الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 16th February,2004 العدد : 46

الأثنين 25 ,ذو الحجة 1424

الفتى مفتاح... ومغامرته الصحفية
محمد عبد الرزاق القشعمي

قدم الفتى مفتاح بن محمد بن عبد الله بومدين عام 1363هـ 1943م من بني غازي بليبيا إلى جدة بالمملكة العربية السعودية وعمره لا يتجاوز الثامنة عشرة مع والدته لأداء فريضة الحج بدعوة من خاله مصطفى بدر الدين الذي كان يعمل بالجمارك بجدة.
بمجرد وصول الفتى إلى جدة اصبح خاله يدعوه ب«عبد الفتاح» استقر لدى خاله وبدأ بطلب العلم في جدة ثم انتقل خاله للمدينة المنورة بعد تقاعده فلحق به ليدرس بمدرسة العلوم الشرعية، عاد ليعمل في الجمارك بجدة بتوصية من خاله، فتعرف على الاستاذ الشاعر محمود عارف الذي بدأ يساعده على المطالعة ويدله على المنفلوطي ورسالة الزيات والرافعي وغيرهم.
بدأ ينشر بداياته مع الكتابة في جريدة المدينة المنورة منذ عام 1369هـ وخصص له عموداً اختار له اسم «أحاسيس» انتقل بعد ذلك ليكتب في جريدة البلاد السعودية، وبدأ يتطاول على عمالقة الأدب وقتها مثل محمد حسن عواد وحمزة شحاتة وأحمد قنديل وينتقد شعرهم من خلال تناوله لكتاب عبد السلام الساسي «الشعراء الثلاثة» فقفل باب النشر امامه، مما دعاه إلى إرسال مقالته النقدية إلى جريدة «الأحوال» بمصر.
وما زال بريق الصحافة يغريه.. والفتى المغامر في داخله يدفعه إلى الأمام فتعرف على محمد سعيد باعشن زميله بالجمارك فتدارسا امكانية اصدار عمل مشترك كأن يجمعا مقطوعات شعرية لمجموعة من الشعراء ويصدراها في كتاب على طريقة الساسي، ولكن الآمال والأحلام كبرت بحيث يذهبان إلى المديرية العامة للصحافة والنشر ليقدما طلباً لإصدار صحيفة اسبوعية دون ان يحسبا للعواقب.
وهكذا بعد ستة أسابيع تأتيهم الموافقة السامية.. فيصبح الحلم حقيقة ويبدأان يبحثان عمن يمولهما، فأقرضهم محمد عبد الله رضا الفي ريال قيمة إعلانات مسبقة وأسكنهما البنك الاهلي بإحدى شقق عماراته مقابل ان يعلنا للبنك مقابل قيمة الايجار.
وهكذا صدر العدد الأول في شهر ذي القعدة عام 1376هـ.
ونجد الفتى الذي عرف بعد ذلك ب«عبد الفتاح أبو مدين» يقول في كتابه «حكاية الفتى مفتاح».. وأصبح الناس وأمامهم الأضواء إعلاناً، ثم ورقات تقرأ.. تحمل الطموح والعمل والجد والتحفز لاقامة صحافة.. فيها وثبات وفورة الشباب فلا بلدية نستأذنها في تعليق هذه الإعلانات ولا قيود تكبل هذا السعي، وتلك طبيعة الحياة ويسرها وبساطتها.
وانطلقت الأضواء، وكان زميلي رحمه الله الذي يشاركني من عشاق المظهر والصدارة، يريد رئاسة التحرير، فلم أعارض، ولم أطمع، ورضيت أن أتولى شؤون الإدارة.. وأشارك في التحرير، واتولى عنه المسؤولية في غيابه..
ونجحت الأضواء بمقاييسنا، وإن كانت لم تعمر، ولكنها تركت دوياً وتاريخاً.. في صدق العمل وإخلاصه وتعبه وكفاحه، ونجحه وإخفاقه، ولا تحتمل هذه السطور.. الاستطراد لتسجيل دور الأضواء في الساحة الصحافية والأدبية يومئذ، وهي للتاريخ والدارسين، الذين يعنون بالدرس والتقويم، من خلال الإمكانات والظروف بعامة. وليس لي سوى الطموح والعطاء غير المحدود، في سبيل العشق والحب.. لما أعمل وأختار، حتى كتابة اسماء المشتركين على الوريقات التي تلبس فيها الجريدة وتبعث إلى البريد، اكتبها بيدي وقلمي، حيث لا نملك مالاً نوظف به من يتولى هذا العمل وأمثاله، وهذا شيء من معطيات العشق حتى الوله.. في سبيل إشباع الطموح وتحقيق الآمال.
ونطالع العدد الأول من «الأضواء» ثقافية أدبية اجتماعية، يديرها:
عبد الفتاح أبو مدين ومحمد أمين يحيى، وبخط عريض تحت العنوان: جريدة تصدر أسبوعيا مؤقتاً يرأس تحريرها: محمد سعيد باعشن، الاشتراكات داخل المملكة 10 ريالات وفي الخارج 20 ريالاً.
الثلاثاء 6 ذي القعدة 1376هـ الموافق 4 يونيه 1957م.
وفي الصفحة الأولى كلمة العدد والتي وقعت باسم «التحرير» وجاء فيها: «شعلة توقدونها أنتم معنا بأفكاركم وآرائكم وثقافتكم وعلومكم ونقدكم، فإذا هي أضواء وهاجة تنير السبيل، وتوسع المدارك، وتفتح آفاقاً، وتوجه النشء، وتخدم المجتمع، وترفع راية الأدب سامقة الذرى خفاقة.
إنها صحيفتكم أنتم أيها القراء، إنها منكم ولكم وإليكم، تعبر عن كل ما تجيش به صدوركم، وتعلن مطالبكم ما وجدت السبيل إلى تأييدكم وتعضيدكم فيما ينفع الناس، لقد أنشأناها لكم، وما نحن إلا أحراس، ونرجو أن نكون أمناء وقوامين نرعى خدمة الأدب والثقافة والفن ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
الأضواء..
قبس من نوع يشع من هذه الأرض، وليس هذا الشعاع بغريب أو جديد عنها، فقد شع منها من قبل وما زال ذاك الشعاع يسطع ويتجدد في ارجاء المعمورة وهو شعاع ينبع من نور الحق فيبدد الظلام ويهزم قوى الشر، ويكتسح الضلالات والأوهام، وقد حطم من قبل الأصنام، وهزم الشيطان وحزبه إلا أن حزب الشيطان هم الخاسرون.
جريدتكم الوليدة بتشجيعكم تنمو وتترعرع، وبتأييدكم تكبر ويسطع شعاعها، فيملأ الآفاق بمعاني الخير والسلام والحرية والعدل».
ومقال آخر لمعالي وزير التجارة محمد عبد الله رضا الذي أقرضهم الألفي ريال بعنوان «سياستنا التجارية»:
«الثقة هي كل شيء في عالم المال والتجارة.. التخصص في التجارة من مصلحة التجار والبلد.. تشريعات جديدة تنظم الغرف التجارية».
وعلى يسار الصفحة الأولى صورة جلالة الملك سعود وقد كتب تحتها .. «من حكم جلالة الملك المعظم» «هذه بلادكم وهذا شعبكم. وأنتم يا أهل الرأي والمركز والقلم مسؤولون أمامها لأن الصلاح والفساد فيها قد ينسبان لكم. فتحرروا ولا تتقيدوا في التفكير والعمل إلا بهدي الضمير وحده. والله الموفق».
الأضواء
يا صاحب الجلالة. ويا سليل الاباة الصيد. ويا سيد العرش ويا أمل الشرق والعروبة يا حامي الحمى..
هذه الأضواء غرسة من غراسكم المجيدة، ووثبة من بنائكم الجبار للتحرر والسمو والرفعة في العالم الحي الطامح إلى الحياة الكريمة الواعية في ظلال جلالتكم الوارف، وتحت رايتكم الخفاقة في عالم الوئام والتحرر والسلام».
وهكذا تمضي «الأضواء» اسبوعياً تعالج القضايا الاجتماعية وتواكب الأحداث العالمية وتنشر ما يصلها من الأدباء من شعر ومن نثر وفتحت أبوابها وحددت صفحات للطلبة بعنوان «حصاد الطلبة، يشرف عليه عبد الكريم نيازي، ومن حصاد الاسبوع لمحمد كامل خجا وغيرها ويصدر عدد خاص عن وثبة الإذاعة في 15/2/1377هـ، وبغلاف ملون يتوسطه جلالة الملك سعود ومدير عام الإذاعة والصحافة والنشر عبد الله بالخير وتتاح الفرصة للشباب الرياضي زاوية باسم «ركن الرياضة» يحررها صالح محمد جلال، وركن آخر للقصة.
ويشارك عبد الله عبد الرحمن جفري بالإشراف على «حصاد الطلبة» من العدد الرابع، وركن «ردود.. ومطالب» بإشراف حمدان صدقة، و«لحظ ولفظ» لعبد الفتاح أبو مدين.
ويخصص العدد «34» بالترحيب بالأمير فيصل «فرحة الشعب يوم عودة فيصل»، ويفتح صفحة تخصص ل«النشء الجديد يكتب».
ويكتب الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين فيها الكثير من المواضيع ويناقش القضايا الأدبية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، منها ما هو باسمه الصريح ومنها ما يوقعه بأسماء مستعارة مثل: السائح ابن الصحراء، أبو مدين، أبو وديع وهذا اسم ابنه البكر وأبو مدين الرائد.
ويشارك في الكتابة اعداد كبيرة من الأدباء والكتاب من مناطق المملكة المختلفة مثل ناصر المنقور وسعد البواردي وعبد السلام الساسي وهاشم عبده هاشم وعبد الله عبد الوهاب وعبد المنعم خفاجي واحمد عبد الغفور عطار ومحمد سعيد العوضي وعبد الله الحصين وعبد العزيز مؤمنة، وعبد العزيز فرشوطي وعبد العزيز الربيع وعبد العزيز احمد ساب ومحمود عارف وشكيب الأموي ومحمد حسن عواد ومن الأسماء المستعارة فتى حائل «فهد العريفي»، أبو نزيه» محمود عارف، أبو سهيل «عبد الكريم الجهيمان»، أبو حياة «أمين سالم رويحي»، فهد العلي حائل «فهد العريفي»، أبو سعود»، وابن خلدون «الشيخ محمد حافظ»، وشاعر الأغصان «عبد العزيز الرفاعي» وأبو سمر «درويش كتوعة»، وأبو سناء «حمدان صدقة»، وأبو عزة «محمد عبد الرحمن»، والشطيري «مسعد الشطيري»، وهباء «محمود رحيمي»، والسحار «عبد الحميد جودة السحار»، وعطارد وأبو ممدوح «محمد سعيد باعشن»، وأبو خيال «عبد العزيز عطية أبو خيال»، وفتى الوشم سعد البواردي» وأبو عزام «عبد الله الحصين» وأبو ضحى «شكيب الأموي».
من العدد 67 الصادر يوم الثلاثاء 25 صفر 1378هـ الموافق 9 سبتمبر 1958م ارتفعت وتيرة صوت الأضواء فبعد ان كانت تهاجم وتحارش بعض الشركات والمؤسسات المقصرة مثل: تلاعب شركات الكهرباء.. إقطاعية المؤسسين في الشركات الكبرى تحول دون تقدمنا الاقتصادي والعمراني.. بدأت تهاجم بشكل أكبر وبصوت أعلى .. فقد نشرت في اعلى الصفحة الاولى من العدد المشار إليه «مليون دولار أمريكي تدفعها الأرامكو سنوياً للجامعة الأمريكية في بيروت» وموضوع آخر تحت عنوان «من هي الأرامكو»؟ وموضوع آخر يقول «اسمعي يا بلدية جدة» وفي العدد التالي يتصدرها عنوان «ماذا عملت وزارة التجارة منذ تأسيسها حتى يومنا هذا.. وماذا فعلت لايقاف الغلاء الجنوني «بعد عنوان «كفاية دعاية يا أرامكو».
وفي العدد «70» تكتب عنوانها الرئيسي «أرامكو تتبرع بـ133 دولاراً لدار الحنان والأيتام بينما تتبرع بـ 000.15 دولار لمستشفى كندي التذكاري» وموضوع آخر «أرامكو .. وكيف توزع تبرعاتها!!» وسلسلة مقالات تبدأ بعنوان «كل شيء عن أرامكو».
وفي العدد «73 74» تكتب «الحكومة تلزم أرامكو بتحسين مستوى العمال ورفع معيشتهم».
وفي العدد التالي «75 76» نجد «الحكومة توافق على مبدأ إعطاء امتياز تنقيب البترول والمعادن لشركة ساني وجنرال كوستا» وموضوع آخر «امنحي الموظفين السعوديين ثقتك يا ارامكو» وهجوم على المجلس البلدي في جدة بدأها بقوله «تكون هذا المجلس، منذ عام ونصف، بالانتخاب، وفي هذه الفترة على طولها لم نر أي أثر من الأعمال التي نستطيع أن نعدها، في ميدان العمل، والناس هنا يتطلعون إلى أعمال هذا المجلس، يريدون أن يعرفوا ما درس وما هو وشيك الانتهاء، وما سيتحقق، وما ووفق على تحقيقه، إلى غير ذلك من المشاريع النافعة التي يحتاجها هذا البلد والتي في حدود اختصاص البلدية، والمجلس البلدي.
والمعروف ان بين أعضاء هذا المجلس من اقحم إقحاماً في الانتخاب، لأن ما وضع فيه لا يتفق مع اتجاهه ودائرة اختصاصه لذلك فهو في موقف قد يكون غير راض عنه..
ومع هذا فإنا نطمع في تحقيق أمور ضرورية لجدة بفضل العاملين من هؤلاء الأعضاء، لأن البارزين فيه احرياء بالعمل المجدي المحقق، وحبذا لو يقرأ الناس شيئاً عن المشاريع العامة، ليعرفوا مدى نشاط المجلس البلدي واعماله، في سبيل الإصلاح، فهل نسمع ما يطمئن؟ ولعل في الجعبة ما لم ندرك.. «السائح».
وفي العدد «77 78» نقرأ العنوان الرئيسي «نتحدى الأرامكو ان تثبت أننا ساومناها.. وسننشر فضائحها تباعا».
ويحتفل بالعدد بيوم الجلوس الملكي.. فينشر بكامل الصفحة الأولى موضوع: «سعود رمز القومية العربية الأكبر» بقلم احمد عبد الغفور عطار، ومحمد أمين رويحي يكتب «ذكرى الجلوس الملكي».
وهكذا في الأعداد التالية وحتى آخر عدد صدر منها وهو العدد «87» الصادر يوم الثلاثاء 25 جمادى الآخر 1378هـ الموافق 6 يناير 1959م، يكتب رئيس التحرير افتتاحية العدد بعنوان «لن نخضع.. يا أرامكو» وفي صدر الصفحة الأولى أيضاً صورة رجل كتب حوله «سالم يشتري نفسه».
الأضواء تجري أهم تحقيق صحفي عن أول عبد يشتري نفسه من سيده.
سالم شاري نفسه.. يقول الحمد لله فقد تحررت.
العبد يصرح بأنه خرج مع الصبية ليلعب فسرقته عصابة باعته بثمن بخس لتجار الرقيق.
سالم يبكي ويقول: دلوني على أمي واخواتي..».
وهكذا توقفت «الأضواء» منهم من يقول أن ضغط شركة أرامكو وتأثيرها هو السبب ومنهم من يقول ان موضوع «سالم يشتري نفسه» هو السبب، والله اعلم.
ولكننا نعود إلى ما كتبه الاستاذ عبد الفتاح أبو مدين في «وتلك الأيام» فنجده يقول : «أخذت الأضواء.. تشق طريقها، تتلمس الضعف، فتسلط عليه اشعاعاتها، وتنظر إلى الأهداف القوية.. فتشيد بها وتباركها، إلا بتسليط الأضواء عليها وكشفها والتنبيه إليها، وممارسة النقد الهادف للحد من الأخطاء، وإلا استمرأت المضي في ممارستها الخاطئة، وبلد بغير صحافة قوية.. تتراكم فيه الأخطاء، وتنداح على مساحته الفوضى، ويكثر فيه الباطل، ويضيع فيه الحق.. ويشيع فيه الشر، ويضمر فيه الخير، وأنا أتصور أن الصحافة المتزنة.. التي تعرف رسالتها ومسؤولياتها، ينبغي أن تمارس روح ومضمون الحديث النبوي الشريف: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده أو بلسانه أو بقلبه، والصحافة.. لا ينسحب عليها الشطر الأخير من الحديث، وإنما هي لسان حال الامة وضميرها وقلبها».. «وهذا النقد الجريء، لا يعجب المنتفعين، لأنهم يرون فيه خطراً عليهم وتضييقاً ويعد بعض الخائبين المتخلفين، الذين لا يحسنون إلا العبث والنفاق. بما يقولون ويكتبون إن الجرأة التي كنا نكتب بها شيء عارض في نفوسنا، أو هو اندفاع وتهور، وعدم تحسب للعواقب أو أنه عن سوء قصد.. أو لا سمح الله حقد على الآخرين، إلى غير ذلك.. من هذه العبثية الصبيانية السخيفة الجاهلة، والكارهة لأي نجح يصيب غيرها. الذين يعرفون أقدار أنفسهم».. «كنت اختلف مع صديقي محمد سعيد باعشن.. في بعض ما ينشر، فأنا لست هياباً، ولكني أميل إلى الاتزان، أما هو.. فكان أحياناً يشط، فينشر مالا أراه، وإذا كان هو رئيس التحرير، فأنا شريكه.. أتحمل معه الغرم، كما نقتسم الغنم، إن صح أن في الصحافة غنماً، كنا نختلف ولكنا لا نختصم. ولعل شطحات زميلي.. هي التي أودت بصحيفة الأضواء إلى التوقف.. قبل أن تتم عامها الثاني.
إحدى تلك العثرات، توقف الأضواء.. من 12/3/1377هـ إلى 15/4 من العام نفسه، مدة أكثر من شهر.. إثر مقال كتبه محمد أمين يحيى عن «المولد النبوي» رأى فيه علماؤنا.. مخالفة لما ينبغي أن يكون عليه المؤمن تلقاء رسالة سيد الأولين والآخرين، وهي أن حب صاحب الرسالة.. اتباع ما أرسل به وأمر، أما الابتداع فلا محل له في نفس المؤمن الصادق. والاحتفال بالمولد النبوي.. أحد الأمور التي لا تقدم ولا تؤخر، لا تنفع المحتفي ولا المتحفى به.
ثم كانت المعركة الكبرى مع شركة «الأرامكو» وهذه الشركة دأبت على استضافة الرجال الكبار والصحافيين.. ليقفوا على منشآتها واستخراج البترول وتكريره.. في المنطقة الشرقية من البلاد، ولعل الأرامكو ينطبق عليها المثل العربي «على أهلها جنت براقش»، فعادت عليها زيارتنا بكثير من المتاعب وهي السبب فيها، لأنها حرمت أربعة عشر ألف مواطن، أو نحو هذا العدد، من حقوق مشروعة وقد استغلت أرامكو مركزها فأعطت الموظف الأمريكي الأولوية وتركت المواطن يطالب بحقه ولا من مجيب... مضينا في أداء رسالتنا جادين، نخطئ ونصيب، نندفع ونتراجع، حتى كانت النهاية، في يوم 20/5/1378هـ، إثر صدور العدد 89/90.
وهكذا.. وصلنا إلى آخر المطاف في امتلاكنا لامتياز صحيفة الأضواء.. التي غربت شمسها، فاستراحت الأرامكو واستراح الكثيرون.. الذين كان يقلقهم ما تنشره من نقدات ونبش للأخطاء وتسليط أضوائها.. لمعالجة المسارات الخاطئة في شتى ممارسات الحياة، أو في مسار الناس فيها. نحن ندرك.. ان لكل بداية نهاية، وهي نهاية محتومة.. لا مفر منها، علينا أن نقبلها راضين أو كارهين، هكذا علمتنا الحياة، ان من يصيب ويخطئ فيها هم العاملون، ذلك أن لكل أجل كتاباً».
الرائد لا يكذب أهله:
ولم ييأس.. فقد تعود على محاربة الجهل والتقصير وأخذت الصحافة منه كل اهتمامه فعاود اتصالاته بالمسؤولين وبالذات بالأمير فيصل ولي العهد معللاً بأنه ليس مسؤولاً عن اخطاء الأضواء فهو ليس رئيس تحريرها.. واستمر مدة ثمانية أشهر إلى أن بشره عبد العزيز الرفاعي هاتفيا بالموافقة على اصدار مجلة اختار لها اسم «الرائد» وهكذا بدأ يعد ويستعد إلى أن صدر العدد الأول في غرة ربيع الأول من عام 1379هـ.
وبعد أن كانت الأضواء بحجم 40x27 بـ 16 صفحة صغيرة «تابلويد» أصبحت الرائد مجلة بحجم 28x21 بـ 36 صفحة.
وبالقاء نظرة سريعة على العدد الأول نجد الغلاف الملون الجميل وقد كسته أشعة الشمس وكتب تحت اسم «الرائد» تعنى بشؤون الأدب تصدر بجدة. الثمن نصف ريال سعودي، وفي الصفحة الأولى كتب في اعلاها الرائد مجلة أدبية اسبوعية تصدر كل نصف شهر مؤقتاً. العدد الأول السنة الاولى 1 ربيع الأول 1379هـ 4 سبتمبر 1959م، وعلى يسار العنوان مديرها ورئيس التحرير عبد الفتاح أبو مدين تضم الصفحة الأولى ثلاث مقالات الأولى «كلمة الرائد» والثانية «الريادة» لعبد العزيز الرفاعي والثالثة مولد الرائد الاعلى للشيخ ابراهيم الشورى.
نختار من كلمة الرائد التي وقعت ب«أبو مدين».. «بسم الله وبه نستعين، وبعد فإن البحث عن المتاعب، لم يكن حباً فيها، وإنما نستطيع أن نعزو هذا إلى طموح في النفس».
أما إذا قيل أن هنا! وهناك من يبحث عن المتاعب من أجل الشهرة، فالذي ينطبق عليه هذا القياس، يعتبر مريضاً بشيء من الأمراض النفسية الكثيرة.. نسأل الله العافية.
والبحث عن المتاعب في سبيل النهوض بمرفق من مرافق الحياة العامة، مجهود مهما يكن ضئيلاً.. فإن صاحبه. يعتبر عاملاً .. ومكافحاً.. والأصل في أي عمل.. الإخلاص.. والنية، لأن الأعمال بالنيات، كما يعلمنا الحديث النبوي..
ومهما تكن الحال.. فإن الحياة جهد.. وعرق.. وصراع.. والإنسان خلق ليعمل.. ويكدح.. فيما يسر وخلق له.
والرائد مستعدة.. لقبول أي توجيه ونقد أخطائها بصدر رحب.. إذا كان النقد نزيهاً.. يهدف إلى الإصلاح والتقويم.. مهما يكن مرسله..
و«الرائد» تأخذ على عاتقها الحفاوة.. بنقد التراث .. وتفتح له أوسع المجالات، شريطة أن يكون النقد موضوعياً.. اما إذا تعدى الموضوع.. إلى غيره.. من الإساءة والتجريح.. فنحن منه براء.. ولن نحفل به لأننا نعمل للبناء المكين.. على أسس قويمة راجحة.
و«الرائد» مجلة للأدب.. والأدب في رأيي «وسيلة» وليس غاية.. لأن الأديب مهما يبلغ من حظ.. وما أقله اليوم.. فهو هذا الإنسان.. اللطيف الحساس.. والبائس المنطوي على نفسه.. وهو أشبه بطفل.. تفرحه كلمة.. وتحزنه أخرى.. وهو بين هاتين الكلمتين يعيش.. على هامش «الحياة» .. لأنه يختلف عن عامة الناس.. في تفكيره.. وآرائه.. ونظرياته وقياسه للحياة.
«.....» صحيح.. ان الأدب ميزة رفيعة .. والأديب.. الحق.. إنسان متواضع نبيل.. كريم.. شهم.. شجاع.. يحب لغيره.. ما يحب لنفسه، ولعله يؤثر غيره على نفسه.. وهو أبي .. كريم على نفسه.. وينبغي أن يكون كريماً على الناس.. ولكن هذه الصفات، لا تمنع من السعي.. والعمل والكفاح.. جهداً وقلماً .. دون سأم.. ومن غير ضجر أو تبرم.. لأن من سمات الأديب.. الصبر.. وقد أوصى الله به الإنسان، والصبر من الإيمان..
والصبر دليل على الثبات، وقوة الإرادة والعزم.. وكان الرسل.. عليهم السلام.. أصبر الناس.. ولاسيما على المكاره.. وقد ضرب الله بهم للناس الأمثال...».
وشارك بالعدد الأول الكثير من الأدباء والكتاب مثل صالح الأحمد العثيمين وأبو حياة «أمين سالم رويحي» وعبد الله الحصين ومحمد عمر توفيق وطه حسين ومحمد سعيد العوضي ومحمود عبد الوهاب وهشام ناظر ومحمود عارف ومحمد احمد العقيلي ومحمد السنوسي واحمد عبدالله الفاسي ومحمد علي قطب وعثمان شوقي وأحمد عبد الغفور عطار ومحمد دفتر دار وصالح جلال وأحمد ياسين الخياري وعبد السلام هاشم حافظ وابراهيم علاف ومحمد إبراهيم جدع وأحمد علي ومحمد العامر الرميح ومحمد أبو سليم وصالح محمد بن سيف وعباس فائق غزاوي وحمدان صدقة وابن الصحراء «عبد الفتاح أبو مدين».
وهكذا استمرت المجلة بنفس الحجم وبنفس الوتيرة الهادئة إلا أن الجانب الأدبي والثقافي بوجه عام قد استحوذ على اهتمامها، مع تزايد اعداد الكتاب وتنوعهم. حتى العدد «24» الصادر في 9 صفر 1380هـ الموافق 2 أغسطس 1960م حيث تحولت إلى إصدار اسبوعي، ومن العدد التالي «25» كبر حجمها بل وتحولت إلى جريدة بحجم سابقتها «الأضواء» وتقلصت صفحاتها لتصبح 16 صفحة وأحياناً تصبح 20 صفحة، ومن العدد «75» أصبحت تطبع على ورق قوي صقيل أبيض وحجمها 43x28 ومن العدد «119» الصادر يوم الاثنين 30 المحرم 1382هـ الموافق 2 يوليو 1962م يكبر حجمها لتصبح 60x44 وبثماني صفحات.
وآخر عدد اطلعت عليه هو العدد «205» الصادر يوم الاثنين 18 شوال 1383هـ الموافق 2 مارس 1964م.
وقال عنها صاحبها في «وتلك الأيام».. «الرائد.. كانت حافلة بمقالات الأدب والنقد والمعارك الضارية طوال عمرها، الذي بدأ من 1/3/1379هـ إلى 29/11/1383هـ أربع سنوات وثمانية أشهر، لم تتوقف خلالها ولله الحمد، ولم ينلها سوء.. يؤدي إلى أخذ الثقة منها، ولم تتعرض لمكروه. فقد كانت الصحيفة الأدبية.. يقرؤها الشباب والشيوخ، وكانت تواصل نشاطها في ثقة وثبات.. بجهد فردي، إلى جانب جهد زميلي حمدان صدقة وعبد العزيز فرشوطي، وهما موظفان مثلي.
وقال أيضاً «.. يعلم الله، ويؤكد هذا زملائي ورفاق الحرف من أصحاب الصحف، ان حكومتنا لم تغرنا بشيء.. لا مادي ولا معنوي ونحن ندافع عن وطننا، وإنما كنا.. نرد الكيد، ونصد الهجمات الكلامية الشرسة، ونفند الأباطيل، ونكذب الاتهام المختلق.. لم نعرف يوماً.. ان حكومتنا اعطتنا شيئاً يدفع بنا إلى الذود عنها، ولم تكن يومئذ الدولة تعين الصحافة بشيء.. كما صنعت في عهد المؤسسات، كان كل ما يصلنا اقيام الإعلانات الحكومية، وبالقياس إلى الصحف الاسبوعية.
وقال في «حكاية الفتى مفتاح» ولست أؤرخ لمجلتي «الرائد» ودورها، وما حققت من مكاسب معنوية.. أما المادية فلا سبيل إليها، وربما في بعض أو كثير من ساحات العمل.. ان الجد خصيم المال والغنى، او هكذا أرى. على الساحة المحلية، لأن الرائد مقروءة ومرغوبة ولكني.. اسرد مراحل حياتي وأعمالي اللصيقة بي، ومنها امتلاك صحيفة وإدارتها بعزم، والكتابة فيها.. لمعالجة قضايا ادبية واجتماعية، ولم يصل حتى المرحلة الاعدادية، وكانت حياته نصباً، وعناء وكبدا، حياة لا يعبأ لها، لانها جوع وفقر وحرمان، غير ان التصميم.. والتطلع إلى الرقي والطموح، كل ذلك يحقق المستحيل. وكان العزم الذي احمل وما زال والحمد لله.. لا يفله الحديد. فحقق نجاحاً، لم يدعمه مال ولا علم! وإنما وراءه شيء اسمه الطموح، والتطلع إلى المعالي والارتقاء.. إلى مصاف القادرين! إنه فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولو أتيح للرائد ان تستمر.. ويتصل صدورها، لكانت اليوم من أرقى المجلات الأدبية في العالم العربي، لأني لا استسلم للجمود، ولا اركن إلى الخمول والدعة والتعالي، ولا أهاب، وتلك عدة النجاح والتقدم والتطور أو شيء من ذلك، ودخلت الرائد التاريخ بتوقفها.. مع صدور نظام المؤسسات الصحافية.. في أواخر عام 1383هـ 1964م ومنطق الحياة، لكل أجل كتاب، ولكل سافرة حجاب.
وأسجل هنا.. أننا في ذلك الوقت المبكر، وقت صدور صحيفة الأضواء، أننا غامرنا وأصدرنا «سلسلة الأضواء الأدبية»، فقد أصدرنا ديوان شعر للأستاذ الشاعر محمود عارف.. المزامير، وأحاديث للدكتور محمد سعيد العوضي، ومذكرات طالب سابق للدكتور حسن نصيف، والأذن تعشق وقصص أخرى، والحنينة للأستاذ امين سالم رويحي، وأمواج وأثباج في النقد.. لعبد الفتاح أبو مدين، ولو امتد الأجل بالأضواء.. لأصدرنا المزيد، وحققت المزيد، في مجال النقد والإصلاح، غير أن الصحف والمنابر الجادة آجالها قصار.. كما يبدو.
ان عملي الصحافي لم ينته.. عند توقف الأضواء، واحتجاب الرائد بصدور نظام المؤسسات الصحافية، ولم يقف عند كتابة المقالات في صحفنا المحلية، مثل عكاظ ومجلة اقرأ وجريدة البلاد إلخ.. ولكنه استمر حين التحقت بمؤسسة عكاظ عام 1391م في إدارتها. وخلال حرب رمضان 1393هـ، وكل إليَّ مدير المؤسسة العام الإشراف على العدد الأسبوعي كمدير تحرير، ولم يكن في الجريدة اليومية رئاسة تحرير، وإنما يشرف عليها مدير تحرير مثلي، وكان العدد الأسبوعي مقروءاً وناجحاً، تكتب فيه أقلام مجيدة، ومن الطريف أنني أمضيت أكثر من شهرين أصدر هذا العدد من خلال سيارتي، فقد كانت شنطتها.. هي مكتبي، ففيها مواد ما أصدر، وكنت أذهب إلى مبنى عكاظ.. في طريق الميناء البحري، بعد عصر يوم الجمعة، ولا أخرج منه إلا صباح السبت وبيدي العدد الأسبوعي، ولا أدير صحيفتي عبر الهاتف والفاكس وأنا في داري،..».
والله الموفق..
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
وراقيات
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved