الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 17th April,2006 العدد : 149

الأثنين 19 ,ربيع الاول 1427

وفاء العمير
صيف الرياض يركِّز طاقته الحرارية التي قد تتجاوز الخمسين درجة على إشعال الجمر الملتهب في جسد الأرض، وإلحاقه بأجسادنا التي صارت مع الوقت غامضة، ورغم أني قد استلقيت ببيجامتي على الفراش، تحت هواء المكيف البارد، وضجيجه العالي إلا أني أزفر من سخونة الجو، وأشعر وكأنها تأخذ بخناقي.
أنظر بفتور إلى سقف الغرفة، متأمِّلة للمرة الألف الزخارف البيضاء تحيط بجوانبه الأربعة، أصص زهور بيضاء مستقرة في هدوء داخل أعمدة بيضاء مقوّسة، مشكوكة على الأطراف ومصبوغة بدهان يلمع.
هذه الظهيرة مثل فأر يقرض بنهم قطع السكر في آنية الوقت، أسمع صوت تكسُّر حبيباتها اللذيذة بين قوارضه المتعجّلة كي لا يبقي شيئاً منها، أنزلق تحت الغطاء حتى لا تبلغني قوارضه المتشنجة، دمي يرتعش، الأزهار النشطة فيه غارت، الشمس في كبد السماء تلقي بحممها دون هوادة فيتيبس حسّنا بالأشياء وبتفاصيلها الدقيقة.
كأنما أنا مقلّدة، لا أراوح مكاني وزماني، مزروعة في ذاكرة، لا تنشط، أتفرّغ لها تماماً، مخرومة فيها، أذكر من طفولتي مشاهد معينة هي التي تظهر وبقية حياتي الأخرى تغيب في النسيان، بسيطة ومرحة، ألعب مع بنات الجيران في الحارة، وأركض باستمرار، دائماً أرى نفسي أركض، إما خلف كرة متسخة، أو وراء عجلة دراجة ضخمة، أدفعها أمامي بقوة بسلك حديدي معقوف، أو من أجل أن أبلغ السوق القريبة لأشتري قطعة سندويتش بالفلافل من أبي صالح الذي يقف كل يوم بعربته الصغيرة في المكان نفسه، فلافله لذيذة لم أذق مثلها حتى اليوم، تعدها زوجته في البيت ويبيعها بثمن قليل، كنت نحيلة جداً وخفيفة، يحملني الهواء بيد واحدة، حركتي داخل البيت أقل اندفاعاً وحرية من خارجه، في البيت آكل وأطالع التلفزيون وأنام، لم أكن مزعجة بتاتاً، حتى عندما جاء فهد إلى الدنيا، أدركت انشغال أمي به فلم أتعبها معي، انسحبت من اهتمامها دون أن يطلب أحد مني ذلك، لقد فهمت أن الضيف الجديد سوف يستولي على الرعاية كلها، كيف لا، وهو يصرخ طوال الوقت؟ له قدمان بيضاوان نظيفتان تماماً، مثل قطعة صابون ملساء، كل شيء فيه صغير إلى درجة مرعبة، كنت أخاف من حمله بين ذراعي، أمي تضعه ببطء وبحذر شديد في حضني، يستلقي على ثوبي المغبّر بكل بساطة ويبتسم، يرفع يده الناعمة إلى أنفي ويخمشه بأظافره الطويلة التي كانت أمي لا تقصها إلا حين يستغرق في النوم، عيناه صفراوان وتتقلبان، كأن بهما حولاً، أمي تقول إن كل الأطفال في أيامهم الأولى هكذا، تضعه أحياناً في فناء المنزل كي تلمسه الشمس فيختفي الصفار من عينيه، يطير حوله الحمام الأسود، والأبيض الذي كان يملأ الفناء، ويدخل أحياناً إلى المطبخ، أحشر واحدة منها في الزاوية وأقبض عليها بكلتا يديَّ، أمسح على ريشها الناعم كي أُهدئ من خوفها وهي منكمشة، لا تتحرك، ثم أمسكها من قدميها، فتحرِّك جناحيها تريد أن تطير، أطلقها، وتلتحق بسرب الحمام على الجدار المقابل.
أضع يديَّ تحت شعري الطويل، ناشرة إياه على الوسادة حتى لا يوقد الحر حطبه في رقبتي، أفكر مليّاً في قصه، طوله لا يتناسب بتاتاً وهذه الأجواء، لكن أمي ترفض ذلك قائلة إن جمال الفتاة في شعرها، وإن الرجال يحبونه طويلاً وناعماً.
تدخل مريم الغرفة، طويلة وسمينة بعض الشيء، بالكاد تثبت نظراتها عليَّ قلت لها:
- هذه فترة قيلولتي كما تعلمين، أريد أن أنام.
ردّت شابكة أصابعها ومادة ذراعيها إلى الأمام كأنها تتمطى:
- لن أزعجك لكن الوحدة أكلتني، مللت من التحدث إلى نفسي.
- شاهدي التلفزيون.
قلت ذلك وصوتي في النعاس، لقد سئمت تذمرها من مرور الوقت دون أن تقوم بعمل شيء له قيمة، منذ أن تخرّجت من الثانوية وكان ذلك قبل سبع سنوات ولم تجد جامعة تقبلها بسبب معدل درجاتها المنخفض وهي سجينة الملل، رهينة الزمن الذي يأتي إليها كل يوم بصندوق ممتلئ بالساعات طالباً منها أن تفصل الدقائق عن الثواني، لم يطلب منها القيام بشيء آخر، كانت المهمة في البداية سهلة إذ لا يقتضي منها الأمر سوى أن تتفرغ كلية لإنجازها، لكنها بعد عدة سنوات فقدت القدرة على التّحمل، وصارت حواسها معبأة بالساعات، جلدها مدهون بالدقائق المتراكمة، فيما تحوَّلت الثواني إلى قطط كثيرة تطاردها في كل مكان تذهب إليه.
حكت لي مرة أنها كانت في محل كوافيرة عندما وجدت نفسها تنظر للنساء هناك كما لو كن مجموعة كبيرة من الساعات بأشكال وأحجام مختلفة، يجلسن مسترخيات على الكراسي، وكانت تسمع أحاديثهن الهامسة مثل تكّات الساعة الرتيبة، شعرت أنها ستفقد عقلها، فخرجت مسرعة، يلاحقها نداء العاملة المندهشة مثل رنين منبه لا يتوقف!
قالت بتردد:
- عهود
أجبتها ونصف وجهي تحت الغطاء:
- ماذا؟
- أريد أن أشتري كمبيوتراً؟
- لماذا؟
- سمعت أن الإنترنت عالم كبير، مزدحم بالناس.
سألتها مستغربة:
- الإنترنت؟ وما لك أنت والإنترنت؟
- أريد أن أشغل وقتي فيه، عقلي يكاد ينفلق من التفكير، قد أجد في ما يسمونه بالشبكة العنكبوتية ملاذي من الوحدة.
- لا أدري دعيني أفكر.
واستدرت إلى الجانب الآخر.
قالت بغضب:
- تفكرين؟ يبدو أنك قد نسيت مَنْ الأكبر سناً فينا؟ أنا كنت فقط أستشيرك وآخذ رأيك.
- هذا يعني أنك قررت وانتهى الأمر.
- نعم.
- وما المطلوب مني الآن؟
- أريدك أن ترافقيني لشراء كمبيوتر جيد.
- حسناً، بعد المغرب نذهب إلى السوق، والآن دعيني أنام أرجوك.
فتحت عيني في الظلام، كم من الوقت نمت؟ هل نحن الآن في الفجر؟
لا صوت يطرق مسامعي، المكيف يبتلع ضجيجه ليرتاح، أقفز فجأة من مكاني خائفة، ما الذي أخافني؟ شيء ما نغز جدار قلبي فنهضت ومشيت حافية على بلاط الغرفة أتلمس زر الإضاءة، في صغري لم أكن أخشى الظلام، كنت أندس في ثناياه، متقدمة في العتمة الشديدة، متحرشة بالمجهول الذي يختبئ فيه، هل لأني لم أكن ناضجة؟
وهل النضج معناه الخوف من كل شيء؟ متى تعلمت أن أخاف؟ في أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة؟
كان عمري خمس سنوات، وكنت أبكي باستمرار في حضن جدتي وأسألها بلا انقطاع:
(لماذا لا أذهب إلى المدرسة مثل أختي مريم، وبنات جيراننا مشاعل ونورة والصغيرة منيرة؟)
جدتي كانت تحبني كثيراً وتلبي كل طلباتي، قالت لأمي: اذهبي غداً إلى المدرسة ولا تعودي حتى تسجليها هناك)
جلست على الكرسي في الرواق أمام غرفة المديرة بثوبي وبساقيّ النحيلتين والمغبرتين، تكاد نعلي تفلت من أصابع قدمي المتأرجحتين.
أمي تقف بعباءتها السوداء الفضفاضة أمام مكتب المديرة، تحاول بخجل إقناعها أن تقبلني لديهم، والمديرة ترفض بلباقة قائلة لها: (بنتك ما زالت صغيرة) لكنها بعد إلحاح تقبلني كمستمعة!
كنت طفلة عندما تعلمت لأول مرة معنى العقاب، الحكمة من أن تفهم أنك لا شيء إطلاقاً، عندما تكون أنت والجدار كلاً واحداً لا يتجزأ، التصق ظهري به بأمر من المعلمة التي جعلتني أرى وأدرك حجم ضخامتها الهائل وتسيدها المطلق، ومدى ضآلتي التي تخفيني من الوجود.


*من رواية (في حدة الأشواك)

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved