Culture Magazine Monday  16/04/2007 G Issue 195
فضاءات
الأثنين 28 ,ربيع الاول 1428   العدد  195
 
الرجل المكلل بالبياض
أمل زاهد

 

 

لم أتخيله يوما إلا مكللا بالبياض.. من رأسه حتى أخمص قدميه متسربلاً ومتلفعا باللون الأبيض.. لم أتصور يوما أنه من الممكن أن يرتدي لونا غير الأبيض

حتى وهبات رياح الشتاء الباردة تعصف بأزقة المدينة المنورة وأحيائها المستلقية في حضن أمان.. أخال الزمن قد راح وتركه على أعتاب المدينة القديمة..

عيناه الزرقاوان الغائرتان في محجر عينيه تطالعان الدنيا بسلام يقطر من حواشيها فيصب دفئا وحميمة على كل من تقع، وما تقع عليه عيناه.. تسيجهما تلك النظارة الرفيعة الإطار والواقفة بخشوع على عظمة أنفه.. لتكسو ملامحه المتناسقة بمظهر ارستقراطي باذخ.

كفاه الكبيرتان المبطنتان تربتان على رؤوس الأطفال المتحلقين حوله، ثم ما تلبث يده اليمنى أن تندس في جيب ثوبه لتوزع عليهم الحلوى..

تستطيل خصلات شعري القصير لتنجدل في ضفائر طويلة بطول حياتي الماضية، ملفوفة على بعضها ومنجدلة بعضها فوق بعض ،، تنحني وتلتف كما التفت انحناءات حياتي لتأخذني مرة إلى ذات مأزق أو لتقذف بي أخرى في جوف منفى يبلعني في غياهب ظلماته..

ولكنني كنت دائما أعود.. دائما كنت أعود

كنت أعود لأجد العم عمر لا يزال مكللا بالبياض

ولا تزال جيوبه مملؤة بالحلوى.. لا يزال يرتدي عمامته البيضاء كقبة النور،، لا يزال يمشي في أعطاف باب الشامي.. ولا يزال سديريه يشع بياضا بينما تبرق تركيبة الأزرار الفضية من تحت سديريه وهي تغلق فتحة ثوبه.. و تتدلى السلسلة الفضية التي تربط ساعته الدائرية والمختبئة دائما في جيب ثوبه الأيمن العلوي!

نعم دائما كان العم عمر هناك لا يعترف بمرور الزمان ولا بمسح أحياء كاملة من وسط المدينة!!

دائما كان هناك بعينيه الهادئتين ونظرته الواثقة الوديعة.. وأشعة القداسة تحيط به وتسربله.. وكأنه قادم لتوه من الجنة كي يمنح أهل الدنيا بعضا من كراماته ونفحاته!

تهدهدني نظراته من بعيد.. تلح نظرته أن أقبل وأخذ نصيبي من الحلوى ولكن كبريائي يمنعني أن أمد يدي.. أتخيل الحلوى وهي تذوب في فمي واستشعر طعمها اللذيذ ولكني أبدا لا أقترب!

ينفض المولد.. فأقترب منه.. يسمح شعري بيديه الحانتين ويقول لقد احتفظت لك بنصيبك من الحلوى.. علمت أنك لن تأتي حتى ينصرفون..

في تلك السن الصغيرة وقعت في هوى الأيدي الكبيرة المبطنة.. والحنان المنبعث من أطرافها.. وبدا لي العم عمر مستودعا للأمان قادر دائما على منحه لي بمجرد استحضار صورته.. حتى عندما تلح خيالات أمنا ( الغوله) المرعبة المتسللة من الحكايات أو عندما يعبث صفير الريح بقلبي الصغير وأنا أنكمش تحت لحافي!

أراقبه وهو يسير ويرفع كل حجر يراه مرميا على قارعة الطريق.. أرفع له عينين مندهشتين تحبلان بالأسئلة ، يجيبني بنبرات هادئة : إماطة الأذى عن الطريق صدقة!!

ثم يواصل طريقه إلى الحرم بخطوات هادئة ونظراته المتأملة تعانق الكون وتحتوي كل تفاصيله.. كنت أتمنى دائما أن أستبقيه ليقطر علي من شهد حديثه، لتأخذني كلماته لأماكن لم أشاهدها من قبل، ليلقي عليّ بأسئلته بينما يسد فمي بأطراف أصابعه حتى لا أجيبه بسرعة قائلا أنه يريدني أن أفكر كثيرا قبل الإجابة..

فقط أريدك أن تفكري يردف قائلا!

تمنيت طويلا أن أتشبث به ليبقى ولكن خجلي وخوفي من الرفض كان يكبلني.. كما كنت أعلم أنني من المستحيل أن أرافقه للحرم فالإناث حتى لو كن طفلات لا يصلين مع الرجال..

كنت أراقب طيفه وهو يروح ويخليني وحسرة تملأ نفسي.. حسرة لاذعة مسكونة باستسلام تام لقدري !!

لم أكن أحب حلواه بقدر ما كنت أحب الشعور بالأمان الذي يسري في جسدي كله حال رؤيتي له والبياض يكلل كل شيء فيه.. وبقدر ما كنت أحب أحاديثه التي كان يخصني بها من دون كل الأطفال الذين يلتفون حوله بمجرد خروجه من منزله..

تمنيت طويلا أن يتمكن العم عمر من الاختباء من درب الأعمار كما تقول فيروز،

ليظل يهطل عليّ أمانا وحبا.. سكينة وطمأنينة.. لأشعر على الأقل أن هناك ما هو قوي وثابت في هذه الحياة!!

ولكن الاختباء من درب الأعمار كذبة.. كذبة مجدولة بالحلم تستمد بقائها ومصداقيتها من كلمات أغنية.. تهرب الكذبة لتندس في ثنايا أغنية.. فنحلق نحن معها في لحظات حالمة منفلتة من عجلتي الزمان والمكان..

ما أكذب الأغاني !!

عدت من إحدى رحلاتي يوما لأجد درب الأعمار قد ابتلع العم عمر..

ابتلع درب الأعمار العم عمر كما ابتلعت التوسعة باب الشامي من قبل

راح الرجل المكلل بالبياض..

وعبثا أحاول استحضار الشعور الذي تمنحني إياه يداه الكبيرتان المبطنتان بالأمان !!

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «7446» ثم أرسلها إلى الكود 82244

Amal_zahid@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة