الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th May,2005 العدد : 106

الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1426

عبد السلام العجيلي - مأزقية مخاض النهضة السورية
د.عبد الرزاق عيد
يتزامن ميلاد د. عبد السلام العجيلي 19181919 في مدينة الرقة الفراتية الصحراوية مع بداية خروج المجتمع السوري من زمن المجتمع التقليدي (العثماني) مجتمع الملة، ودخول زمن التحديث الكولونيالي (الفرنسي)، وبداية تكون المجتمع السوري كمجتمع (أمة / مواطنة) بالتضاد مع الآخر الاستعماري.
تتكثف في شخصية العجيلي كل العناصر المكونة للمثقف السوري الحديث على المستوى المهني كطبيب وعلى المستوى الإبداعي كأديب: قاص وروائي وشاعر ومنشئ للمقالة وأدب الرحلات والسمر... الخ وكمواطن فاعل في الشأن العام (نائب ووزير) في المرحلة السياسية الليبرالية الديموقراطية الموؤودة والمغدورة سوريا وعربيا، وعلى هذا فكما تتعايش حضارة الماء (نهر الفرات) مع ثقافة الصحراء (بادية الرقة وعجاج غبار الصحراء)، موطن ولادته، تتعايش الثقافة التراثية بنموذجها (الجاحظ) بما تمثله جمالياته النثرية في عصر النهضة العربية الأولى: وصفا، وسردا، وحكايات وأشعارا وأخبارا، بالتوازي مع الأدب الغربي الفرنسي بتنوع نتاجاته النثرية الأدبية والقصصية (أناطول فرانس ? أندرية مالرو).
هكذا هو العجيلي طبيب لا يملك إلا وأن يكون علمه نثرا، وأديب ينتمي الى الصحراء وميراثها الغنائي الحادي الذي يروي الفرات فيافيها، ولذا فقد كان من المفهوم والمعلوم عربيا أن يبدأ باختبار مواهبه عبر البدء بالشعر ولذا فقد نظم أول قصيدة له عندما كان في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمره، وفي الحين ذاته وبعد لأي في الثامنة عشرة، سينشر أول قصة له في (مجلة الرسالة) التي كان يصدرها محمد حسن الزيات، وذلك في عام 1936، لكن تجربة العجيلي في تزاوج الشعر والنثر: سيعبر عنها أولا في القصة وذلك في نشره لأولى مجموعاته القصصية (بنت الساحرة) 1948م.
هذه المجوعة كانت بمثابة إعلان عن ولادة نثر قصصي متشبع بكثافة حضور اللغة التراثية بأرقى تجلياتها في عصر النهضة العربية الأول القرن الثالث والرابع الهجري، رشيقة جذابة عصرية تؤذن بميلاد اسلوبية نثرية نهضوية سورية حديثة.
وسيعبر ثانيا عن هذه التجربة شعريا من خلال نشره في فترة لاحقة بعد ثلاث سنوات 1951 لديوان (شعر الليالي والنجوم) فيه رهافة رقة وعذوبة الشعر الحديث، الذي راح نزار قباني يستولده مدنيا وعصريا لكن برديكالية اجتماعية متمردة ضد ذكورية المجتمع البطركي.... وانفعالات القبيلة، متمثلا بديوانه الأول (قالت لي السمراء) 1944 والذي هز الحياة الاجتماعية والثقافية في سوريا، عبر استنفار كل القوى التقليدية المحافظة التي استثارها ما أحدثه الديوان من (وجع عميق في جسد المدينة (دمشق) التي ترفض أن تعترف بجسدها... أو بأحلامها..) حسب تعبيره، مساوقا ومحايثا بتجربته الشعرية تلك لولادة وعي اجتماعي نهضوي متحرر من إرث التقاليد واثق الخطا باتجاه مستقبل الحداثة... بجسدها أو بأحلامها.... حسب تعبير نزار.
العجيلي بسيط كالماء والصحراء وكائناتها الطبيعية والبشرية: حيث رصد نثريات الحياة اليومية والمعاشية والسلوكية، ومن ثم سبر أغوار عوالمها المنداحة في الزمان والمكان، وهو في الآن ذاته ? مركب مديني ومدني فاعل من حيث الانخراط في الشأن العام كنائب في البرلمان في عام 1947، ومقاتل في حرب فلسطين 1948 ووزير للإعلام 1962م.
ومنذ الهزيمة القومية الوحدوية 1958 التي انهزم معها المجتمعان المدنيان: السوري والمصري بولادة الدولة البوليسية، النموذج البدئي للنظام الكابوسي العربي، نقول: منذ هذه اللحظة ومرارة الخيبة والإحباط تسكن مفاصل أدبية أدبه كما في روايته (قلوب على الأسلاك)، وتعبير ذلك أن العجيلي هو الوحيد ممن تبقى لنا، من مبدعي زمن تكون المجتمع السوري وصيرورته كمجتمع مدني على أنقاض المجتمع الأبوي التقليدي من خلال التجربة السياسية الديموقراطية البرلمانية التي عاشها وشارك بها وكان أحد ممثليها.
ولذا ظلت أسئلة العجيلي هي: أسئلة الزمن الليبرالي الذي استشعر غربته وغرابته خلال حقبة أربعين سنة.
المحاكاة الساحرة: لعل أولى الإشارات التي تومئ الى موهبة حس نقدي نهضوي عبر عنها العجيلي كانت وهو في العشرينات، وذلك من خلال كتابته لمجموعة المقامات الأخوانية الساخرة المفعمة بروح شباب مقبل على الحياة بفرح وثقة بالمستقبل تمنحه الجرأة ليس على التهكم والتندر على المدرسة والدروس والمعلمين والتلاميذ فحسب، أو كتابة صفحات ساخرة ضاحكة على أنفسنا ومن حولنا وعلى الجو الذي كنا نعيش فيه في الأيام الخوالي) بل السخرية والتهكم من أساليب الكتابة التقليدية، فهو إذ يكتب المقامة، إنما كان يستحضرها دونكيشوتيا، أي نقدها بحب، والهزء منها بتودد، عبر استحضار إحدى القيم الأدبية من التراث لمحاكاتها عبر السخرية من فعاليتها الأدبية والأسلوبية عندما تلقى في مجرى الحاضر، والهزء من بنيتها الماضوية عندما توضع في تحد مع أسئلة الحاضر، لكنها ? المقامة فيما يبدو كانت بمثابة القنطرة الضرورية للعبور للأدب القصصي الحديث، وتعبير ذلك في مصر أن المويلحي عبر من خلال قناتها إلى النثر الحكائي الحديث في (حديث عيسى بن هشام).
ولعل المقامة القنصلية التي كتبها العجيلي جوابا على المقامة النهدية لنزار قباني، عندما كان الأخير قنصلا في أنقرة، تؤشر منذ يفاع الكاتبين الى روح ذلك الجديد الذي راح يتبرعم في أحشاء الزمن السوري ليبدأ اصطدامه بقديم المجتمع (البطركي) ليس عبر الصدام مع قيمه الاجتماعية التقليدية فحسب، بل عبر اصطدامه بأدواته الأسلوبية ومفردات خطابه المحققة لبنيته الذهنية، وعلى هذا، فهو يستهل خطابه المقامي لنزار، بالسخرية من مفردات التراث المهجور، فيحدثنا كاتبنا عن نزار: (أن صاحبنا صريع الغواني، أبا النهد الأشقراني، الذي بعثناه منقبا عن الجفنة المثعنجرة، والطعنة المسحنفرة، قد خاننا في أنقرة) ويعاتبه هازئا بأنه لم يكتف بالتوقف عن البحث عن الغريب المهجور في شعر امرئ القيس ومصيره في جبل عسيب، وعن قبر الغريبة للغريب، بل (أنه تأبط قيثاره وعوده، وامتطى للغزل قعوده، وانشغل عن البعثة والسفارة، بصبايا الحارة وعشق الجارة).
ويرصع مقامته (القنصلية) بعدد من الأبيات الشعرية يعارض فيها قصيدة نزار (قالت لي السمراء) مداعبا... فتواصل المقامة: (وإذا بأبي النهد الأشقراني، على رواية الأغاني، يقول، بعد الصلاة على طه الرسول:
قالت لي السمراء... إنك بارد
فأجبتها بل أنت مني أبرد
ترمين بالنعل العتيقة عاشقا
يا حبذا لو أن نعلك أجدد
هذا حذاؤك يا صبية في يدي
يروي حكايات الغرام وينشد
وهو في مقامته هذه، يرد على مقامة نزار (النهدية) التي يداعب صديقه العجيلي، حيث أشد خيبات الرجال تكمن؟ دائما؟ بهدم وتداعي نرجسية مزاعمهم الذكورية، وذلك عندما تكون غادة أحلام العجيلي، معروقة كجرادة! حسب دعابة نزار.
يقول نزار في مقامته عن صديقه (ربته أمه كعرق شب الظريف... وعجنته كما يعجن الرغيف، وحصنته بشبّة وخرزة والطف يا لطيف، حتى غدا ? ماشاء الله ? طبيبا فوق العادة، له حقنة وعيادة.. يصبو لنقر سبابته بطن كل غادة، معروقة كالجرادة).
مما لاشك فيه أننا بعد نصف قرن من أدب (القضايا الكبرى) الذي يذهب اليوم كغثاء أحوى بذهاب قضاياه، نستعيد لطافة نسائم تلك النفحات الثقافية التي كانت تنمو نموا طبيعيا تلقائيا حرا نحو مناخات ثقافية / سياسية ليبرالية متسامحة، صافية النفس، بريئة الوجدان والضمير، ترسل قهقهاتها كتحد مدني ديموقراطي تاريخي ضد المقدس: مقدس اللغة، مقدس التراث، مقدس القيم الاجتماعية التقليدية والمحافظة، وهذا ما سيمثله العجيلي في النثر القصصي ونزار قباني في الشعر.
في عام 1960 اصدر عبد السلام العجيلي رواية صغيرة تحت عنوان رصيف العذراء السوداء. فيبني العجيلي روايته على اللقاء الجسدي بين (عباس) الشرقي (العربي العراقي) و(ماريا لينا) السويدية، والمكان باريس، والزمان غير محدد، والمكان مجرد، عام بدون هوية.
بل إن هوية المكان تحددها الوظائف الايديولوجية للخطاب الفكري للرواية (مكان فاسق / مكان طاهر) والتناقض بين المكانين يؤدي الى شبكة تناظرات، حيث الأمكنة الفاسقة هي: البارات والملاهي والمقاهي، وبها تتحدد هوية (عباس الشرقي)، بينما الكنائس هي النظير المكاني الدلالي المضاد الذي سيحدد هوية (ماريا لينا) السويدية.
وعلى هذا فالرواية إذ تصطنع لنفسها إشكالية للمثاقفة مع الغرب من خلال الاتصال الجنسي بين الشاب الشرقي والفتاة الغربية، فإننا لا ندري أين وجد مرجعيتها أو صداها، إذ هو يؤكد افتراق دربنا عن درب الغرب من خلال محوري المعرفة ممثلا ب (عباس) الشرقي، ومحور المحبة ممثلا ب (ماريا لينا) الغربية! تقول ماريا لينا: (طريقانا مختلفان يا عباس بل لعلهما متعاكستان، أنت سرت من المعرفة نحو المحبة، وأنا بدأت من المحبة لأنتهي الى المعرفة، في هاتين الطريقتين المتعاكستين لايمكن أن نلتقي الا مرة واحدة... ويبدو أننا التقينا في تلك المرة، تقاطعت طريقانا مرة واحدة فالتقينا، وذلك على رصيف العذراء السوداء، هل نسيت؟) وسبب عدم القدرة على اللقاء ? وفق هذه المقولة أن عباس يعتقد: إن (الله معرفة) وماريا لينا تعتقد أن (الله محبة)، إن هذه الصياغة لإشكالية المثاقفة مع الغرب من منظور الرواية جعل منها نصا ايديولوجيا واهيا وواهما، وذلك عندما شادت عناصرها الروائية الركنية على هذه الأطروحة الثقافية، أي أن مرجعية البناء المعماري للأحداث الروائية كان الفكرة وليس التجربة، الأطروحة وليس الفعل، وذلك ديدن الرواية السورية في كل الأحوال، لكن العجيلي الذي غامر بروايته ليجعل بؤرة سردها ترتكز الى مشكلة ثيولوجية (الله: محبة أو معرفة)، كان يسجل وعيا ليبراليا محافظا، إن لم يكن يعوزه العمق ومعرفة حقيقية للآخر الغربي! هذا إذا أخذنا في عين الاعتبار أن نجيب محفوظ في تلك الفترة كان قد أصدر (روايته الفلسفية) أولاد حارتنا، فارتفع بالسؤال الفلسفي الى مستوى الارتقاء لمعاورة معنى الكينونة ومغزاها ومصائرها.
في حين أن القارئ سيقف حائرا أمام عدد من الأسئلة التي تثيرها الترسيمة الفكرية لرواية كاتبنا العجيلي، ومدى اتساقها، فهل يشكل عالم الكنائس السمة المميزة للغرب (ماريا لينا) حيث المحبة؟ وهل عالم اللهو والتسلية (عباس) هو عالم الشرق حقا؟ وأية صلة بين الانهماك في عالم المتع اليومية، وتمثيل المعرفة؟ ليجد القارئ نفسه تجاه أفكار عامية سائدة في المجتمع الشرقي، عن أن ممكنات اللقاء الوحيدة مع الآخر الغربي هي اللقاءات الجسدية (المثاقفة / المناكحة)...!
لكن العجيلي أراد أن يغلف الأساطير الشرقية عن ذكورة الشرق وأنوثة الغرب، بغلاف فلسفي يشي بالحكمة والتأمل، وذلك على الأغلب ليغطي فوهة لاشعور إسلامي يبيح لنفسه التسري واتخاذ (انثى الآخر) أمة أو سبية أو جارية مباحة خارج الشرعية الزوجية فيما يدخل في إطار ما ملكته الأيمان!.
ولعل عجز الليبرالية السورية عن التوفر على مصفوفة معرفية نهضوية راديكالية هو الذي يعطي لأطروحة ياسين الحافظ مشروعيتها، وهي الأطروحة القائلة: إن مشروع الليبرالية العربية القومي الديمقراطي بدا مشروعا متأخرا ذا حشوة ماضوية (هاشمية: قومية وعروبة الشريف حسين) تقليدوية محكومة بالفوات، وقد عمم حكمه هذا على الليبرالية العربية عموما، واستثناؤه لبعض جوانب تقدم الليبرالية المصرية لم يحل دون وصمها بالتأخر الذي لا يختلف عن تأخر المؤسسة العسكرية ذاتها.
ولذا كانت دعوة ياسين مع عبدالله العروي إلى العودة إلى استلهام الليبرالية الغربية، لتملك انجازاتها التنويرية العقلانية النهضوية بغض النظر ? أو بدون مشروعها الاقتصادي، بوصفها مقدمة ضرورية للمشروع القومي الديموقراطي العربي، أي أن هذه الدعوة كانت بسبب فوات وتأخر وغربة وتغرب المشروع الليبرالي العربي، وإن كان العروي تراجع عن رأيه التبخيسي هذا تجاه دور الليبرالية في مشروع النهضة العربية، ولعل ? رأي وموقف ياسين هذا يفسر أن الجيل الثاني الراديكالي (قوميا، يساريا) في سوريا ? ذا الهمة الثورية العالية كان ينظر ونحن منهم إلى تجربة العجيلي النثرية ونزار قباني الشعرية بوصفها تجربة (رجعية)...!
وتفرد العجيلي عن جيله ورعيله برفض جائزة الدولة التقديرية: حنا مينا وعبد الكريم اليافي، بل وزكريا تامر الذي كان قبوله للجائزة صدمة، نظرا لما تمثله مسألة الحرية من هاجس يخترق لب لباب تجربته القصصية المميزة، لكن العجيلي الذي رفض الجائزة لم يمتلك الشجاعة مع الأسف على إعلان سبب رفضه للجائزة.
وتلك هي مشكلتنا مع جيل الرواد الليبرالي، الذي كانت قلة شجاعته أو ما سماه أحد أبناء هذا الجيل وهو بشير العظمة رئيس وزراء الحكومة (الانفصالية) التي شارك فيها العجيلي: باسم (جيل الهزيمة)? نقول: إن عجز (جيل الهزيمة) الليبرالي هذا، ربما كان أحد أسباب مصائبنا وشقائنا وهزائم مجتمعاتنا.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved