الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 16th February,2004 العدد : 46

الأثنين 25 ,ذو الحجة 1424

مساقات
أفيون العرب!
د. عبدالله الفيفي

الجنس العربي جنسُ طربُ شاعر. وهذا الطرب ربما وصل إلى استباحة أن يسرق أحدهم طرب الآخر، خاصة حينما يكون الآخر ضعيفاً، لا يستطيع الذبَّ عن نفسه، أو مقموعاً بسلطة أعلى، سياسية أو دينية أو عرقية، أو مجهولاً، أو مغمورا. وقصة الفرزدق مع ذلك الشاعر الذي اعجب ببيته فسطا عليه علنا، واضطر المسكين إلى التخلي له عن البيت، قصة مشهورة، ومحكية في مدارسنا وجامعاتنا، وكأنها لدى حاكيها قد صارت قاعدة، فمن كانت له حيلة فليحتل، ومن كانت له سطوة فليجهل! ولعل هذا يلفتنا إلى أن مشكلة المناهج التعليمية هذه التي طال ويطول وسيطول حولها الجدل وستكون محوراً في الحوار الوطني الثالث، لا تتعلق بالمكتوب بمقدار ما تتعلق بالتفسير والتأويل. ومن ثم فهي تتعلق بالمعلم أكثر مما تتعلق بالكتاب، لأن المعلم المريض فكريا المهووس عقدياً، لو كلفته وزارة التربية والتعليم بتدريس كتاب الله نفسه، لصنع من طلبته عشرات المنحرفين قيميا وفكرياً.
والتلميذ أصلاً لا يتأثر بالكتاب في المراحل الأولية قدر ما يتأثر بالمعلم. هذا لا ينفي أهمية إعادة النظر في الكتاب المدرسي وليست القضية بجديدة، فلكم كتب الناقدون، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، عما في المناهج من ضعف معرفي، ووهن لغوي، وفساد ذوق أدبي، وتحيز تاريخي لكن الحق أن لا فائدة ترجى من تعديل المناهج ما لم تكن مراجعة في شأن المعلم نفسه، فكثير من المعلمين في حاجة إلى إعادة تأهيل، أو نفي من التعليم.
وبالعودة إلى (التلاص) على طريقة الفرزدق، ترى أنه ما يزال ممارسة سائدة، وأن بوسائل أحدث، من قبل شعراء وأدباء وحتى نقاد. تقرأ الفكرة والموضوع اليوم، وإذا بهما يصافحانك غداً مستنسخين من أشخاص آخرين. يقع ذلك وفق مفاهيم مغلوطة، كالتناص، والتثاقف، وشيوع الأفكار، أو حتى فضيلة نشر العلم.
مفاهيم تتخذ ذرائع تبرِّىء ساحة من يود (التلاص) طلبا لشهرة أو مال، أو كليهما. كل هذا قد يحدث بسبب الطرب بكل جميل والشغف بكل جديد، طرباً وشغفاً يصرفان الأذهان عن أن الإبداع ليس بتسقط، ولا بتلقط، ولا بتصدُّف، وإنما هو جهد ومثابرة، ومحجة بيضاء لكل موهوب مجتهد. وأن المتسقط والمتلقط لما في أيدي الآخرين وأذهانهم مصيره الانفضاح، وإن طال به الزمان.
وخصلة الطَّرَبيّة تلك التي قد تفقد المرء صوابه مزية في العربي مثلبة فيه في آن، وحسب تقلبات الرؤى وزوايا النظر. إذ يمكن أن تعد مزية في ميدان الفنون والآداب، إن وقفت عند حد التمثل والاحتذاء، ولكنها تبقى مثلبة في مجال الفكر، وحزَّات الرأي، وفصل الخطاب، ومفاصل التاريخ، حيث لا محل هنالك للخطابة، ولا للشعر العاطفي، ومعسول الكلام. ولقد صدق الرسول الكريم حينما قال: إن من البيان لسحرا، لأن من أوجه الطرب بالقول أيضا أن يفتن الإنسان عن التدبر فيما وراء القول، وفيما دونه وأمامه.فمن سحر البيان ما هو حلال ولكن منه ما هو حرام. ومن هذا الأخير أن تلهي بني يعرب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كثلوم، أو خطبة قالها أكثم بن صيفي، فإذا اللبن يضيع في الصيف، ولات ساعة مندم! ولكل زمان عمرو بن كلثومه، وأكثم بن صيفيه! وملهاة هذين الأعرابيين وأمثالهما فينا تفوق ملهاة البيزنطيين في مناقشاتهم المشهورة قبل أن تحترق بهم روما ومن فيها. وما مرد كثير من التلكؤ في اتخاذ القرار، والحسم ساعة الحسم، ومن ثم التعثر في الحراك الحضاري في العصر العربي الحديث، إلا مع أسباب أخرى إلى جناية الكلام ونشوة الموسيقى اللغوية، التي تخلب الألباب، فتغويها عن رؤية المصائر، والتفكر في العواقب، والانتقال من الأقوال إلى الأفعال.
فبخطبة قد يلقي خطيب مفوه بالناس في محارق، وبقصيدة قد يقذف بهم شاعر مصقع إلى (حيث ألقت أم قشعم). أما إن كان خطيبنا من الحنكة بحيث يمزج سمن الخطابة بعسل الشعر، فحدث ولا حرج عندها فإن شباب العربان على استعداد ليغزوا (منهاتن) و (واشطنن دي سي) هكذا شهاراً نهاراً، لا يلوون على شيء، كي يلقوا بأنفسهم وأمتهم إلى التهالك، بلا تعقل ولا حساب للخسائر والمكاسب!
لهذا كأنه قد فطن الخطاب العربي السياسي والمتسيس إلى أفيون الشعوب العربية هذا، فكال لهم منه ومازال وسيظل ما شاء وشاءت له الآذان العربية. وهكذا تمضي السنون والأقدار، ليكتشف الناس ولات ساعة اكتشاف أنهم ظلوا أبداً ضحايا كلام في كلام.
وبسبب عراقة هذ المرض العربي بالصوت ورجع الصوت الذي دفع (القصيمي) ذات مرة ليصف العرب بأنهم (ظاهرة صوتية) كانت مواقفهم من الشعر العربي نفسه. ليس بتمييز الشعر عن النثر بالأوزان والقوافي فحسب، ولكن أيضاً بمنح أوسمة خاصة لأولئك الشعراء الذين يغذون عواطف العرب الصوتية، وإن جاء النص خواء دلاليا أو كالخواء. فلقد سبق في عرضنا لألقاب الشعراء عند العرب، بوصفها ظاهرة لافتة لها بعدها النقدي أن أحد المفاهيم في تعليق لقب (المهلهل) مثلاً يتجه على الخاصية الموسيقية العذبة في شعره. وأنه من (هلهل الصوت) أي رجعه. ورأينا ما اشار إليه (الدمنهوري) من زعم أن المهلهل هو واضع علم القوافي. وكذلك أنه كان أحد من غُنِّي من العرب في شعره، وأول من قال الغزل. ولا غرو، فإن السهولة الأسلوبية التي اتصف بها شعر المهلهل، والتي كانت بدورها أحد الأقوال في تعليل لقبه، تنتج موسيقيتها الرائقة القريبة إلى استجابة الآذان والأرواح، وإذا أعاد الناقد النظر في شعر المهلهل لم تخطئه تلك الموسيقية التي يتمتع بها شعره. وبإجراء إحصائية للأوزان التي نظم عليها يتبين ما يلي: (الكامل: 8 نصوص، الوافر: 5 نصوص، الخفيف: 5 نصوص، البسيط: 4 نصوص، المتقارب: نصّان، الرجز: نصّان، الطويل: نصّان، المنسرح: نصّان، الهزج: نصّ واحد، الرمل: نصّ واحد). وهي إحصائية أقيمت على أساس شعر المهلهل المتضمّن في: (شرح ديوان امرىء القيس، للسندوبي)، يُلحظ منها أن البحر الطويل، الذي ساد النظمُ عليه في العصر الجاهلي عند فحول الشعراء، يتراجع لدى المهلهل إلى المرتبة الخامسة، لحساب بحور تتميّز باطّراد تفاعيلها أو خفة وزنها، هي: الكامل، والوافر، والخفيف، والبسيط. فهل كان ذلك وراء التميّز الذي حظي به المهلهل في الذاكرة العربية؟ هو حتماً أحد الأسباب.
من جهة أخرى يلحظ التناغم اللفظي في شعره، من خلال تكرار الألفاظ تارة، أو البديع تارة أخرى، لا سيما ما يتصل منه بردّ أعجاز الأبيات على الصدور. وليس هاهنا مجال تقصّي التميّز الموسيقي في شعر المهلهل الذي لفت ملقبيه إليه، وإنما هي ملامح يجد تفاصيلها متصفح شعره. وهي تشير إلى أن اللقب الواحد من ألقاب الشعراء كالمهلهل قد يحمل أكثر من بعد نقدي في شعره، وأكثر من دلالة قيمية في مجتمعه، الطرب الشاعر، غالباً.
وفي المساق الآتي يحدثنا (صناجة العرب) عن رأيه.
ما هانَ يومًا على الدنيا وآهلها
كَمَنْ يَهُوْنُ وفيه الأرضُ والبَشَرُ!

aalfaify hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
وراقيات
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved