الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 16th February,2004 العدد : 46

الأثنين 25 ,ذو الحجة 1424

عبدالفتاح أبو مدين البسيط من غير تصنع أو مبالغة
علي الشدوي
أول مرة شاهدت فيها عبدالفتاح أبو مدين كان على منبر نادي جدة الأدبي وهو يقدم أحد المحاضرين، انسل من آخر صف في القاعة من غير أن يشعر أحداً بأنه الأول الذي سيقدم ما سيستمعون إليه، مر من أمامي ينحني قليلاً، وهو يصعد المنبر اكتسى في ذهني مشهده العادي والبسيط حيوية كبرى بفضل نشاطه المركز والكثيف.
أنهى كلماته ببساطة مدهشة، اقتصاد في الكلمات تكشف عن خبير يتعامل مع منبر حتى أنه لم يلحن في كلمة واحدة، كانت كلماته وضبط أواخرها المتقن تولد عندي إحساسا بامتلاء هائل، كلماته قليلة لكنها هي التي خلقت جاذبية كلامه وصداه الذي وصل إلي بعمق.
عاد وجلس في مكان قصي من الصف الأول، كان يراقب ما يدور بعينين عميقتين تطفحان بالصبر واللطف، أحيانا كان يروح ويجيء في القاعة كشبح لطيف يؤدي أدواره ويلبي حاجات الحاضرين دونما ضجة كأنما يملك قوة سحرية لا تجعله يطأ الأرض حتى لا يزعج المستمعين بخطواته.
ترى كيف تشكل هذا العابر الخفيف؟
في سن متقدمة نسبياً انخرط أبو مدين في وسط جدة الثقافي قادماً من المدينة المنورة، وبدأ حياته محرراً في جمرك جدة، ولم يكن يطمح إلا أن يكون مثل رئيس تحرير أمانة الجمارك الذي يصوغ المذكرات بألفاظ راقية وتراكيب قوية ومترابطة.
اكتشف أبو مدين في وسط جدة الثقافي شبكة معقدة من العلاقات، لقد ذهل من وسط ثقافي يبني علاقاته على أساس من القوة والمادة والوجاهة والانحناء والتذلل (أبو مدين، 1986، ص:26) وكان عليه أن يختار فاختار ذاته وانكب على الكتب متمعنا وفاحصا ومتأملا وباحثا عن فرصة مواتية لاختراق ذلك الوسط وهو محتفظ باستقلاليته.
منذ البداية عرف أبو مدين المجتمع الثقافي حق المعرفة، فوضعية المثقف فيه ليست مستقرة، وعلاقات القوة والمادة والوجاهة عرضة للاختلال في أي لحظة، وهو نفسه يعترف بأنه قد يضع قلمه في جيبه في أي لحظة ويذهب لبيع البقدونس في باب مكة (أبو مدين، 1986، ص:74).
إن تاريخ عبدالفتاح أبو مدين الثقافي شهادة على أن بريق الوسط الأدبي في تلك الفترة وربما الآن لم يكن بريئا فهناك موانع ومحاذير من أن تمس بعض شخصياته، وقد حدث أن طلب منه محمود عارف ألا ينقد أحمد الغزاوي، بل إن بعض الأدباء كان يكتب النقد ويذيله ربما خوفاً أو مكيدة باسم آخر (أبو مدين، 1986، ص:91).
لم يركن أبو مدين إلى القواعد التي يمليها عليه الوسط الثقافي، فمنذ البداية لم يرض عن وجود فؤاد شاكر على رأس الصحيفة التي يملك امتيازها، لا لشيء إلا لأنه لا ينبغي أن يضع قيادته في يد غيره (نفسه، ص:48)، ثم إن فؤاد شاكر إنسان مسالم (ص:49)، كان يعتبر المسالمة ارتهاناً لقواعد هو ينبذها أصلا، لأن ما يسيره ليس شبكة العلاقات التي نسجها بل الطموح والأمل والصراع بغض النظر عن النتائج.
بدأ أبو مدين حياته الثقافية صحافياً وناشراً وناقداً يراقب الشعر ويترصده وفي ذهنه بأي شيء يكون الشعر والشاعر مخطئا وغير موهوب، كان الشعراء يتحسسون نقده، وما له دلالة هنا حكاية أثيرة أوردها في كتبه أكثر من مرة (أبو مدين 1986، ص:43 أوردها أيضا ص:87).
كان عبدالفتاح أبو مدين ومحمد سعيد باعشن يتفاوضان مع مدير مؤسسة الطباعة والصحافة والنشر لاصدار جريدتهما الأضواء، تقع المؤسسة في كيلو (5) طريق مكة، صدفة مرّ بالمطابع الشاعر والأديب والكاتب ونائب رئيس مجلس الشورى أحمد بن إبراهيم غزاوي.
من غير مناسبة سأل الغزاوي مدير المطبعة عن هذين الرجلين، فقال إنهما فلان وفلان وهما هنا يفاوضانني من أجل طباعة صحيفة، لاشك في أنهما كانا يعرفانه، يتحدث أبو مدين قائلا: (نحن مرتبكان، منكمشان أمام الرجل الكبير العملاق بهامته وقامته)، ترى ما موقف هذا العملاق من هذين المنكمشين المرتبكين؟ يتابع أبو مدين قائلا: (تحرش بنا دون أن يبدر منا أي كلمة، لوح بعصاه في الهواء وقال: إن من ينتقدني أضربه بهذه العصا).
لم يكن هذا الموقف يمر على عبدالفتاح أبو مدين فقد أسرّه في نفسه، يقول أبو مدين (ويوم جاءت الفرصة تصديت لقصيدة ألقاها أمام الملك سعود وهي مسخ لقصيدة أبي الطيب المتنبي) فيما بعد أصبحا صديقين، ويختم عبدالفتاح أبو مدين هذه الحكاية قائلا: (كان في مقدور الرجل أن يُضرَّني لكنه كان كبيراً في نفسه وعقله ومروءته).
دعوني أولا أسجل ست صور من هذه الحكاية..
الصورة الأولى: ناقد منتش لأنه سيُصدِر صحيفة.
الصورة الثانية: أديب ورجل سلطة يقف منتفخاً أمامه.
الصورة الثالثة: ناقد منكمش ومرتبك.
الصورة الرابعة: أديب ورجل سلطة يرفع عصاه مهدداً الناقد.
الصورة الخامسة: ناقد يحمل في نفسه، وحينما تحين الفرصة ينقض كالصقر.
الصورة السادسة: أديب ورجل سلطة يتسامح مع الناقد، علماً أن في امكانه أن يضرَّه.
هل أكتفي بهذه الصور الستة؟ لا ربما من المفيد أن أستحضر صوراً أخرى لا تقوم فيها العلاقة في الوسط الثقافي على قيم التسامح والتعدد المفترض أن تكون متوفرة في المجتمع، إن أهمية هذه الحكاية تكمن في أن المثقف قد يجد نفسه في مأزق وهو يعيش في مجتمع أدبي يقيم علاقاته على السلطة والقوة.
تعلم أبو مدين من هذه الحكاية أن يشق طريقه في غابة مزدحمة بالأغصان والأعشاب وكذلك الأشواك، كان يعرف أن دربه قد يتوقف من غير أن يواصل سيرة، لقد اتبع طريقه الخاص الذي شقه بنفسه في الغابة ذاتها، يسانده عقل ناضج في ذلك الزحام.
في تلك الغابة المزدحمة لم يعادِ أبو مدين أحداً لمصلحة شخصية، من يقرأ الآن كتبه يعرف أنه لم يقف موقفاً محايداً فيما يعرف أنه حق، كان شجاعاً في رأيه، وفي نقده، جريئاً من غير تصنع أو مبالغة، يقول الحقيقة ببساطة ومباشرة تشعر من يقرأ أن يكون دوماً أكثر إنجازاً ويصل إلى ما يريد بخط مستقيم.
إن الدرس الذي يجب أن نتعلمه من سيرة أبي مدين الثقافية هو أننا يجب ألا نخاف من المجهول، وأن كلا منا يملك القدرة على أن يكتسب ما يريد، وما يطمح إليه، وأن ما نخشاه يجب ألا يفقدنا تركيزنا فنخسر ما كسبناه، وأننا لن نخاف أبداً إذا ما فهمنا أن صيرورتنا كلنا ومعها صيرورة العالم قد خطتها يد واحدة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
وراقيات
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved