الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th November,2005 العدد : 129

الأثنين 12 ,شوال 1426

مع ألبير كامو وعالم العبث والتمرد «2-2»
أ.د.عبد الله الشعلان *

إن الكلمات العشر المحببة إليه هي: العالم، المعاناة، الأرض، الأم، البشر، الصحراء، الشرف، البؤس، الصيف، البحر. وإن خلت كلمة (السعادة) منها فهي في الواقع هاجسه وحاجته وتلك الكلمات يصعب تحديد قيمها في عالم كامو المشحون بالعواطف المبهمة والمشاعر الدفينة. وفي كتابات كامو عن العبث يتضح هذا المفهوم الجدلي الذي تطرق إليه وعالجه وحاول أن ينتقل من خلاله من العالم المجسد إلى العالم المجرد ويؤكد أن الذهن والعقل كلاهما لا يستطيع أن يخترق أغوار الصمت المطبق إزاء حياته. وتفصح مقالات كامو عن سمتين بارزتين: نزعة توحدية فطرية وتأكيد دائم على معايشة المرء لبيئته معايشة مادية، ويناقش كامو في هذه المرحلة بصفة أساسية كلا الطرحين.. الإحباط الفكري من ناحية واللذة الحسية من ناحية أخرى، ولا يزال دؤوباً على ذكر علاقة التضاد بين (جزعه من الموت) وبين (غيرته على الحياة) ملتمساً طريقاً وسطاً للتوفيق بين التجربتين بين المواقف المتطرفة في كل من التفكير والسلوك؛ وذلك رغبة منه في إدخال عنصر التلوين المستمر على المقالات الأولى التي كتبها وذلك في بحثه عن موقف وسط بين الرغبة في الحياة والفزع من الموت، بين انتشاء الحس وصرامة العقل، بين النزعة الفنائية ودوامة التشكك، ولقد تمخض عن المزج بين الانتشاء واليأس في نهاية المطاف أن أتيح لكامو الحصول على أساس للتمرد ولو أنه أفضى به في بادئ الأمر إلى موقف وقتي من الإذعان والانعزال الرواقي، أما النزعة التي تمخضت عن مقالاته الأولى فليست أكثر من مبدأ الانعزال والاستقلال الذي يتسم بشيء من الكبرياء والإحساس بالمرارة، وهذا الكبرياء الذي يتسم بالمرارة جاء وليداً لما يعد في جوهره بحثاً كليلاً عن السعادة، وهو يعيد إلينا الاكتشاف الأول الذي يقول إن الحصول على السعادة ليس بالأمر الهين بالنسبة لنمط معين من العقل البصير.
لقد أعطى كثير من قراء كامو قدراً كبيراً من الأهمية والاهتمام لما اتسمت به نزعته التشاؤمية من حدة وعنف، ومن أبرز سمات هذه النزعة التشاؤمية أنها ارتكزت في تبلورها على خلفية من الإشراق الذي يتسم به إقليم البحر المتوسط، ولقد كرس كامو هذه النزعة في لقاء صحفي تم معه عام 1951 قال فيه: (عندما أحاول اكتشاف أهم ما يقبع في نفسي من آلام ويتأصل في ذاتي من تشاؤم لا أجد إلا اشتياقاً غامراً للسعادة، كما أجد في صميم مؤلفاتي إشراقاً لا ينطفئ). ويرى كامو بكل وضوح المضمون (التراجيدي) لهذا الانتشاء المادي الصارم الذي تنطوي عليه الطبيعة المادية، فهو يعني كل الوعي في غمرات الانتشاء الحسي، تلك الثنائية الدائمة التي كانت الموضوع الغالب الذي دار حوله كتاب (الوجه والقفا) وهو ما دفعه لأن يقول في كتاب (أعراس): إن ما من شأنه أن يسمو بالحياة هو الذي يؤكد عبث هذه الحياة، كذلك وصف كامو حياة الحس في لغة غنائية شاعرة وكان يبتهج باكتمال تلك الحياة وبلوغها مداها الأقصى، بل إن اكتمال تجربته وعنفها ينطوي على تحديد لهذه التجربة من ناحيتين: الأولى أنه لا يمكن للفرد أن يستمتع بالحياة التي وصفها كامو إلا استمتاعاً موقوتاً، فجمال الحياة لا يذوي طالما بقيت هذه الحياة، لكن هذه الحياة لا تبقى إلى الأبد، ولهذا يجد كامو أن حقيقة الموت ماثلة في المناظر الطبيعية التي تشتمل عليها بلاد الجزائر، وهي المناظر الغنية الخصبة التي تدعو إلى الاستمتاع بكل ملذات الحس. ويعبر كامو عن حيرته هذه في تلك العبارة الموجزة التي أشير إليها من قبل: (إن جزعي من الموت ينال من غيرتي الشديدة على الحياة).
إن السمات التي تميز النزعة العبثية وطبيعة التمرد لدى كامو في كتابيه: (أسطورة سيزيف) و(الإنسان المتمرد) وأيضاً في كتابيه: (الوجه والقفا) و(أعراس) - وإن كانا بدرجة أقل - يمكن أن تفسر ولو تفسيراً جزئياً ما نجده عند الاحتفاء بفيض الحياة الحسية ويكون ذلك على أساس تطرف في النزعة العبثية ناتج عن الكبت لا عن الإفراط، واللهجة التي يستخدمها كامو تغلب عليها سمة من الوضوح تكون أقرب إلى مخالفة النزعة العبثية، أما طبيعة التمرد في تلك الكتب فتوحي بوهج حاد وليس بشعاع رقيق يبعث النور والدفء، فهو يفعل ذلك بذهن يترك الأثر بما يتصف به من الدقة وسلامة التفكير. ويعد كتاب (أسطورة سيزيف) الذي صدر عام 1942 انتقالاً مفاجئاً من التعبير تعبيراً عبثياً عن موقف تجاه الحياة إلى دراسة هذا الموقف ذاته دراسة عقلية نافذة، ويقصد كامو من لفظة (العبث) بوجه عام انعدام التوافق أو الانسجام بين حاجة الذهن إلى الترابط المنطقي وبين انعدام المنطق في تركيب العالم، الأمر الذي يكابده الذهن ويعاني منه.
الخاتمة
في يوم الاثنين الرابع من شهر يناير عام 1960م وفي الساعة الثانية والربع ظهراً اصطدمت سيارة مسرعة متجهة من مدينة سانس إلى العاصمة باريس بشجرة من أشجار البلوط وأسفر الاصطدام عن حادث مروّع راح ضحيته ركاب السيارة ومن بينهم البير كامو الذي يبدو أنه آثر صحبة رفيقه الناشر المشهور ميشيل جاليمار (الذي يقود السيارة) دون السفر بالقطار الذي كان يحتفظ بتذكرته في جيبه مما يدل على أنه من سوء حظه العاثر غيَّر رأيه في آخر لحظة فسافر بالسيارة دون القطار استجابة لرغبة صديقه الناشر، وكانت وفاته بعد حصوله على جائزة نوبل في الأدب بثلاث سنوات.
لم يكن كامو أول إنسان يتوجس من فكرة الموت، وهذه معضلة كبرى واجهته مما جعلته يكره كل أشكال المرض الذي عادة ما يمهد للموت، لقد تعلق كامو بالحياة إلى درجة لا يمكن تصورها، كما لم يكن أول من يشتهي انتزاع السعادة من اللحظة العابرة، أما الذي يفرقه عن غيره فهو أن حاجته للسعادة مقرونة بحاجة أخرى لا تقل عنها قوة وإلحاحاً وهي شعوره بالمسؤولية تجاه الإنسانية المعذبة. لقد وضعت هذه الرحلة القصيرة نقطة النهاية أيضاً في رحلة حياة قصيرة لكامو أديب العبث الذي مات عبثاً، وعاش طوال حياته يفلسف العبث، أديب قبض بإحدى يديه على شمس الجزائر الباهرة وباليد الأخرى على أضواء باريس الساحرة، وباليدين معاً أضاء شعلة المعرفة وطفق ينير عتمات الكون ودهاليز الحياة وسراديب النفس الإنسانية، نعم البير كامو عاش حياة لم تخل من العبث والتمرد لكنها حياة حافلة بالتفوق والعطاء ونبذ الظلم وحب الإنسان.
المراجع:
1- عبد الباقي يوسف، (البير كامو عاشق الحياة والتمرد)، مجلة الحرس الوطني، الرياض، العدد 209، شعبان 1420 هـ (نوفمبر 1999م).
2 - غسان زيادة، (البير كامو: الجزائر شمس فرنسا وبابها إلى الفتوة والبحر)، مجلة العالِم، بيروت، لبنان، العدد 26، (يونيو 2001م).
3 - جلال العشري، (البير كامو وأدب التمرد)، كتاب مترجم للعربية للمؤلف جون كروكشانك، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986م.
4 - إلياس خليل، (البير كامو بقلمه)، كتاب مترجم للعربية للمؤلف مورفان لوبيك، المنشورات العربية ، بيروت ، لبنان، 1973م.
5 - جبرا إبراهيم جبرا، (البير كامو) كتاب مترجم للعربية للمؤلف جرمين بري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، 1967م.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved