الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 14th August,2006 العدد : 166

الأثنين 20 ,رجب 1427

كيف يرى المثقفون الأمريكيون قضايانا؟
سعد البازعي

حين نتحدث عن الموقف الأمريكي تجاه القضايا العربية، خاصة الصراع مع إسرائيل، فإن الحديث غالباً ما ينحصر في الموقف الحكومي الأمريكي، دون أن يشير إلى مواقف تعبر عنها شرائح أخرى في المجتمع الأمريكي، سواء كانت اقتصادية أم إعلامية أم ثقافية. الاقتصاد والإعلام ليسا غائبين تماماً عن الوعي العربي كما تعكسه وسائل الإعلام العربية من خلال الأخبار أو من خلال ما ينشره الكتاب في تلك الوسائل، فما تبثه الوكالات الغربية وتنشره الصحف يدخل الوعي الشعبي والنخبوي العربي وإن على مستويات متباينة. ما يغيب غالباً هو الناحية الثقافية والفكرية، فقليلاً ما نسمع رأياً صادراً عن مفكر أو كاتب شهير حول العرب وصراعهم مع إسرائيل. ولعل جزءاً من ذلك يعود إلى أن أولئك المثقفين بعيدون فعلاً عن وسائل الإعلام التي يمكن أن تنقل آراءهم، أو أنهم ليسوا مشغولين بتلك القضايا، على الأقل على المستوى العام، أي أن آراءهم ليست مما يحرصون على بثه على الناس.
غير أن هذه التحوطات والاحتمالات لا ينبغي أن تقلل من أهمية التعرف على ما يقوله أولئك بالبحث عنه أولاً ونقله كلما أمكن ذلك. فالمثقفون في أي سياق حضاري أو اجتماعي هم العقل المفكر في ذلك المجتمع، والمثقفون هنا، سواء في السياق الأمريكي أو غيره، ليسوا بالضرورة المختصين بالعلوم السياسية أو العاملين في مؤسسات البحث المعروفة ب (الثنك تانك) Think tank التي تعطي استشاراتها للحكومات والتي تعد، في الولايات المتحدة بالذات، من أنشط المراكز في العالم وأضخمها حجماً وتأثيراً. المثقفون يشملون أولئك المختصين لكنهم ليسوا محصورين في فئتهم. فهناك إلى جانبهم شريحة أخرى قد تكون مهمشة رسمياً على الرغم من حضورها البارز أو أنها تنأى بنفسها عن الخطاب الرسمي في نوع من التهميش الذاتي الذي يتضمن نوعاً من الاحتجاج غالباً.
تلك الفئة الأخيرة لا تحضر حتى في وسائل الإعلام الأمريكية بأنواعها المختلفة إلا لماماً (ومن هنا قد يبدو من المفارقة أن نتوقع من المتابع العربي أن يعرف عنهم شيئاً إذا كانوا غائبين أو شبه غائبين عن الساحة الإعلامية الأمريكية نفسها). لكن الإعلام الأمريكي، كما يعلم الكثيرون، من أكثر وسائل الإعلام سطحية في العالم الغربي، من ناحية، ومن أكثرها تشويهاً للحقائق، من ناحية أخرى، على الرغم مما يمتلكه من قوة ضاربة في التأثير والانتشار، من ناحية أخرى، وهو من هنا غير معني بالثقافة الجادة أو برأي المثقفين، إلا في حالات نادرة. لكن هذا لا يعني جواز إغفال التعرف على ما يقوله أولئك المثقفون سواء بشكل مباشر أو غير مباشر في أعمالهم، فتأثير ذلك كله يصل وإن على نحو بطيء وغير منظور. لكن أهميته الحقيقية، في تقديري، ليست في ذلك التأثير بقدر ما أنها في كونه يعكس صورة الثقافة في مجراها العميق، المجرى الذي يبقى وتتراءى فيه الشخصية الحضارية الأكثر ديمومة. أقصد هنا ما نقرأه في كتابات المفكرين أو الفلاسفة، وفي ما ينشر من روايات أو ما يمثل في مسرحيات أو ما تتضمنه قصائد تعد من الأدب الجاد، أو ما يتمثل في الأعمال الفنية على اختلافها من تشكيلية وغيرها.
في الفترة الأخيرة تبين بعض ما أشير إليه في الأثر الذي ينسب إلى الفيلسوف الألماني ليو ستروس، كما يرى الكثيرون. فالأكاديميون الذين تسنموا مناصب في إدارة جورج بوش ممن يعرفون بالمحافظين الجدد وتركوا أثراً واضحاً لعل أبرزه حرب العراق، كانوا من تلامذة ستروس الذي تنسب إليه أفكار تناقض الديمقراطية وتدعو إلى هيمنة الأقلية، إلى غير ذلك. ولم يخف الذين كتبوا عن ستروس أنه يهودي في ربط واضح لأفكاره بموقعه الإثني والاجتماعي أي بكونه يسعى إلى تعزيز موقع اليهود في النظام الأمريكي (وكان معظم تلامذة ستروس المشار إليهم، مثل ولفوتز وألان بلوم، يهوداً بالفعل). فقد كان ذلك المفكر ممن تركوا ألمانيا في الثلاثينات لاجئاً إلى الولايات المتحدة حيث أقام وعمل في مجال التدريس الجامعي بوصفه أمريكياً حتى توفي عام 1973. بيد أن الصورة السلبية التي رسمت لستروس ما لبثت أن تعرضت للنقد عندما أصدر مؤخراً أستاذ في جامعة ييل كتاباً يدافع عنه فتناوله البعض بالتعليق ونفي ما نسب إليه.
بيد أن الأثر لا ينبغي أن يكون سلبياً أو إيجابياً بشكل مباشر أو ظاهر لكي يوجد، فمؤلفات مفكر مهم مثل ستروس على مدى أربعة عقود لا بد أن تترك أثرها، لاسيما أنها تتصل مباشرة بالفكر السياسي وتشكل الأيديولوجيات، وكتب ستروس معنية بالفعل بمفكرين أثروا في مجرى الفكر الإنساني من خلال نظرياتهم في الحكم والسياسة بشكل عام، مثل مكيافيللي وهوبز، وقبل ذلك بأفلاطون وأرسطو وغيرهم. ومن الطبيعي أن تصطبغ كتابات ستروس من هذه الناحية بموقعه الإثني وبمعاناته من النازية التي اضطهدته وشردته وأن يصدر في تنظيره السياسي عن تلك التجربة بغض النظر عن قيمتها أو صحتها. كما أ ن من الطبيعي أن يترك ذلك أثره، إن قليلاً أو كثيراً، على الحياة الفكرية والسياسية في الولايات المتحدة التي تستعين حكوماتها، كما سبقت الإشارة، بالمختصين في الجامعات والمعاهد ودوائر البحث، وأن ينعكس ذلك كله أو بعضه على موقف الحكومة الأمريكية من الصراع العربي-الإسرائيلي، بل وأهم من ذلك على مواقف عامة المثقفين من ذلك الصراع.
لكن ستروس وتلامذته ليسوا الوحيدين المؤثرين هنا، فهناك أسماء مهمة تسهم بآراء مختلفة تجاه ما يعد في أمريكا صراع إسرائيل ضد العرب، أو ما تصوره وسائل الإعلام الأمريكية (السي إن إن وغيرها) بوصفه (دفاعاً) إسرائيلياً عن الوجود والقيم الديمقراطية (كأنما إسرائيل هي المستضعفة وممثلة قوى الخير في الوقت نفسه). وهناك الكثيرون، أن لم نقل الأكثرية، ممن يتبنون هذا الرأي، وبعض أولئك - يا للسخرية - من ذوي الأصل العربي، مثل فؤاد عجمي الذي يشغل منصباً أكاديمياً رفيعاً ويعمل مستشاراً في الوقت نفسه للحكومة الأمريكية (عمل سكرتيراً لكوندوليزا رايس، مثلاً). ولعل من غير المستغرب أن يكون هذا الرأي هو المقبول لدى المثقفين اليهود الأمريكيين، كما يتضح من كتب تنشر بين الحين والآخر: مثل كتاب صدر مؤخراً عنوانه: (ماذا تعني لي إسرائيل) يعرض في واجهات المكتبات الأمريكية ويجمع مقالات بعضها لا يتعدى الصفحة الواحدة من بعض المشاهير في الحياة الأمريكية لاسيما وسائل الإعلام (مثل لاري كنغ، مذيع السي إن إن، الذي عرفت للمرة الأولى أنه يهودي شديد الاعتزاز، كما يقول، بإسرائيل).
لكن عجمي ولاري كنغ ليسوا المقصودين هنا بالمثقفين الأمريكيين. المقصود مثقفون أمريكيون أكثر أهمية وتمثيلاً للمشهد الثقافي الفكري الأمريكي، مثل هارولد بلوم وفيليب روث وجورج شتاينر ونعوم تشومسكي ورتشارد رورتي. بعض هؤلاء هم من أرى أهمية التوقف عند مواقفهم من أهم القضايا العربية، وهو ما لا أعد بفعله كما ينبغي في المقالة أو المقالات القادمة لكني سأحاول أن أرسم بعض ملامح قد تساعد على رسم صورة أكبر وأكثر تفصيلاً وتدقيقاً.


albazei53@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved