الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th November,2005 العدد : 129

الأثنين 12 ,شوال 1426

خطاب الأنا العربية بين التقليل والتضخيم
(قراءة في وعي الشخصية العربية)* «1»
سهام القحطاني
أقصد بالوعي هنا ناتج تقويم (الأنا) سواء في مستواها الفردي أو الجماعي أو موقفها من الآخر.
في البدء علينا أن نميّز بين مكونات (خطاب الأنا العربية) الذي أسميه (وعي الشخصية العربية) وبين (ممثلات خطاب الأنا العربية) أي الشعر والنثر، على اعتبار أن التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي بمراتبه المختلفة؛ الحادثة والعرف والموروث والدين والثقافة والمنجز الحضاري الماضوي، والتحولات سواء في مستوى الهبوط (التخلف - الرجعية) أو الارتفاع (الإنجاز الحضاري المادي)،- وأقصد بالهبوط في معناه والارتفاع في معناه المنجز المادي؛ لأن معناه ثابت بالاتفاق غير خاضع للنسبي - أقول جميع تلك الأمور هي مكونات خطاب أي ذات، ثم يأتي دور الفنون الأدبية ممثلات خلاصة ناتج تلك المكونات، وبذلك يمرّ الخطاب في نشوئه بمرحلتين: مرحلة التكوين، ومرحلة التعبير، والمرحلة الأولى عادة ما تعتمد على تأسيس قاعدة بيانات وتأويل ناتج الخطاب من خلالها (وهذا ما اتبعته في قراءة ناتج الأنا العربية في خطابها التضخميّ - أو كما سميته (قيمة الاستعلاء) في هذا الطرح، الذي رأيت أنه الأقرب إلى تقويم تلك الأنا - وعي الشخصية)، والمرحلة الثانية هي مرحلة التعبير، وهي صياغة ناتج الخطاب في أشكال يحول الناتج من واقعة إلى رمز، لكن ما يجب أن يُدرك أن تحليل منتَج المرحلتين، التكوين - التعبير، يسيران في نفس الطريق ويتوصلان إلى المؤثرات والنتائج ذاتها.
إن أنا - العربي في ضوء فلسفة التعصب القبلي قبل الإسلام، هي فلسفة تسعى إلى تجيير الفردية لمصلحة الجماعة، وتضخّم مسئولية الجماعة داخل الفرد لإتمام عملية التناسخ بين الهويتين والتدميج لمصلحة الجماعة؛ لتشكل بؤرة رؤيوية تُدرك الكينونة من خلالها بوصفها تعريفا رسميا للوجود، لكن الملاحظ رغم هذا التدميج المعتمد على إزاحة أنا الفرد - مقابل نحن القبيلة - لم يدفع الشخصية العربية إلى حالة الشيزوفرينيا أو الفصام لخلخلة الحدود بين الأنا والعالم الخارجي، بل بات ما بينهما علاقة تواشجية، أبقت أنا - الفرد رغم إزاحتها حاضرة في ذهنه، لكن الحضور لا يعني الخصوصية، بقدر ما يعني كمال الهويّة، وهذا ما يسميه الجابري ب(جوهر الفرد) (وحدة مستقلة في إطار من التبعيّة)، وهذا الأمر يوازن الشخصية الخاصة ويسوي علاقتها المتوازنة مع العالم الخارجي، من خلال تبادل مطرح الذات من الخاص إلى العام، فالذات هي القبيلة عبر علاقاتها التبادلية مع الأفراد، فالقبيلة بهذا المعطى تصبح هي الجهاز المنظم للشخصية، كما أنها الجزء الواعي منها الذي يمكن أن يوجه إليه الجهد لتستعيد الشخصية قوتها وحيويتها؛ وبهذا المفهوم تمثل القبيلة داخل شخصية العربي معنى الذات والأنا معا، وهكذا تصبح القبيلة هي المكوّنة للأنا الخاصة أي (صلة الوصل الواعية بين الإنسان والواقع، والتي تمثل الجانب العقلاني من الشخصية الإنسانية وتساعد المرء على الاحتفاظ بتوازنه النفساني) بمفهوم فرويد، وتصبح كذلك المسيطرة على الذات الاجتماعية، أي التكوين (الاجتماعي الضميري الناشئ عن القيم والمعايير والتوقعات الاجتماعية.. من خلق الرموز وخلق العقل الذي يحمل الرمز) بمفهوم ميد، والقبيلة عبر تبادل هذه الخاصية مع الفرد تصبح (هي فاعل ومفعول، فالأنا هي الذات التي تفكر وتعمل أي الأنا الفاعل أما الأنا المفعول فهي وعي الذات بذاته كموضوع في العالم الخارجي للأفراد) بمفهوم سوينجوود.
وهكذا يقترب مفهوم الذات الخارجية (القبيلة من مفهوم الأنا الأعلى) الفرد (الضمير) ولا سيما أن القبيلة تعمل على ترسيخ فكرة الضبط الاجتماعي عن طريق نقل القواعد والقيم التي تؤمن بها إلى داخل فرد القبيلة بواسطة عمليات التفاعل والتنشئة الاجتماعية بمفهومها (التعصبيّ) عبر قانون الاستضمار الاجتماعي.
فالعصبية مثلت أجلّ قيم انتماء أنا العربي - نحو قبيلته، الانتماء كوجودٌ ماديّ ينعكس لدى الإنسان فكراً وشعوراً وسلوكاً، خاصة إذا أدركنا غياب مفهوم (الوطن) الواحد في وعي العربي ما قبل الإسلام، بسبب حياة الصحراء والتحرك الدائم وراء المطر والعشب، إن دلالتي المطر والعشب اللتين ارتبطتا بمفهوم الحياة، في وعي العربي ما قبل الإسلام، شكّلتا التفكير المادي الذي آمن به ذلك العربي، وأعاقتا التفكير الميتافيزيقي للحياة، (بمعنى أن علاقته بالطبيعة علاقة مباشرة، كل القوى العاملة فيه فطرية، وأهمها قوة العصبية، لا فرق إذن بين مميزات الفرد والجماعة.. هدف الفرد والجماعة، منحصر في المحافظة على الذات) - عبد الله العروي (مفهوم العقل) - وهذا ما يبرر لنا محافظة كفار العرب على آلهتهم أثناء الدعوة المحمدية؛ قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} وكان هذا الأمر - أقصد التفكير المادي - من أعظم أسباب إنكار العرب الرسالة الإسلامية، إذ إن مساحة طاقة التفكير عنده، لا تمكنه من تصديق ما هو خارج إدراك حواسه المادية، مثل البعث والحساب والقيامة، وهو ما دفع كفار قريش إلى إنكار البعث كمفهوم غيبي غير مادي يتعارض مع طبيعة نظرية المقاربة في تكوين العقل العربي ما قبل الإسلام، قال تعالى: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (82) سورة المؤمنون.
إن عبادة الأصنام في المجتمع العربي وتعددها ما قبل الإسلام، إنما هي تمثيل لخاصتي (الانفصال والمقاربة)، فالبيئة الصحراوية في نظامها كوحدات مستقلة ذات علاقات تجاورية لا تداخلية مثل رمل الصحراء المنفصل وحصاها ونجومها وأشجارها المفردة وحيواناتها، إذ إن حيوانات الصحراء تفتقد بيئة الأقلمة، خلاف حيوانات الغابات، وهو ما دفع العربي إلى تكوين وحدة ائتلاف بينه وبين الحيوان المفرد كونه آخر وحيد، ويرتبط به عبر خطابه الحياتي وخطابه الثقافي.
إن تعود وعي الشخصية العربية على وجود الأشياء ضمن نظام الفردية المستقلة غير الخاضعة لنظام التدميج الكوني الشامل خلال الصحراء، هو ما دفعه إلى تعدد الآلهة كل إله وحدة مستقلة مثل رمل الصحراء وحصاها ونجومها وحيواناتها وشجرها، وعندما أراد الإسلام من إعادة ترتيب الاستقلال المفرد عبر التدميج الكوني في توحيد الإله ثار العرب ورفضوا تغيير نظام رؤياهم وهو ما عبر عنه الخطاب القرآني في قوله تعالى {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}(5) سورة ص.
أما الرؤية العقلية للأمور، فتعتمد على الهروب من الجهد العقلي عبر نقل المعقول إلى المحسوس، فعدم استيعاب العلاقة المباشرة بين الإنسان - كونه ذات مادية حاضرة، وبين (الله) كونه مفهوما غيبيا عقليا خارج عن إطار الذات، هي التي دفعت الوعي العربي إلى مبدأ (الزلفى) التي تجسدت عبر الصنم. والذي يعبر عنه الخطاب القرآني في قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (3) سورة الزمر. ولا شك أن تحليل مكونات العقل العربي في هذه الورقة ليس مقصدي.
إن غياب مفهوم الوطن في خطاب أنا - العربي، بمستواها الفردي الضئيل أو مستواها القبلي المركّز، دفعه نحو الالتحام بالقانون المادي - القبيلة كمجموع من الأفراد والحيوانات والخيم وهي أمور ذات شكلانية ثابتة غير قابلة للتغيير، أما المكان فهو المتغير، بل غالبا ما يمثل وجها آخر للموت إذا هجره المطر، فكانت العلاقة بينهما علاقة ترقب وحذر تهدد استقرار المكان؛ لذا (فالمبدأ الذي يؤسس وعي سكان هذه البيئة لن يكون السببية ولا الحتمية بل سيكون: الجواز، كل شيء جائز، الاطراد قائم فعلا، ولكن التغيير المفاجئ الخارق للعادة ممكن في كل لحظة) - محمد الجابري (بنية العقل العربي).


...............يتبع
seham_h_a@hotmail.com
* (ملخص للورقة التي قدمت إلى جماعة حوار تحت عنوان (خطاب الأنا العربية بين التقليل والتضخيم - قراءة في وعي الشخصية العربية لمحور الأنا والآخر)

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved