الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 15th May,2006 العدد : 153

الأثنين 17 ,ربيع الثاني 1427

استراحة داخل صومعة الفكر
رحلة العمر - علي حسين الفيفي

*سعد البواردي:
من منا ليس رحلة عمر طويلة.. أو متوسطة.. أو قصيرة محملة بأثقال ذكرياتها؟.. لا أحد.. فللساعة ذكراها.. ولليوم، والشهر، والسنة ذكرياتها حلوة، أو مرة.. يرصدها البعض في ذاكرته.. والبعض في مذكراته.. والبعض الآخر يطرحها كورقة حياة مقروءة فيها الكثير من العبر.. وفيها الكثير الكثير من إحباطات الحياة.. ومعطيات الحياة.
شاعرنا الفيفي رصد لنا رحلة عمره منشورةً على صفحات كتابه.. بداية بالجولان المحتل الذي عايشه كعربي ينتمي لأمة واحدة، السعدُ فيها واحدٌ.. والهمُّ فيها واحدٌ.. والجرحُ فيها واحدٌ:
إننا منك قريب
عن يمينك عن شمالك
إننا مفردة جمع.. وقريب مفردة.. الصحيح (أنني منك قريب) صوت عربي غير محدد. أو (إننا منك أتينا) للجمع
جيشنا الباسل قد جاء
ك في الحرب يشارك
فادحر الأعداء بالحرب
بعيداً عن ديارك
تلك خاطرة شعرية عن حرب العاشر من رمضان التي توهجت في حينها.. ثم انطفأت. وانكفأت للأسف.
(الماكرة) مقطوعة يقول فيها:
لا تنخدع بجمالها الفتان
كم من فتى ضحت به، وثان
فجمالها، وكمالها، وبهاؤها
يغري.. وليس القلب من صوان
القلب الصخري المتحجر.. والمتفجر غروراً لا يسمح لجمال المرأة أن يمر.. شفافية القلب والعقل أولاً.. إنها تختلف.. أليست القائلة:
وأنا التي خدع الجميع بما رأوا
من رقتي وجمالي الفتان
أقبلتُ نحوك والغرام يهزني
والقلب أضحى دائم الخفقان
لولا الحيا لجهرت بالحب الذي
أدمى الفؤاد وهز كل كياني
هل أن طيف امرأة من لحم ودم؟ أم أنها شيء آخر يتجاوز حدود الأنثى وجمالها الطاغي ومكرها؟
قالت: أنا الدنيا التي من عادتي
ألقي الجميع بصفحة النسيان
كانت الدنيا.. والمرأة أحياناً بعض الدنيا.. ومن الدنيا الماكرة إلى (اليتيم) أحد ضحاياه البؤساء:
أي هول، وأي خطب جسيم
لا يساوي بهول هذا اليتيم
كان بالأمس باسم الثغر يبدو
هادئ البال من جميع الهموم
عاش في ظل والديه عزيزا
ناعما بالحنان والتكريم
كلما قال: يا أبي: قال: لبيك
فقد كان كالصديق الحميم
وتغيرت الحال بين عشية وضحاها..
صار ما بين ليلة وضحاها
باهت الوجه، شاحبا كالسقيم
لا يريد الحياة بعد أبيه
بعد أن كان في نعيم عميم
كلنا على هذه الدنيا أيتام.. ليس فينا من لا مات له أب أو أم.. ولكن.. إذا كان الفراق وجيعة فإن الحياة وديعة لا بد أن تعود إلى مودعها.. نودِّعها بالكثير من الصبر واحتساب الأجر.. اليتم حياة.. حتى ولو كان موجعاً..
(ظلم الآباء وقلب العذارء) عنوان طويل نسبياً..
تعاتبني، وتشكو من صدودي
تقول: أظن قلبك من حديد!
وقد جهدت بلوعتها وقالت
عهدتك حافظاً كل العهود
لقد أخلصت في حبي.. وإني
أوضح كل ذلك من جديد
سرد في الحوار لم نصل من بعد إلى ظلم الآباء.. أما قلبها فقد نضح أبناؤه بما فيه الكفاية
وقد بكيت محاسنها وسالت
مدامعها على ورد الخدود
وقالت لي: أأبعد عنك ظلما؟
وتضرب بيننا سوء السدود؟
على سماع قولها، ضج لها قلبه.. كيف تعطيه هذا الحب؟ أين السبب؟ وجاءه السبب:
فجرح القلب ليس له دواء
وظلم الأهل زاد عن الحدود
فعاشت في شقاوتها زمانا
شبيهة من تكبل بالقيود..
عذراء أحبت.. حلمها تحطم على صخرة الرفض والعناد.. ليس منه دائماً من أهلها ربما لأسباب لا أعرفها.. ولا أملك الحكم لها، وعليها.. (أقول لها) عذراء أخرى جمعها لقاء مناجاة:
أقول لها والدموع تموج
تموج بمقلتها الساحرة
وقد أمسكت بيدي في حنان
وأبدت مشاعرها الطائرة
وإذا قيل هل تشفقين عليه
فردي ببسمتك الساحرة؟
فرب يد هدمت ما بيننا
وشر الأيادي اليد الماكرة
الشطر الأول من البيت الأخير يحتاج كسره إلى جبر.. أرى أن يكون هكذا (فرب يد فرقت بيننا).. أخيراً وبعد أن صمتت دهراً نطقت مكراً
فقالت: غداً نلتقي ها هنا
وراقب عيونا لنا ناظرة!
نهاية الحب الماكر (مهر بالمزاد):
أبادلك المحبة. غير أني
أخافه عليك من قول الأعادي
فلو بيني وبينك ألف داء
لجئتكِ لو حبوت على الأيادي
وحبك في دمي يجري ولكن
أرى في دربنا شوك الفناء
أي شوك يحول بين قلبين عاشقين؟!
فوالدك الذي ما كان يوما
ليقبل أي مهر اعتيادي!
يريدك للذي يعطي كثيرا
كأن المهر يعلن بالمزاد
بعض المواقع لمن يرون في بناتهم مصدر دخل لهم كما لو أنهن أسهم في بورصة المال قابلة للمضاربة.. ولكن يبقى الجانب الطيب موجوداً.. (الأحلام) الجميلة تدغدغ حياة الإنسان لأنها القنطرة التي توصله إلى أمانيه.. ماذا عن أحلام (الفيفي)؟!
يا ليال العمر مهلا
لا تضيعي أمنياتي
لا تمري كوميض البر
ق. أو كالعاصفات
لا نقدر يا شاعرنا أن نصدر لأمانينا الأمر.. وإنما نتمناها.. وحسبنا منها ما تحقق.. أما المجهول منها فإننا نترقبه.. أما الضائع فنتحسر عليه:
لم يعد من تلكمو الأحلام غير الذكريات
ومع (رحلة العمر) الأم لديوانه.. نتوقف في متابعة لها:
قد كنت طفلاً لا يرى
غير الحياة الباسمة
ألهو. وأمرح لا أخا
ف يد الزمان الغاشمة
وأرى الحياة جميلة
وهي الحياة القاتمة
لم أدر ما هذي الحياة
وما تكون الخاتمة!
وبعد أن عرف الخاتمة.. وذاق طعمها: أفزعه ذات صباح صراخ يملأ فضاء الدار:
وغدوت أسأل من لقيت وليتني لم أسأل
من ذا المسجى فوق هذا النعش؟ ما الأمر الجلي؟
خطب جلل وجد جوابه عند أخواله الثلاثة: ماتت أمه:
لا تدفنوا أمي؟ دعوها. وارحموني ترحموا
لم يسدل الستار عن مأساته:
ما كان جرحي أن يطيب وفي الحشا آثاره
واجفف الدمع الحزين. وكم جرت أنهاره
ألا رأيت إليَّ على نعش وتقفر داره
فإذا الهنا حلم تحطم سقفه وجداره
اجتر أحزان شاب.. جراحه تملأ صدره وقلبه.. وذهب الشباب بنضارته.. وجاء المشيب بتجعداته ووهنه.. كهولة متقدمة اخترقته في الأربعين
هل بعد سن الأربعين فتوة كالسابق
يا عزيزي الفيفي العمر في أشده وفي عنفوانه وعنفه رغم بياض الشعر الذي روعك وأنت تنظر إلى وجهك عبر مرآتك.. املأ داخلك يقينا.. كن جميلا ترى الوجود جميلا.. أما أحزانك فإنها لن تقرب ولن تبعد. وإنما تلقي على كاهلك ثقلا أخشى أن لا تنوء به.. ابحث في المرآة عن وجهك الآخر.. وجه الحب لسوف تلقاه.. وأشعر أنك ستلقاه لو حركت إقدامك. وأقدامك قليلا.. هذه (عفراء) محطة حب يحتاج إلى قلب يستوعب المنازلة والصبر: لا اليأس.. ولا استرجاع البؤس:
أنعيش في الدنيا بدون رجاء؟
وأنا ومن أهواه كالغرباء؟
فأنا.. وعز لم يحالف أينا
حظ فعشنا عيشة التعساء
نحيا بلا أمل.. ويحيا غيرنا
مع مَنْ يحب بدون أي عناء!
لك رفاق كثيرون على جادة الآلام واليتم ولكنهم مصابرون يحتسبون للأجر.. أحزانهم في أعماقهم مستورة.. لا يعرفها إلا هم.. يكفيك يا صديقي أن جنة أرض تتراقص من حولك مورقة ومخصبة بجمالها وشموخ جبالها اسمها (فيفاء) إنها أشبه بالعروس الهيفاء هكذا أحبت واستحبت.. وكأنما كنا على موعد مع (الفرج)
كل ما مر بنا عام ولم تدرك منانا
وأتى عام جديد مشرق مثل صبانا
قلت يا نفس اطمئني. فرج الله أتانا
ودبيب اليأس لا يلقى بأعماقي مكانا
ندع (العذر الواهي) لأهله.. كفانا جميعاً مع شاعرنا ما يلقاه من معاناة أوصلته إلى قناعة إيمانية.. وبالذات بعد أن عاد إلى قلبه نبض حبه.. (العائد)
عاد الهوى في الصدر كالإعصار
يكوي الفؤاد بلوحة كالنار
عاد الهوى من بعد أن ودعته
ومحوت كل سطوره بقراري
استبشرت خيراً بالعائد.. أو العائدة.. وإذا بحليمة عادت إلى عادتها القديمة
فإذا أنا وحدي وليس بجانبي
إلا الأماني وهي كالأصفار
فرفعت وجهي للسماء مناجيا
ربي لأشكو حظي المتواري
حسناً فعلت.. فأبواب السماء مشرعة أمام كل مناجاة.. شاعرنا كما يبدو أعطى لنفسه إجازة يخلص بها إلى نفسه دون حب.. تفرغ (لخطيبة صاحبه) أمطره وأمطرها رجزا:
فقد لقيت غادة
جميلة معطرة
لابسة ملابس
ضيقة مزرة
فرحبت. وأقبلت
بدلّة مبهمة
سألها عن اسمها
فامتنعت أن تخبره
أراد أن يخطبها
فرفضت مستنكره
عرفته بنفسها أنها ابنة الشيخ قائلة:
أنا ابنة الشيخ ولكن
سر واخطب جوهره
وأنها كأنها..
ابنة دوق أدنبره
لو نام في سريرها
يصبح ضيف المقبرة
الحياة أغلى من حب بدايته جنازة: يهرب من تجربته الشعرية إلى أخرى إلى زوجة صديقه:
أتاني صاحبي يرجو النصيحه
فزوجته الجميلة لن تريحه
يقول لها: اهدئي. فتقول: كلا
يخاطبها: لماذا يا حليمه
تقول حياتنا أضحت جحيما
وهمسك في الكلام أراه صيحه
فقلت له: ابتعد عنها وهاجر
فأرض الله واسعة فسيحه
نِعم النصيحة!
كأنه بمقطوعته (دعوها) يتحدث بلسان صاحبه الذي يكابد حياة زوجية شقية لا ذنب له فيها:
دعوها للشقاء وللهوان
تعاني في هواها ما تعاني
دعوها تشتكي ما كنت أشكو
فليس بوسعها نيل الأماني
أتبكي! بعد أن أبكت فؤادي
سأبكيها على مر الزمان
وقلت لها: قفي عني بعيداً
فما لك في فؤادي من مكان:
من غرامه.. إلى هيامه.. لم تكن امرأة.. وإنما بلدة لعب على ترابها.. وعب من شرابها.. وتنقل بين شعابها وهضابها (فيفاء)
أبلدتي التي ما كنت يوما
لأسلو عنكِ في كل البلاد
حتى يا بلدتي الخضرا أمضي
شهورا في جبالك والوهاد؟
وما حوت الجزيرة مثل (فيفا)
وفيفا لم تزل رمز البلاد
يبدو أن شاعر الفيفي ابتعد عنها لضرورات حياته.. وحتى لا تأخذ على خاطرها من بعث إليها رسالة وداع حار.. ينتظر عودة إلى أحضانها الخضراء الوارفة:
بكت عند الوداع بدمع حزن
فكدت أذوب من هول البعاد
فسحت دموعها، ووعدت أني
سأبلغها غداً أقصى المراد
(موسم العاطلين) قراءة لواقع مرفوض يعانيه مجتمع يبصر بعين الشوفينية المصلحية. الضيقة:
أرى الشوق والحزن في ناظريك
واسمع نهدتك الهادية
وما زلت في مستهل الشباب
تحطمك القصص الدامية
أفي كل عام زواج جديد؟
ولست به أبدا راضية؟
وقد زوجوكِ إلى تاجر
يريدون ثروته الغالية
فما كان حظك يوما سعيدا
رمى بكِ حظكِ في الهاوية!
ليس حظاً.. وإنما تسلط.. وحب في التملك دافعه الاتجار بالأزهار في سوق الإعصار المدمر.. زواج فشل.. وآخر فشل لأنه زواج مزاج.. أمام قلبها وحبها المحبط ساق لها نصيحته:
فإن كان جرحك أضحى عميقا
فما ضمدته يد حانية
وذا موسم العاطلين. فلا
تعيدي لهم آذنا صاغية
يحومون حولك مثل الفراش
وهم كوحوش الفلا الضارية
أخيراً.. وبعيداً عن فشل الحب.. وتجارب اليتم.. وهمِّ الحياة.. ولعبة العاطلين القاتلة.. أخيراً يستودعنا ويودعنا شاعرنا علي حسين الفيفي بمقطوعة يتلظى شواظ نارها وشظاها.. لقد آثر أن يكون وداعنا لديوانه (رحلة العمر) حاراً كالجمر..
لقد أحببت من أعماق قلبي
وقد توجت حبي بالوصال
بمن تمسي وتضحي في فؤادي
بحب لم يكن يأتي ببالي
يعدد لنا تجارب حبه:
وكم أحببت من عَذْرَا. وكانت
مثالاً للجمال وللكمال
فلما أشعلت في الصدر نارا
لظاها دائماً في اشتعال
الشطر الأخير مهتز في إيقاعه يحتاج إلى تثبيت.. كأن يأتي على هذا النحو (لظاها كاويا مثل اشتعالي)
ومدَّيت اليدين إلى أبيها
فرد لي الأماني بالتعالي
لم يتطرق اليأس إلى قلبه.. وإنما ثابر وصابر قبل أن يصرعه غول يأسه
ولمَّا دب في الحشاء يأسي
وصرت أرى الحقيقة كالخيال
أتاني الحظ مبتسماً ليمحو
مرير اليأس أو سود الليالي
البسمة ليست واحدة.. كثيرون ابتسموا لنهاية تجارب رحلة عمرك الناجحة.. ولتجارب شعرك الأصيل الجميل الذي بدأ مراً في تجربته وانتهى حلواً في محصلته.. ومع لقاء آخر مع شاعر آخر..


* الرياض ص.ب: 231185
الرمز: 11341 فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved