الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 16th February,2004 العدد : 46

الأثنين 25 ,ذو الحجة 1424

صاحب الفتى مفتاح

كتابة السيرة الذاتية فن جديد لم نعرفه، ولم يعرفه العالم بهذه الكثرة والتنوع، ولعل أهم الصعوبات في كتابة السيرة الذاتية تكمن في مدى قدرة الإنسان على البوح والمكاشفة فهي اعتراف طوعي بالدفين والمخبأ، والإنسان لا يود غالبا أن تعرف خباياه ومدافنه، أن تنشر فضائحه على الملأ، وأستاذنا عبدالفتاح أبو مدين قد عرف منذ شبابه بالجرأة والصراحة والمكاشفة، لذلك جاءت سيرته في (الفتى مفتاح) تنضح بعفوية والصدق، وإن كانت تترفع عن الوقاحة والإسفاف، كما نرى في بعض السير العربية المستغربة.
كنت قد كتبت قبل عدة سنوات، عن هذه السيرة (المفتاحية) الجميلة وقلت: إن أروع جزء فيها هو ما كتبه الأستاذ أبو مدين عن طفولته وصباه في ليبيا، قبل قدومه مع والدته رحمها الله إلى المملكة، ففي تلك المرحلة الليبية نشعر بعمق المعاناة التي يتحملها الصبي الصغير في سبيل العيش، مع المحافظة على كرامته وكرامة أسرته الصغيرة، وقد استمرت تلك المعاناة حتى بعد هجرته إلى المملكة، وان كان خاله الوفي رحمه الله قد خفف منها وبدأت الظروف تتحسن تدريجياً، ولعل الطريف في تلك الهجرة هو إقدامه على تغيير اسمه القديم إلى اسم جديد.
كان اسمه في ليبيا هو (مفتاح بن أمحمد بن عبدالله بومدين)، فأصبح اسمه (عبدالفتاح أبو مدين). وتغيير الأسماء ظاهرة يمكن تتبعها في أوساط المهاجرين إلى المدينتين المقدستين، مكة المكرمة والمدينة المنورة، منذ أقدم الأزمان حتى وقتنا الراهن.
ويستمر صمود ذلك الفتى طوال السنوات الماضية، أي من أواخر الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا، إن الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين من روادنا الكبار الذين أغنوا الحركة الأدبية والفكرية في بلادنا بإبداعاتهم ومشروعاتهم الثقافية ومواقفهم الوطنية وإخلاصهم وشجاعتهم، ومن الصعب تلخيص كل ذلك الغنى في كلمات قليلة لا تغني ولا تشبع. ومن حسن الحظ أن عثمان الغامدي وهو أحد أبنائنا الطلاب في كلية الآداب جامعة الملك سعود، قد كتب رسالته للماجستير عن جانب مهم من جوانب النشاط الثقافي عند أستاذنا أبي مدين، وهو جانب النقد الأدبي، وكنت سعيداً باشتراكي في لجنة المناقشة، وإنني آمل أن تطبع هذه الرسالة، وأن يحظى بها جمهور القراء.
ويبدو أن النقد الأدبي بمفهومه القديم، كان هو الاتجاه السائد عند روادنا بين الحربين، ذلك النقد الذي يبدأ بقراءة متأنية وينتهي بمعركة. وقد شارك أبو مدين في تلك المعارك الحامية بمقالاته التي كان ينشرها في صحفنا ومجلاتنا المحلية منذ بدايات السبعينيات الهجرية الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي، ثم جمعها في كتابه (أمواج وأثباج) سنة 1378هـ 1958م. وممن أصابتهم سهام ذلك الشاب المتألق كان كلا من عبدالسلام الساسي وطاهر زمخشري وحسن القرشي وأحمد قنديل وعبدالله عريف ومحمد عمر توفيق وابراهيم فودة.
وكان أبو مدين في تلك الحقبة البعيدة محافظاً، لا تعجبه الحركات الأدبية الجديدة التي أخذت في الظهور آنذاك مثل حركة الشعر الحر وقصيدة النثر والرمزية والواقعية الاشتراكية إلخ.
وقد عرف أبو مدين في تلك الفترة أيضا أي في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات الميلادية بصحيفتيه الرائدتين: (الأضواء) و(الرائد) واللتين استقطبتا حولهما الكثير من الشباب ورجال الفكر والأدب. لقد كان أستاذنا من القلة الذين يفتحون صدورهم للرأي الآخر ويستميلون الكثيرين حولهم دون تملق أو رياء. إن لديه القدرة على التسامح دون التفريط بما يتمسك به هو من آراء شخصية أو مبادئ، لذلك فقد تميزت جميع مشاريعه الثقافية بالعمل الجماعي، وكان من المؤمنين بالحوار الوطني منذ زمن بعيد. ويكفي التدليل على هذه الموضوعية المتسامحة بتبنيه في نادي جدة الأدبي وفي مجلته (علامات) خلال بدايات القرن الهجري، الثمانينيات الميلادية لجميع الشبان الحداثيين الذين كانوا آنذاك يطاردون في كل مكان ويرمون بالحجارة. لقد وجدوا فيه بعد الله الملجأ والملاذ. ولم يسلم أبو مدين من الاتهام والهجوم، ولكنه وقف صامداً، وفتح أبواب ناديه ومجلاته للعرب والمبدعين والمفكرين من كل مكان، ولولاه، فيما أظن، لفشلت الحداثة في بلادنا فشلاً ذريعاً.
ولأبي مدين، رغم ما يبدو على وجهه من عبوس وتجهم، جانب إنساني وظرف لا يعرفه الا القلة من أصدقائه المقربين. وقد سعدت بصحبته في إحدى السنوات إلى مربد صدام ببغداد. كنا نحضر مع بعض الإخوة تلك اللقاءات والندوات والأمسيات. نتهامس، تعلو أصواتنا أحياناً، نتلفّت حولنا، ولكن لا تلبث أصواتنا أن تعلو وتعلو فننفجر بالضحك.
أبو مدين، الرائد والصديق والإنسان، الفتى مفتاح، كان من أوائل المرشحين لجائزة الدولة التقديرية في الأدب، ولكن أين هي الجائزة، وقد بحت أصواتنا لإرجاعها منذ زمن بعيد. أتمنى لأستاذنا الكبير العمر المديد، والمزيد المزيد من الحب والتألق والانتصارات.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
وراقيات
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved