Culture Magazine Monday  16/04/2007 G Issue 195
فضاءات
الأثنين 28 ,ربيع الاول 1428   العدد  195
 
بين مديح الظل وهجاء ثقافة الإبهار والإشهار 1-2
د.فاطمة الوهيبي

 

 

العنوان هنا مستمد من كتابين هما (مديح الظل) و(ماكينة الإبصار)، وهما كتابان ينطلقان من نقطة تساؤل وقلق تكاد تكون واحدة. الأول للياباني جونيشيرو تانيزاكي المتوفى سنة 1965م، والثاني للفرنسي بول فيريليو المولود سنة 1932م. تانيزاكي يقارب المشكلة المطروحة مقاربة أديب متأمل، لكنها تطرح في العمق المشكلة فلسفياً وإبستمولوجياً. أما بول فيريليو فينطلق من منطلقات فلسفية، وإن كان فيريليو في الأساس لم يدخل المعترك الفلسفي من باب الفلسفة بداية، فقد بدأ حياته العملية زجاجاً، ثم أصبح معمارياً، ثم أستاذاً في المدرسة العليا للعمارة.(1)

ومع اختلاف المداخل ومفاتيح المقاربات فإن الموضوع المطروح يتعلق بمسألة ما يلحق الثقافة والإنسان مع معطيات التحضر والتقنيات الحديثة، وتحديداً مشكلة الضوء والصورة وثقافة الإبهار والإشهار. تانيزاكي السابق زمنياً لفيريليو يفتتح كتابه (مديح الظل) بالحديث عن المقارنة والمفارقة بين العمارة اليابانيه الحديثة المتأثرة بالثقافة والعمارة الغربية والعمارة اليابانية القديمة بما فيها من طرز التجهيز للبيت المتعلقة بالكهرباء والغاز والماء والتدفئة...إلخ، كاشفاً عن الخسائر التي حدثت بسبب هذا التأثير؛ حيث فُقد تأثير الظل والعتمة وما يحملناه من عمق وسكون في مواضع الراحة أو الخلوة في المنازل، بسبب الضوء الباهر والبريق والملعان الذي غزا طرز الحياة في اليابان، تلك التي برع أجدادهم القدامى في اكتشاف أسرار الظل وحولوه إلى عنصر جمالي ف(ثمة علاقة سرية بين الظل والجمال، وهذه العلاقة تتجلى في مجالات عديدة: المطبخ الياباني يفقد جزءاً من جاذبيته حين يُقدَّم في مكان مضاءٍ، فالظل يضفي عليه نوعاً من السحر. البيت الياباني القديم لا يستمد جماله من الديكور الذي يخلو منه عادة، وإنما من توظيف كثافة الظل. مسرح ال(نو) يفقد روعته حين يتخلَّى عن (ظلامه الجوهري) ويُقدَّم على خشبة مضاءة على الطريقة الغربية).(2)

ويكشف تانيزاكي عن أسرار الظل وكيف مهر اليابانيون في استخدام لعبة الضوء والظل، يقول: عندما نتأمل الظلام المخيم خلف العارضة العليا حول مزهرية أو تحت رف، ونحن نعرف أن هذا الظلام ليس سوى ظلال قليله جداً نشعر أن الهواء في هذه الأماكن يتضمن كثافة الصمت وأن سكوناً لم يتغير من الأزل يسود هذا الظلام. وفي النهاية حين يتحدث الغربيون عن أسوار الشرق فمن الممكن جداً أنهم يعنون بذلك هذا السكون المحير قليلاً الذي يفرزه الظل حين يمتلك هذه الميزة)(3)

ويواصل تانيزاكي مقارناته، ويتقصى أسرار الظل في المسرح والسينما. ويكشف عن اختلاف السنيما الأمريكية والأروبية مثلما يكشف عن الفروقات في الموسيقى والصوت؛ يقول تانيزاكي: (لو اخترعنا بأنفسنا الفونوغراف أو الإذاعة لأنجزناهما بطريقة تبرز الصفات الخاصة بأصواتنا وبموسيقانا. وفعلاً فإن موسيقانا تتميز في أصلها بنوع من التحفظ وبالأهمية التي توليها للوسط بحيث إنها تفقد جزءاً كبيراً من سحرها إذا سُجلت ثم ضخمت بواسطة مكبرات الصوت. إننا نتجنب في فن الإلقاء فرقعات الصوت وننمي الإيجاز ونعلق بالخصوص أهمية قصوى على الوقفات. لكن الوقفة في النقل الميكانيكي للخطاب تُدَمّرُ تماماً. هكذا دُفعنا إلى تشويه فنونا بسبب استقبالنا لهذه الأجهزة.. واعتماداً على هذه الواقعة البسيطة... نعتقد أننا تكبدنا خسائر حقيقيه).(4)

وحينما ينتقل تانيزاكي إلى مسرح الكابوكي يتحسس تلك التغييرات التي طرأت على المسرح. ويتوقف بصفة خاصة عند التغير الحادث في الإخراج على المسرح وشكل اللباس ودرجة البريق واللمعان وما تحمله من دلالات خاصة حينما يتعلق الأمر بالأدوار النسائية. وهنا تحديداً يتطرق إلى الحديث عن علاقة المرأة بالظل والظلام. ويرى أن الثقافة الشرقية واليابانية خاصة رأت في السواد والتظليل في زينة المرأة شيئاً مستحباً، كتسويد الأسنان مثلاً (يلاحظ أنه كان عند العرب قديماً عادة تفليج الأسنان لإضفاء ظل قاتم في الفم. ومثله شعبياً عندنا في نجد يستخدم (الديرم) الذي يعطي لوناً كامداً للشفاه)، يقول متحدثاً عن الجمال الشبحي للنساء: (كان أجدادنا يعتبرون المرأة كائناً ملازماً للظلام على غرار الأشياء المطلية باللك وبمسحوق الذهب أو الأشياء الصدفية، ويجتهدون قدر استطاعتهم في إغراقها تماماً في الظل).(5)

ويقارن بين الذائقة الشرقية والغربية في مسألة الجمال مرتكزاً على مسألة الضوء والظل يقول: (لقد كان الغرب هو أيضاً يجهل حتى الفترة الأخيرة الكهرباء والغاز والنفط بيد أنه لم يشعر أبداً، حسب علمي، برغبة في التلذذ بالظل.. يتضح.. أن خيالنا ذاته يتحرك داخل ظلام أسود مثل اللك، بينما يضفي الغربيون على أشباحهم صفة الشفافية التي في الزجاج. إن الألوان التي نحبها في الأشياء التي نستعملها يومياً هي عبارة عن طبقات من الظل أما الألوان التي يفضلونها هم فهي تلك التي تجمع داخلها كل أشعة الشمس)(6)

ويمضي يقارن بين تفضيل الشرقيين للزنجار القاتم على أدوات الفضة والنحاس اللامعة. ويقارن بين تهيئة الحدائق عندهم التي تجعل المكان مكشوفاً كمروج واسعة مستوية في الوقت الذي يهيء اليابانيون حدائقهم كأيكات ظليلة. وينهي هذه الفروقات بطرح سؤال: لماذا يجري الغربيون وراء الضوء الساطع؟ ويقرر أن الغربيين اجتهدوا في سعيهم وراء ضوء أكثر سطوعاً في مطاردة أدنى زاوية مخفية وآخر ملاذ للظل.(7) وهو ماسيكشفه بهجاء فلسفي كاشف (فيريليو) في كتابه (ماكينة الإبصار) كما سيأتي.

Rafef_fa@maktoob.com

1- ماكينة الإبصار، بول فيريليو. ترجمة حسان عباس (دمشق، دار المدى للثقافة والنشر ط. الأولى 2001 م) مقدمة المترجم ص7

(2) - مديح الظل، جونيشيرو تانيزاكي. ترجمة الحبيب السالمي (الدار البيضاء، دارتوبقال للنشر ط. الأولى 1988م) ص5

(3) - مديح الظل ص 29

(4) - مديح الظل ص 16

(5) - مديح الظل ص 41

(6) - مديح الظل ص 41

(7) - مديح الظل ص42

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7845»ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة