الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 17th April,2006 العدد : 149

الأثنين 19 ,ربيع الاول 1427

هاينه.. شاعر أوروبا الإشكالي

*سعد البازعي:
تستعيد ألمانيا هذا العام، ومعها دوائر ثقافية أوروبية أخرى الذكرى المئة والخمسين على وفاة الشاعر الألماني هاينريش هاينه (1797- 1856). وهاينه، كما يبدو لي، ليس من الشعراء الأوروبيين المعروفين على نطاق واسع لدى القارئ العربي. كما أنه من ناحية أخرى وعلى الرغم من كونه معروفاً في أوروبا وفي ألمانيا بشكل خاص، فإنه من الناحية الإبداعية ليس في أعلى قائمة الشعراء الأوروبيين أو الألمان. ليس مثلاً بأهمية شعراء مثل هولدرلين أو ريلكه، ناهيك عن أمثال شيللر وغوته. غير أن مجرد إيراد هذه الأسماء في سياق الحديث عن شاعر كافٍ بحد ذاته لتأكيد أهميته.
تلك الأهمية تنبع في حالة هاينه من ناحية رئيسة واحدة، فهو شاعر غنائي لاشك في أهميته، وقد يكون شعره الغنائي، كما يراه بعض النقاد، هو الأبرز في الشعر الألماني طوال القرن التاسع عشر. وحين نقول غنائي فإن معنى ذلك أننا نستبعد أبعاداً شعرية أخرى في طليعتها البعد الفلسفي أو العمق الفكري. فهاينه متفوق بموسيقاه الشعرية وعذوبته النابعة من نزعته الرومانسية الواضحة، وليس متفوقاً بمستوى الرؤية أو قوة اللغة، فهذه سمات أو معايير قد يتفوق فيها الآخرون. وكانت تلك الغنائية سبباً رئيسا لما يتمتع به هاينه من شعبية منذ ظهرت قصائده أوائل القرن التاسع عشر وحتى الآن. وقد تعرضت تلك الشعبية لاختبار مباشر حين قرر الحكم النازي في ألمانيا عام 1939 إحراق كل الكتب المناوئة له وفي طليعتها كتب اليهود، والتخلص من أي ذكر لهم في الكتب الشائعة مثل المختارات الأدبية الشعبية. فقد وجد المسؤولون أن من الصعب محو قصائد هاينه من ذاكرة تلك الكتب ولكنهم حين أبقوها حذفوا اسم الشاعر ونسبوها إلى مجهول. غير أن ذلك المجهول لم يكن مجهولاً بالطبع لدى القارئ.
جانب آخر من شخصية هاينه أدى إلى شهرته من ناحية وإلى كثير من المشاكل التي واجهها من ناحية أخرى. تمثل ذلك الجانب في انتمائه اليهودي، الذي شكل له، بما تضمن من هوية قلقة، مأزقاً على كل المستويات تقريباً: الوجودي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي. فانتماؤه إلى أقلية لا تتمتع بالكثير من الاحترام أو القوة تسبب في أزمة مباشرة وحادة بمجرد تطور وعيه واكتشافه لمواهبه وتفوقه على الكثيرين ممن حوله. فقد ولد لعائلة يعمل أفرادها، شأن معظم اليهود الأوربيين آنذاك، في التجارة، ولأنه لم يكن يميل إلى العمل التجاري فقد واجه أزمة مالية منذ سعى إلى الاستقلال. وحين مد له خاله الثري يد العون استفاد من ذلك بإكمال دراسته، لكنه خيب آمال الخال حين بدأ يعبر عن أفكار لا تعجب أحداً ممن حوله.
بيد أن تلك الأفكار التي عبرت عن ثورة هاينه على الأنظمة من حوله جاءت تطوراً طبيعياً لاكتشافه أنه ممنوع من ممارسة التعليم لكونه يهودياً، ما أدى في نهاية المطاف إلى رحيله إلى باريس حيث استقر بشكل نهائي. يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس عن مأزق هاينه هذا: (إن الكراهية التي ظلت تقصف هاينه بوصفه يهودياً ومثقفاً طوال حياته جعلته مرهف الوعي بالحد المزدوج للنزعة القومية...) (من كتاب له حول (المحافظين الجدد) صدر عام 1989).
من مقامه في باريس بدأ هاينه ينشر القصائد والمقالات في الصحف ثم يجمع بعض تلك في كتب. ومع أن القصائد جاءت بالغة العذوبة فإن كثيراً من المقالات حملت من الهجاء المقذع لألمانيا والألمان ما أدى إلى تدهور شعبيته ودفع بالحكومة الألمانية إلى حظر تداول كتبه. بل إن ذلك امتد إلى علاقاته بالفرنسيين، أيضاً حين تبين لأصدقائه منهم أنه على الرغم من مواقفه السياسية الناقدة فإنه كان يتقاضى دعماً مالياً سرياً من الحكومة الفرنسية. ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض المقالات الهجائية المشار إليها نشرت في صحيفة كان يحررها كارل ماركس الذي أعجب بهاينه ودعم موقفه لأنه هو الآخر كان يهودياً تطارده الحكومة الألمانية، بل وحكومات أوروبية أخرى.
ذلك الموقف الهجائي قد يكون مبرراً على المستوى السياسي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما لقيه هاينه من اضطهاد. وقد يكون مبرراً أيضاً على المستوى الشخصي، لاسيما إذا تذكرنا ما حل بهاينه في السنوات الأخيرة من عمره وكيف مات مشلولاً تماماً إلا من عينين تومضان ببقية حياة. بيد أن ذلك كله لا يبرر الصورة القاتمة التي تمخضت عما عرف عنه من سوء الطباع الشخصية واستعداده في أية لحظة ليكون بذيء الألفاظ في هجائه. وكان مما زاد من استياء الناس غروره الطاغي وتعاليه على الناس. فمما ينسب إليه في هذا السياق قوله: (لم أنتقم قط من أعدائي لأني لا أقبل أن يكون هناك أعداء يواجهون شخصيتي الخالدة، وإنما هناك مريدون، مؤمنون أقدم لهم كثيراً من الخير). فمن يستطيع أن يحب إنساناً يتحدث عن نفسه بهذه الطريقة؟
لكن منتقديه أنفسهم لا يستطيعون أن ينكروا قدرته العجيبة على سحر الناس بعاطفته المتأججه ولغته الرومانسية. ويشير المعجبون بشكل خاص إلى أغانيه في مجموعة شهيرة له بعنوان (كتاب الأغاني)، ويكفي هاينه أن يكون بين أولئك المعجبين الفيلسوف الألماني نيتشه الذي قال إن هاينه منحه أعلى تصور لما يمكن أن يكونه الشاعر الغنائي. كما أن من المعجبين الناقد والشاعر الإنجليزي ماثيو آرنولد الذي كان معاصراً لهاينه والذي قال إن هاينه أهم الشعراء الألمان بعد غوته، وأنه بتعبير آرنولد (جندي في حرب تحرير الإنسانية)، مشيراً إلى حرب التحرير الثقافي والفكري التي ابتدأت بعصر التنوير. والحق أن هاينه كان بالفعل أحد متبني الفكر التنويري خاصة الجانب الموغل منه في العلمنة والليبرالية. ففي قصيدة له بعنوان (أغاني الخلق) يتحول الإله الخالق إلى فنان من البشر يعترف بأن من المستحيل خلق العالم من عدم، وأنه استمتع بعمله (الخلاق) من حيث هو عمل فني أو إبداعي. بل إنه يصل إلى أكثر من ذلك في تهميش مفهوم الألوهية كما هي في الأديان السماوية.
في هذا السياق التهكمي إزاء الأديان يمكننا أن ننظر أيضاً في قصائد هاينه المشار إليها ب(الأنغام العبرانية)، حيث ترد ثلاث قصائد تدور في فلك التهكم نفسه، هي: (الأميرة ساباث)، (يهوذا بن هاليفي)، و(خلاف). في القصيدة الأخيرة نقرأ عن قساوسة مسيحيين وحاخامات يهود في إسبانيا أثناء العصور الوسطى يتبارون في إثبات أي الفريقين إلههم هو الصحيح، لتنتهي المباراة بعدم اقتناع زوجة الملك، التي تحكّم المسابقة، بصحة ادعاءات أي من الفريقين، وبشعورها بالقرف من كليهما. الطريف هو أن من شروط المباراة أن يدخل المغلوب في دين الفريق الغالب، فيعمّد الحاخامت أو يُختن القساوسة، ليتضح من ذلك كله أن عملية الدخول في الدين، لاسيما الدينين تحت الاختبار، ليست أكثر من عملية اعتباطية وعبثية وأنها أبعد ما تكون عن الاختيار الحر أو العقلاني، علاوة على التشكيك في صحة الدينين أساساً.
غير أن ما سيلفت نظرنا في العالم العربي الإسلامي، بشكل خاص هو التفاتة هاينه للثقافة العربية الإسلامية وتوظيفه إياها في سياق معركته الاجتماعية/ الثقافية للدفاع عن نفسه وعن الأقلية اليهودية. ذلك ما سأتحدث عنه في المقالة القادمة بإذن الله.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved