الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th May,2005 العدد : 106

الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1426

بين احتراف الطب وغواية الأدب
د. ممتاز الشيخ*
رغم كل المقومات الموضوعية والكفاءات المتعددة التي مكنت الطبيب والأديب عبدالسلام العجيلي أن يقفز فوق موانع التقاليد وحدود الجغرافيا، إلا أنه يستنكر ذلك وعن قناعة تجبر المتتبع لآثاره الأدبية ومقابلاته الشخصية أن ينحني إجلالاً لذلك الثبات الإيجابي إيماناً بصلاحية الأصل وإمكانية الارتكاز عليه، على أن التغيير حسب قناعاته يجب أن يكون نابعاً من شروط مواتية وإرادة أكيدة.
فالاغتراب نمط من التجربة يعيش فيها الإنسان صراعاً بين قيم متضاربة تؤدي إلى تلاشي الذات وسقوط هوية الانتماء القيمي.
وعلى العكس من ذلك فإن لب الهوية عند العجيلي هو القيم المستقرة والقناعة التامة بأن أعمال المرء وقيمه ذات علاقة متناغمة ومنسجمة لها علاقة مع تاريخ المجتمع وواقعه، أما تشظيها وانجرافاتها فهي نتاج للصراعات القيمية المتجذرة والوافدة، التي لا يقبل أحد أطرافها الهزيمة أو الانسحاب.
وقد استقر الأمر عنده في البحث عن هوية المستقبل في ثنايا الذاكرة والتقاليد الأصيلة. وربما كان منطق الفيزياء وقوانينها التي استهوت الكاتب وحالت ظروف معينة دون دراستها قد رسخت لديه قناعة الثبات على الجذر الصالح، ويرى إريك فروم في هذا المضمار أن الفرد يكف عن أن يصبح نفسه، إزاء استسلامه لقيم المجتمع السائدة.
إنه يصبح كما يريد له الآخرون وكما يتوقعون منه (إريك فروم، الخوف من الحرية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972 ص 150) ولم ينجرف العجيلي، عن قناعة، مع الاغراءات الكثيرة في مدح أدبه أن ينقاد لبعض النقاد في قولبة كتاباته ضمن أطر محددة مسبقاً لا انتقاصاً من محترفيها، بل رفض للأسر ضمن نطاق قوانينها المفروضة مسبقاً، إدراكاً منه بأفضلية المناورة بالأسلحة التي يجيدها.
وبذلك تمكن بمهارة من أن ينأى بنفسه ونتاجه الأدبي عن الاضطراب الذي ضرب ثقافة العالم العربي خلال الفترة التي عايشها الكاتب طيلة القرن المنصرم. فإصرار العجيلي على أنه أديب هاوٍ، إنما ينبع من تشبثه في حب الآخر المحتاج لعنايته الطبية وفي عشق الحرية بمداها الواسع، وهو البدوي الذي لا يعرف للرؤية حدوداً إلا بمقدار امتداد بصره في صحراء لا تقر بالحواجز المصطنعة، كما لم يرض بقيود الامتهان تحدد خطاه، لذا تراه حراً يتنقل بين أنواع الأدب المختلفة، يبدع في كل منها ويجيد.
وفي جميع حواراته ظل يؤمن أن الأدب مهنة طارئة، وهو بالنسبة إليه مجرد هواية تتجلى حين تفيض مشاعره باندفاعات أفكارها المختزنة عبر حادثة أو تجربة ما، لتخرج في قالب قصة قصيرة أو قصيدة، أو مقالة. ولعل فكرة الهواية التي لا يكل من تكرارها في حواراته المتباعدة زمنياً هي التي أضفت عنصر النضج في نتاجاته، فالفكرة لديه تظل حبيسة النفس حتى تنضج وتأخذ أبعادها في الزمان والمكان، مشبعة بالعفوية وصدق الأحاسيس ومحملة بتقنيات الإقناع.
على أن الإخراج القسري للفكرة يسهم في تشويهها ويزيد في تصنعها.. تلك القناعات ميزت العجيلي في الحفاظ على مسافة قريبة حد الالتصاق من قرائه طيلة فترة كتاباته المتواصلة، ولعله الكاتب الأكثر انفراداً بين كتاب بلاده في إجادة فن التعبير البسيط الناطق باسم قارئه، مقتنعاً بأن الخيال في الأدب سيبقى المصدر الأخير الذي يلجأ إليه في السرد، محبذاً أسلوب الخبرة والملاحظة في صياغة الواقع بقالب الأدب، من هنا فرض احترامه وتقدير نتاجه الأدبي من قبل كثير من الباحثين والنقاد، وقبل هؤلاء كلّهم حاز إعجاب القارئ وتقديره حين وجد هذا الأخير صورته وصدى واقعه يتردد في أشعاره ومقالاته وقصصه من غير تكليف أو تزييف.
ولم يكتب العجيلي أدبه سعياً لجائزة أو شهرة، إنما ارتمت الشهرة في حضنه طواعية عن قناعة ورضا، وارتضى هو بحب جمهوره له ولأدبه أصدق جائزة.. وأنا أتابع العجيلي زواياه المنشورة في الدوريات العربية لا يسعني إلا أن أقدّر للكاتب تفكيره بصوت عالٍ، وأحيي رجولته في إصراره على مواصلة كتاباته فيها بالرغم من محاصرة المرض له، مثلما انتهز الفرصة من خلال هذه الكلمات القليلة كي أعبر عن لهفتي وشوقي لقراءة المزيد منها في الأعداد التالية، ففيها خلاصة فكر ناضج ونفس صافية، وإخلاص لبيئة لم تبخل في عطائه، عطاء الفرات الذي يوصي دوماً ألا نُغرم بالمستنقعات الصغيرة.


* كاتب سوري

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved