الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 15th May,2006 العدد : 153

الأثنين 17 ,ربيع الثاني 1427

آليات التجريب وآفاق الدلالة «3»
*د. عادل ضرغام:
***
تجليات التشكيل الاجتماعي
لا أظن أن هناك دارسا للأدب يمكن أن ينكر خلفيات السياق الحضاري، أو الاجتماعي الذي يحيا فيه الأديب ويتنسم عبيره، فالفنون والأدب على اختلاف تجلياتها تعد صدى واضحا للسياق الحضاري الذي أنتجها. وإذا كانت الفنون بتجلياتها المختلفة تعد صدى واضحا لهذا السياق فإن ذلك ربما يكون شديد الوضوح في القصة القصيرة أو الرواية، لأنهما مرتبطان بالرصد والتحليل، وتشكيل عوالم إنسانية شبيهة إلى حد ما بالمعيش.
وعلى هذا الأساس فإن تغييب مثل هذا الترابط في دراسة القصة القصيرة أو الرواية يعد سباحة ضد التيار، خاصة إذا كانت القصص التي بين أيدينا لها هذا المردود. وربما يعطي هذا التوجه قوة أن اهتمامنا لا يرتبط بالاجتماعي في حد ذاته وإنما يرتبط بتناول تشكيل هذا الاجتماعي، وتمايز الكتاب في هذا السياق.
إن نظرة متأملة إلى قصص المجموعة ربما تجعلنا نشير إلى محورين أو توجهين في التعامل مع هذا الموضوع الاجتماعي؛ التوجه الأول يأتي بروز الاجتماعي في قصصه بشكل واضح وصريح، وهذا يجعله بعيدا عن الفن. أما الاتجاه الآخر فيكون ظهور الاجتماعي فيه متواريا ومتلبسا بالفن، وقد قال أحد الشعراء إنه توجد طريقتان لاصطياد الأيائل، الأولى طريقة البندقية والقنص، والأخرى طريقة الصفير والغناء، ويقصد بالأيائل هنا الفنون بصفة عامة فأصحاب الاتجاه الأول، ويندرج كثير من كتاب هذه المجموعة في إطاره، يهمهم الموقف الاجتماعي، وليس الفن؛ ففي قصة هيام المفلح (رجل)، يمكن للمتلقي من العنوان أن يدرك أن هناك صراعا بين الرجل والمرأة بوصفهما عنصرين مهمين من عناصر التكوين الاجتماعي؛ ومن ثم فالإلحاح على الموقف الاجتماعي، وحالة الصراع التي تحاولها المرأة في كل الآداب للحصول على حريتها، لتحديد مفهوم خاص بالرجولة، ربما نجده بتفصيل أكثر في كتب تهتم بهذا الجانب، أما في الفن فأنا أبحث عن كيفية تشكيل هذا الجانب.
يتجلى هذا إذا تأملنا - أيضا - قصة (رجل يأتي) لعبير البكر، فالقصة وعظية إلى حد بعيد، تتحدث عن الرجل الأول أو الثاني أو الثالث وربما تكون الكتابة النسوية أكثر وقوعا، في هذا المزلق الخطر، ولكن في هذا أيضا قد نجد قصصا نسوية تهشم هذا التصور، سواء على مستوى إبداع المرأة، أو على مستوى إبداع الرجل.
وإذا كانت الكتابة النسوية أقرب إلى المباشرة في التعامل مع الهمّ الاجتماعي، فإن هناك قصصا لبعض الكاتبات تهشم هذا التصور، ففي قصة (لحظات معه) لأريج سليمان، نجد القارئ للوهلة الأولى حين يقرأ العنوان يرى أن الموضوع يرتبط بلحظات خاصة مع رجل ما، ولكن القصة - كسرا لتوقعات القارئ - تجعل هذا الرجل قميص نوم له لون خاص، ودلالات خاصة ترتبط بالعنوسة التي تعانيها، وكأن هذا القميص يشير إشارة خاصة إلى غياب الرجل.
وعلى الجانب الآخر يمكن أن نجد كتابا آخرين من الرجال ينزلقون إلى هذا المزلق الخطر، في كتابة القصة الوعظية أو الإرشادية مثل سعود الجراد، في قصة (أحلام مائية)، ففيها يحاول - كما أشرنا سابقا - أن يقطع البناء السردي المتنامي من خلال عناوين جانبية، ويعطيها أرقاما. ولكن هذا التوجه لم يفلح في الارتفاع بالقصة إلى الفن، وإنما ظلت مرتبطة بالصوت المباشر في التعبير عن الموقف السياسي أو الاجتماعي، حتى تكاد القصة تدخل في نسق القصة التعليمية أو الوعظية.
أما التوجه الأخير - وهو الأهم - في التعامل أو تشكيل جزئيات فنية مرتبطة بالمجتمع، فهو توجه مغاير للتوجه السابق، فالموقف الاجتماعي يأتي مرتبطا بالفن، بل يتحول إلى موقف فني في الأساس، ويشير من بعيد إلى موقف اجتماعي ما. وفي إطار هذا الجانب يمكن أن نجد قصصا عديدة تندرج تحت هذا التوجه، مثل: (وشوشة جدران ناعمة) ليوسف المحيميد، و(عصفور الزينة) لعبده خال، (والمكنسة السحرية) لبدرية البشر، وسوف نتوقف عند قصتي المحيميد وعبده خال، لما لهما من قدرة فائقة على تنسم هذا المؤرق الاجتماعي، ومحاولة التبرم منه، ولكنه تبرم هادئ دون جلبة واضحة أو صريخ.
ففي قصة المحيميد نجد الموقف الاجتماعي المتمثل في الفصل الحاد بين الفتى والفتاة في كل مجتمعاتنا العربية واضحا، ولكن القصة لا تعبر عن هذا الموقف عن طريق الصراخ أو المباشرة، وإنما عن طريق الفن، فالقصة تبدأ بتقديم جزئية أساسية، وكأنها مقدمة تصلح لأن تكون صورة عامة للمناخ الذي نشأ فيه بطل القصة من خلال الأب والأم، فالأب شخصية هامشية تأخذ الحياة من أيسر جوانبها، والأم شخصية متحفظة انطلاقا من المثل القائل: (الجدران لها آذان)، وهذا المناخ الذي نشأ فيه البطل يؤثر بالضرورة في تكوينه وطبيعة نشأته، وهذا المناخ وثيق الصلة بالجزئية التي تعرضها القصة في شكل فني، وهي جزئية التقاليد، وتكمن قدرة الكاتب أيضا في اختيار الجزئية الفاعلة التي تشير إلى قدرته على التغلب على طبيعته التكوينية، وعلى التقاليد، من خلال اختيار الجدران الفاصلة بينه وبين الفتاة، وكأنها وسيلة اتصال، تقتل خضوعه الموروث، وتتغلب على التقاليد، وهي الوسيلة التي اكتشفتها الأم، وأمرت بنقل غرفته، بعيدا عن هذا الجدار. فالقصة تقدم الفن الذي يقدم اعتراضا بشكل هادئ دون جلبة واضحة. وفي هذه القصة لا تهمنا سطوة التقاليد التي تشكل قيداً بقدر ما تهمنا طبيعة الفن الذي استطاع التقاط هذه الجزئية الخاصة، الكاشفة عن طبيعة البطل، الذي نشأ في مناخ مترع بالمحاذير. وهذه القصة تذكرني بقصة (ذراعان) للقاص المصري أبو المعاطي أبو النجا.
ومن القصص التي تنسمت عبير التقاليد وقدمتها بشكل رائع، قصة (عصفور الزينة) لعبده خال، فالقصة من خلال العنوان تشير إلى دائرة ضيقة تصنع من خلال تجارب عديدة تمارس تأثيرها على ذلك العصفور الذي يرمز إلى الحرية وفطرية الغناء. والقارئ للقصة يدرك أن هناك جزئيات عديدة مارست تأثيرا في تكوين ذلك القيد، وذلك القفص، أولاها تجربة الغربة التي تجعل الإنسان في حالة مزاجية غير عادية، بالإضافة إلى جزئية العقم التي يعانيها البطل وزوجته، وهذه الجزئية - أقصد علاقة الرجل بالمرأة - لا تنفصل عن الحرية الشخصية التي يمارسها الفرد في وطنه، وإنما يمارسها لمدة شهر واحد في إجازته السنوية. وهذه الدائرة تزداد ضيقا بوهم الانتظار المنطلق من الغياب، غياب حرية الحركة، غياب الطفل المنتظر - الذي كان سببا أساسيا في تفسير العنوان - غياب حتى الجزئيات التي يمكن أن ينطلق منها الإنسان الذي لم ينجب أثناء غربته، بمهادنة ذلك الإحساس، من خلال اللعب مع أطفال الآخرين. كل هذه الدوائر أو الأقفاص تمارس ضغطا على السارد الفعلي في النص، وتؤثر كلها بالضرورة في طبيعة علاقته بزوجته، فيتوزع هذا التعامل بين القرب والبعد، والجذب والتنافر.
إن نماذج هذا التوجه الخاص المرتبطة بتعامل خاص مع أنساق سياق حضاري، نماذج عديدة، ولكنها تأخذ في بعض الأحيان شكل الصراع بين جانبين أو اتجاهين موجودين في لحظة ما، مثل الصراع بين المحدث والمؤسس على المستوى الاجتماعي أو الفني.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved