهنه من هجره
تناجيه إمّا استبدَّ الهوى
وحرّقك الوجدُ من جمره
وفي هذه الأبيات تبرز تلك الحميمية بين الشاعر والشعر ويبرز قوله في الشعر واضحاً لا لبس فيه.
فيرخي إليك زمام الكلام
تضوع الجوارح من نشره
لكنه الحب الذي يسعى إلى إخفائه يظهر أحياناً بين ثنايا تعلقه بالشعر:
فتقطف الوردَ من خدهِ
وترتشفَ الخمرَ من ثغره
وتغدو رضياً هني الفؤاد
تميل وتغفو على نحره
وتسبح في حالمات الرَّؤى
وتستنشق العطر من زهره
مرايا الذات ص
لقد طغت المشاعر الحزينة على فضاءات بعض قصائد الأنصاري، حتى بدا فيها الشاعر، وهو في حالة من اليأس والتشاؤم، الذي يأخذه إلى التفكير في قضايا الحياة والإنسان، وكان شأن شعراء جيله المتأثرين بالرومانسية اتخاذ الحب أو الطبيعة أو الخمرة وسيلتهم في التعبير عن هذه المشاعر، إلا أن شعر الأنصاري كان وسيلته للخلاص والتعبير عن مآسي الحياة وبخاصة الإنسان، وما تخلفه من أثر في قلبه وما تجسده من حزن في نفسه الحساسة، كما في قصيدته (ياعروس الخيال)
أسكتت سَوْرةُ الشجون غنائي
فتلاشت أصداؤه في الفضاء
وعَروس الخيال شرَّدها الوهـ
م فتاهت في ظلمة ظلماء
ونَشيدي، وَأين منيّ نشيدي؟
ضاعَ في لجة من الأهواء
وتَداعت هياكُل الشعر صرْعَى
فوق هذي البليةِ الهوجاء
وخلال هذه النزعة الرومانسية يبرز في خطابه الشعري الحنين إلى الماضي، وهو حنين فرضته القيم النبيلة التي ربطها بقيم الإسلام وهو في الوقت نفسه يحتج على ماطرأ على مجتمعه الجديد من قيم زائفة جعلته يتمنى باندفاع عودة حياته الماضية كما في قوله:
يا عروس الخيال مالي ارى الكو
ن أراه في فتنة حمقاء
يا عروس الخيال مالي أرى العر
بَ يسيلون في مصب الفناء
أسكرّتهم دنيا المطامع حتى
أغرقتهم في بُؤرةِ الخيلاءِ
فتردَّوا في حمأةِ الذلّ والإث
مِ، وتَاهوا في مهمة الإغراء
والذئاب الذئاب أهوّت عليهم
بسياط الأذلة الجبناء
أتراها تعود أيامُنا الغرُ
وتَغدو مليئة بالبْهاء
أتراها تعود تلك الليالي
زاهياتٍ تفيض بالنعماء
حُلمٌ داعب الخيال وَوَلّى
كالرؤى لاح طيفها للرائي
ذاكَ عهدٌ مضى، وألوى به الدهر
وعفّى عليه أيَّ عفاء


(مرايا الذات ص)

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved