الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 17th May,2004 العدد : 59

الأثنين 28 ,ربيع الاول 1425

أستاذنا ..
عبدالفتاح أبو مدين
سهام القحطاني
أول مرة تحدثت إليه كانت فجعة الرهبة تخنق نبرتي، وكنت قبل ذلك قرأت جل مؤلفاته.. لذا كنت أعرف قيمة من سأتحدث إليه.. ألزمت نفسي بالصمت وهي عادة انتهجها وأنا أكتشف الآخرين.. وما لبثت أن أتفرس هذا الرجل .. الذي من أول وهلة يعتقل انبهارك فترضى أن تكون معه سجينا ثقافيا.. ويملأ مشاعرك بعطر المعرفة التي تشبه قصص العشاق والعجيب والغريب من الرحلات، لا تمل من الاستماع إليه فتدوخ من النشوة.. لكنها نشوة مباحة مثل الشعر والبحر والربيع وهدهدة ترانيم الأمهات.. تشعر وأنت أمامه أو تتحدث إليه كأنك تتأمل نقطة ضوء بريئة.
الملامح تفتنك عيناها المكحلتان بالتاريخ، تتحرك بهدوء واستحياء وعفاف بين يديك خشية الانزلاق من عالمك.. تدفعك برفق نحو مجهول خاص فلا تشعر بمشقة السير والصعود والنزول والالتفاف حول أبراج التنبؤ الملتفة حول هالة نصف القمر.. والتي تمتص أنفاس أسئلتك بعذوبة لتحولها إلى بحيرة زرقاء لسقي اشجار النخيل التي تزرعها في تصوراتك الذهنية فلا تملك معها سوى تسطير علامات التعجب التي تقف مغردة فوق شجر نخيله .. اي رجل هذا.. وكلما تقدمت نحو غاباته الاستوائية دائمة المطر يتعقد السؤال ويتشجر أفقيا.. فتكتفي بتأمل عنان السماء.. هكذا يبدو أستاذنا أبو مدين .. غابة استوائية.. خالية من الوحوش..
من هنا تحاول أن تكتشف طبيعة الاستاذ تقرع أجراس صومعته الخضراء برفق حتى لا تستيقظ عصافيره من تأملها، تتحول ملامحك إلى رموز من التعجب والدهشة والتساؤل، تنعكس فوق مرآة ملامحه الهادئة كسماء صافية.. تتسرب داخل عوالمه الخاصة بحياء مخافة أن تؤرق تلك النفس العذبة من نعيم هدوئها، يأسرك علمه .. ثقافته..
منطقه.. رجولته.. فروسيته.. الفروسية لا تعني حضوراً شكلياً.. جوداً عنترياً.. وسيفاً يمانياً .. بل منطقا بطعم حكمة الفلاسفة ورؤى العلماء.. فأي رجل هذا الذي ما نزال نكتشف أعماق بحوره..
إننا نؤمن أن المشتركات لا تميز الأفراد، لكن ما يميز فردانيتهم ويحولهم إلى صيغ لا مألوفة اختلاف التعامل مع المشتركات التي تبرز ماهيات القدرة الإنسانية ومستوياتها التي صنعت العظماء والمميزين من الناس، لا شك اننا جميعاً نتفق أن قيمة المرء تكمن في قدرته، القدرة تلك القوى الفيزيقية التي تمنحنا الرغبة والطاقة والاستجابة والتكيف والتحدي والصبر والإنجاز والإبداع .. هذا هو ما يعلمنا إياه.. أن الطموح هو القيمة الحقيقية للإنسان.. به يستمتع ويحترق.. وما أجمل أن يجد المرء قدوة تفتح له أبواب نجوم السماء دوما للاتكاء فوق ارائكها الفضية، فهل نحن لذلك مدركون؟؟
قلت له مرة: لماذا تغيب الرؤية عن المثقف الحقيقي.. لماذا لا نستمتع بثقافتنا..؟؟ ردّ عليّ كعادته بحكمة وصوته الهادئ الرقراق وأنا أتأمل نبرته البيضاء.. التي تذكرني بقصيدة الرائع المهجري إيليا أبو ماضي (كم تشتكي وتقول أنك معدم.. والأرض ملكك والسما والانجم) .. ثم تدهشك الطبيعة الإنسانية القابلة للتفاوت..فرغم كل شيء تظل الطبيعة الإنسانية فعلاً محيراً للتأمل .. وتأويلا ميتافيزيقيا للاكتشاف.. قد تبدو لك كلحظة أرخميدس.. حينا.. وحينا.. كمشنقة.. القديس فالنتاين.. وثالثة كمحرقة جالييو.. ورابعة كنجوى المتنبي مع فرسه في شعب بوان.. وخامسة كخطبة الفتح بعد حطين.. اللحظة عندما تخلق قراراً حاسماً تتحول إلى إنجاز.. هذا الامر ما نزال نجهل حقيقته.. لأن استجابتنا للمفاهيم رهينة السائد.. وقلّ من يغامر برحلة مشنقة فالنتاين أو محرقة جالييو.. إنه يشبه الخروج من مملكة العبيد المخبئة داخل جمجمة تخلفنا الحضاري المكسو بريش النعام.. فكل شيء قيد الحضور والتعريف.. ما عدا الكائن الحي.. الذي يظل رأسيا فوق الجزء الميت من منطق المتعة الفنية للمنجز الإنساني الذي يتنفس هواء مؤجل الوفاة.. لكننا خارج طاقة التحدي اعجاز نخل خاوية.. إنه المرادف التصويري لمفهوم السلبية، هكذا يؤمن استاذنا .. يؤمن أن التحدي هو قيمة الإبداع، بل هو قيمة الوجود الإنساني... فهو بعد ثابت.. هكذا يعلمنا الأستاذ كيف نقتحم مغامرة معانقة الموت..
أستاذنا عبدالفتاح .. يعلمك أن لا مفاضلة في التوافر .. بل في الندرة التي أضحت متعلقاتها بمستور كائن أو يكون .. فعلاً غائباً بمقصود فاعل أجنبي مفصول عن فعله، والتأويل يظل مسألة خلافية.. فالإنسان لا يكتمل بالتطور البيولوجي فقط.. وإلا لعد المجانين أصحاب قضية قرار..!! إن الأمر يشبه رؤية دارون عن التنازع والانتقاء الطبيعي.. وبقاء الأصلح .. ولكن قلة يدركون ذلك..
الثقافة كما نتعلمها من شيخي الجليل عبدالفتاح أبو مدين.. ليست غريزة تملك ولا غريزة سيطرة ولا غريزة مركزية.. إنها مبدأ عطاء.. وفعل عطاء.. وفعل إنجاز.. وفروسية تضحية من أجل الآخر.. تمرد ليس على المألوف الصحيح.. بل على المألوف الخطأ..
تحية حب وتقدير لشيخي الجليل عبدالفتاح أبو مدين .. فأنت .. مثل الشمس تشرق من أجل الجميع.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved