الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 14th November,2005 العدد : 129

الأثنين 12 ,شوال 1426

مساقات
مناهجنا المدرسية: تكريس العقلية التقليدية ورثاثة الذوق الأدبي
د. عبد الله الفَيْفي*

شهدنا في الحلقة الماضية من هذا الموضوع بعض محتويات منهج ما سُمي (الأدب العربي)، الذي وضعته وزارة التربية والتعليم للمرحلة الثانوية، وكذلك أسئلة الاختبار النهائي لإتمام هذه المرحلة للعام الدراسي 1425- 1426هـ (قسم العلوم الطبيعية والإداريّة).
وإذا كان ذلك المنهج قد بدا انتقائيًّا وفق تيار فنّي وفكري معين، وعلى تلك الصورة التي رأيناها، فإن أسئلة الاختبار تأتي أشد انتقائية وحصرًا، فهي تحشر ما تضمّنه المنهج - من بعض بوارق نادرة من الأدب السعودي الحريّة بالذِّكْر، جاءت في آخره - تحشرها في ثلاثة أسطر من الفقرة الأخيرة من السؤال الأخير، كذرّ الرماد لا أكثر، حيث تسأل عن شعر عبدالله الفيصل، وكتاب محمد حسين هيكل (سيرة النبي صلى الله عليه وسلم) - وإن كان لا يُدرى ما علاقة هيكل بالأدب السعودي؟!
- كما تسأل هناك عن الشعراء السعوديين الذين رثوا أنفسهم.. وأخيرًا عن ديوان كان اسمه (نار): هل هو: لأحمد قنديل، أم لطاهر زمخشري، أم لحسين فطاني؟!.. وانتهت الأسئلة!
ولقد حقّ لنا نحن أن نرثي أنفسنا اليوم، وأن نشعر ب(نار) تشتعل في إهاب أبنائنا إزاء هذا التردّي في مناهجنا، وتلك الحصيلة المتهافتة التي يخرجون بها، من كُتُب وأسئلة كتلك، تُبنى على تجميع وتلفيق، لا يسمن معظمها ولا يغني من جوع.
ثم يأتي من يشكّك في نوايا من ينادي بتغيير المناهج!
إن مناهج كهذه يجب أن تُلْغَى، لا أن تغيّر فقط أو تجدّد؛ لأنها بمثابة عقبات فكريّة، وعوائق ذوقيّة، ووسائل تربية للأَسَن الذهنيّ، والتشوّه النفسي.
أين أساتذة الأدب والتربية في جامعاتنا، أو في غيرها، عن صياغة تلك المناهج؟!
ولماذا لا يوكل مثل هذا الأمر إليهم؟ أم أنهم ليسوا بمحل كفاءة، أو ثقة؟!
وكيف انحدرت مناهج الأدب عمّا كانت عليه منذ ثلاثين سنة أو أكثر، يوم أن كان يؤلّف الكتاب أديب، يفقه معنى الأدب، بوصفه فنًّا لغويًّا، لا مجرد وسيلة (توصيل لأغراض)، ونقل لأفكار، وبثّ لهواجس مأزومة، ومواقف مؤصدة؟!
أين ذهب ذلك التوازن بين البعد الوطني، والعربي، والإنساني، بعيدًا عن الإقليمية الضيقة، والتاريخانية المحدودة، والتقوقع على الذات، والإيمان المطلق بالقناعات الخاصة، باسم (الخصوصية)؟
أين تلك الأناشيد والمحفوظات الرقيقة التي كانت تدرّس في مدارسنا، بجمالها وشعريتها الحقيقية، التي ما زالت تتردّد على شفاه ذلك الجيل الذي تعلّم على المناهج القديمة وفي قلوبه؟ وهو سؤال لا يرغب في العودة إلى أناشيد الماضي، ولكن في مثلها مستوًى أو أحسن منها.
على حين لا أحد يُراهن اليوم على أن طالبًا سيحفظ شيئًا من هذا الذي يُرغَم على حفظه.. وهو في معظمه لأسماء، إن لم تكن نكرات، فإنه لا وزن لأكثرها في عالم الأدب، أو هي في أحسن الأحوال لمن لا يحملون إلا قيمة أدبيّة متدنيّة جدًّا، إن وجدتْ.
فنتاجهم إمّا نظم تقريري سقيم، أو خُطب وعظيّة متوارثة، أو كتابات إنشائية جافّة، لكُتّاب أقلّ ما يُقال عن كثير منهم: إنهم متواضعو المواهب. ولكن يبدو أنه قد (وافق شنٌّ طبقة)؛ إذ لم يرشّحهم لدى واضعي المناهج تلك - إن افترض أن هناك من يميز الغث من السمين - إلا ما تحمله أفكارهم من طروحات، لاقت في العقول قبولاً، وصادفت من النفوس هوى.
إنني أدعو، من هنا، كل أبٍ، إذن: أن يُلقي نظرة على كُتُب أولاده، لكيلا يسأل عن أسباب تدنّي هذا الجيل في اللغة العربية والأدب العربي.
فإذا انتقل القارئ من النصوص إلى تعامل المقرّر المذكور مع النصوص، وتحت ما ينعته بالتحليل والنقد، وجده كلامًا سخيفًا ساذجًا، لا يبعد أن يُحسن ما هو خير منه أحدُ الطلبة أنفسهم، بل حتى غير المتعلمين.
خذ مثلاً ما يرد حول قصيدة محمود غنيم، (ص31- 34): مالي وللنجم يرعاني وأرعاهُ أمسى كلانا يخاف الغمض جفناهُ يسوق الكتاب تعريفًا بالشاعر ليختمه بقوله: (من أبرز معالم شعره ميله إلى الوضوح... ومذهبه في الشعر أن يكون هادفًا يضرب في صميم الحياة...).
ويا له من معلم فنّي باز، ويا لذاك من مذهب أدبيّ جديد! ثم يأتي ما يوصف بالتحليل، وهو نثر للأبيات في أسلوب شرحيّ، أقرب إلى ترجمة النص إلى غير الناطقين بالعربية، مع التركيز والتأكيد على المضامين، وكأن النصّ خطبة لا قصيدة.
ثم يعقب ذلك عنوان باللون الأزرق: (النقد)، ويرد فيه: (لقد وُفّق الشاعر في هذه الأبيات إلى التعبير عن موضوعه وعن معانيه الجزئية في إطار ذلك الموضوع، مستخدمًا اللفظ المناسب، والصور البيانية اللائقة. فمن الألفاظ الموحية: (آهات) وتوحي بالآلام المبرّحة، و(مسرحها) وتوحي بالدور البارز وحريّة التصرف، و(تتوارى) وتوحي بالصغار والاحتقار...).
ويبدو أيضًا أن لواضعي المنهج اهتمامًا خاصًّا بالقنص والصقور والشعر النبطي؛ لذلك أردفوا - مشكورين - اقتراحًا على الشاعر محمود غنيم لو أنه في أحد أبياته (عدل عن لفظ (الطير) إلى لفظ (الصقر) ليوحي بمعنى القوة السالفة لكان أحسن...). وهكذا.. من هذا الثرثرة التي لا تضيف إلى الطالب لا علمًا ولا ذوقًا. في استخفاف بعقول هذا الجيل، من طلبةٍ في سِنّ الشباب، يكتنفهم عصر الحاسوب، والإنترنت، والقنوات الفضائية، منفتحين على معارف العالم وثقافاته، غربًا وشرقًا، ممّن لم تعد مثل تلك الضحالة - التي تفترض فيهم الغباء والتخلّف - إلا مدعاة سخريتهم، لا من مناهجهم ومعلميهم فحسب، بل أيضًا من أدب ونقد تلك صورتهما المُلقاة عليهم.
أمّا وضع الأسئلة في الاختبارات، فيعدّ فنًّا قائمًا بذاته، بل يصح القول إنه اليوم قد أصبح علمًا له أصول، وليس اعتباطًا، ولا إلغازًا، ولا تعجيزًا، ولا تصيّدًا للمفردات، كأن نسأل عن ديوان كان اسمه (نار)، لمن هو؟ وما فائدة الطالب أن يعرف معلومة كهذه؟!
لكن إذا عُرف السبب بطل العجب، فأدلجة المنهج تستتبع أدلجة الأسئلة؛ لذلك سيُلحظ أن تلك الأسئلة تقفز قفزات بهلوانية، تتتبع ما يبغي واضعوها من ورائها، فإذا هي تُهمل الاهتمام بكثير من مضامين الكتاب نفسه - على فَقْرِه - حول: (عوامل ازدهار الأدب الحديث)، مثلاً، أو (الاتجاهات الفنية في الشعر السعودي)، أو حول (القصة)، و(المقالة)، ونحوها من موضوعات الكتاب.
وإن جاء شيء من الأسئلة حول هذه الموضوعات، جاء عابرًا، ونصيبه من الدرجة لا يذكر، مع أنه من صفحات الكتاب يحتل حيّزًا لا بأس به.. لماذا؟ لأن واضع الأسئلة - كواضع المنهج - مشغول عن ذلك كله بالخُطَب، والمواعظ، والأصنام، والهندية القضب، والفساد، والإفساد، وصوالح الحياة! فصبرًا جميلاً..
والله المستعان!


* عضو مجلس الشورى
أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود
aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved