الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th November,2005 العدد : 129

الأثنين 12 ,شوال 1426

الإنتاج الثقافي.. من تهافت إلى تهافت !
ميشيل كيلو *

إذا كان صحيحا أن الإنتاج الثقافي يتصل بحالة معنوية وروحية معينة، فإنه صحيح بالقدر نفسه أن منتجاته المادية ترتبط بشروط مادية ومعنوية ملموسة على علاقة وثيقة بنمط الحياة العامة في مجتمع من المجتمعات أو دولة من الدول أو حتى حضارة من الحضارات.
وإذا كان المبدع الفرد يقف وراء الإنتاج الثقافي، فإن المجتمع عموما هو حقله وحاضنته، بما أن نمط تنظيمه وطابعه ومكان الفرد منه تلعب دوراً مهماً في تعيين نمط لإبداع وحدوده، وفي جعله ممكنا أو صعباً أو حتى مستحيلاً.
ومن يراقب حياة مجتمعاتنا ودولنا يجد أن فيها قيودا كثيرة تضعف الإبداع والإنتاج الثقافي أو تحول دونهما، ويجد المبدع كائنا منعزلا أو مضطهدا، لا جذور له في الواقع المجتمعي والإنساني لبلده، فهو كشجرة الحور، رأسها مرتفع غير أنها بلا جذور وتنمو في تربة هشة.
ولو أخذنا، كمثال على الحال الثقافي العربي، إنتاج الكتاب في بلداننا العربية، لوجدنا أن منتجه لا يستطيع العيش من تأليفه، كريما كان هذا العيش أم غير كريم، وأن قارئه محدود الوجود، وأن وسائل الإعلام لا تمنحه أي اهتمام جدي، فلا هي تروج له قبل صدوره ولا تناقشه وتعرض محتوياته على الرأي العام بعد ذلك، وأن فرص توزيعه ضيقة حتى لتكاد تكون معدومة، بينما تغلق أمامه أبواب الأقطار العربية لأسباب متنوعة: مالية، ورقابية، وتجارية، وتنافسية، وثقافية.الخ، لذلك يندر أن تجد كتابا يطبع أكثر من ألف نسخة في بلده، ويندر أن تتجاوز نسخه القليلة حدود هذا البلد إلى غيره، فإن تجاوزتها بمعجزة ما، ضاعت حقوق مؤلفه وناشره، وواجه عقبات القصد منها إجبار منتجه على رفض بيعه خارج وطنه، حيث تكون له عادة علاقة ما مع الموزعين أو يقوم هو نفسه بتوزيعه، في حين تضيع حقوقه غالبا أو تعد في حكم الضائعة، عن هو (صدّره)، بسبب مدة الانتظار، التي تضيع فعليا عائد الكتاب.
ومع أنني لا أريد عقد مقارنة مع الماضي، فإن عدد النسخ المطبوعة من أي كتاب تميل أكثر فأكثر إلى التناقص، بينما يميل ثمنه نحو الارتفاع، وتتقلص دائرة قرائه وتضيق، ويتجاهله الجمهور العريض بعد أن احتل مركز اهتمام المواطن العادي خلال حقب سابقة.
ولا أبالغ إذا قلت إن هناك كتابا كثيرين لديهم كتب يخشون أو يرفضون عرضها على الناشرين، إما لأن هؤلاء يطالبونهم بتكلفة طباعتها، وإما لأن عائدها المادي زهيد إلى حد التفاهة، وهذا يجبر الكاتب على تجاهل التأليف، الذي يصير عبئا ثقيلا على صاحبه، ويتحول إلى شيء نادر في الحياة الثقافية، إذا ما قورن بالترجمة.
ولعلي لا أنسى وجه ذلك الشاعر الذي جاء ذات صباح إلى مكتب المحاسب في إحدى دور النشر ليقبض مكافأة ديوان شعر، وكيف استغنى عن المبلغ الزهيد وصوته يتحشرج حزنا وهو يقول: لو أنني كتبت مقالة سخيفة لجريدة تافهة لنلت ثلاثة أضعاف هذه المكافأة، بينما كان المحاسب يذكره أن عدد كلمات ديوانه لم يتجاوز الأربعة آلاف كلمة، وأن مؤسسته تدفع أربعين قرشا سوريا لكل كلمة، وأنه لا حيلة له في الأمر.
يضاف إلى هذا الواقع البائس فقر المواطن، الذي يخرجه من عالم الثقافة، أو يدفع به إلى ابتكار أساليب تمكنه من قراءة كتاب بين حين وآخر، وقد سمعت مؤخرا بتعاونيات أسسها بعض طلبة الجامعة بهدف شراء الكتب، حيث يدفع كل طالب مبلغا صغيرا من ثمن الكتاب، على أن يقرأه خلال فترة محدودة.
هذا النبأ المفرح، الذي يشير إلى رغبة الأجيال الجديدة في المعرفة والاطلاع، يؤكد أزمة الكتاب مع القراء، وخاصة قراء الكتب الحديثة، التي تضاف إلى التضييق العابر للحدود، الذي يحيل الكتاب إلى سلعة خطيرة يحظر غالبا إدخالها إلى البلدان المجاورة، فيما يمكن إدخال ما يريده المرء من أحذية ومواد كهربائية وغذائية ودخان وغيرها من المهربات الشرعية أو غير الشرعية.
والحق، إن المرء لتأخذه الدهشة حيال تعامل الحكومات العربية مع الكتاب، داخل بلدانها وخارجها، وإنه ليحار كيف تنشد هذه الحكومات تحديث مجتمعاتها وزيادة معارفها، وتدعي أنها تريد تثقيف شعوبها، بينما هي تضع العراقيل والقيود على الكتاب، وتدفع به إلى حال لا يحسد عليها بما هو رمز إنتاج ثقافي تدهور في بلداننا العربية إلى درجة يخال المرء معها أنها لا تدرك حقيقة يعترف بها الجميع، هي أن حجم الاستهلاك الثقافي يعد معيار تقدم الشعوب والدول، ومقياس حداثتها ورغبتها في النهوض والتجدد والإبداع.
يتراجع الإنتاج الثقافي وتزداد شروطه سوءا وتدهورا، وتتبدل طبيعته وتتحول مواضيعه، حتى لا ينتج العرب بملايينهم الثلاثمائة تقريبا من الكتب إلا أقل مما ينتج اليونانيون بملايينهم العشرة، علما أننا أمة ألّفت في ماضيها وترجمت الكتاب وعرفته ونسخته ونشرته ودفعت ثمنه ذهبا، واعتبرت واضعيه خيرة أبنائها، فعقدت لهم المجالس الخاصة، ومكنت الخلق من زيارتهم في أماكن عملهم وعيشهم، والإفادة من معارفهم وإبداعاتهم.
يحكى أن عربيا التقى ذات مرة الفارابي، المعلم الثاني، فأخبره أنه يبحث عنه منذ عشرة أعوام كي يشرح له بعض فقرات كتاب المنطق الكبير لأرسطو.
قال الفارابي: لكنني لا امتلك نسخة من الكتاب، فرد الرجل، الذي لم يترك لنا التاريخ اسمه، لأنه لم يكن فريد زمانه، على ما يبدو: لقد حفظته عن ظهر قلب، خشية أن ألقاك ولا تكون معك أو معي نسخة مكتوبة منه.
لن أندب حظ عرب هذا الزمان.
أريد فقط تقديم التماس صادق إلى أصحاب الأمر والنهي في عالمي السياسة والثقافة يطالبهم بدعم الكتاب خاصة والإنتاج الثقافي عامة، وإلا ذوى عقل العرب وماتت روحهم بموت قدرتهم على الإبداع والتجدد الثقافي.
افتحوا، أيها السادة الأفاضل، حدود بلدانكم أمام الكتاب والتبادل الثقافي العربي والعالمي، شجعوا التأليف والترجمة وادعموا استهلاك الثقافة وعززوه، ساعدوا الكتّاب والمبدعين على العمل والعيش وتحصيل المعرفة، خصصوا ميزانيات مستقلة لدعم الثقافة في بلدانكم وعلى النطاق العربي، واكبوا هذا العصر، عصر الحرية، الذي أفرد مكانة خاصة للإنسان المبدع وأخذ يحمل اسمه ويتعين به، وطدوا فرص ظهور المبدعين من مواطنيكم، ليقال فيكم ما كان يقال في أسلافكم العظام، ويصير الكتاب خاصة والإنتاج الثقافي معيار تقدم أمة عربية تريد احتلال الموقع الذي تستحقه تحت الشمس.


* كاتب سوري

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved