الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 17th October,2005 العدد : 127

الأثنين 14 ,رمضان 1426

استقبال الآخر
(الغرب في النظرية النقدية العربية)2-2
سعود السويدا

(يهودية ديريدا)
يحاول البازعي أن يربط بين النظرية النقدية الغربية والثقافة الغربية بكافة أشكالها، وخصوصاً في الجانب الفلسفي منها. وهنا لن يختلف أحد مع الدكتور سعد؛ فالنظرية النقدية الغربية هي ابنة الثقافة والفكر الأوروبي والأمريكي، لكن البازعي لا يتوقف هنا، بل يذهب حدَّ التأكيد بإصرار، كمن وقعت يده على شيء ثمين، مثلاً على يهودية ديريدا! إضافة بالطبع إلى يهودية لوكاتش وغولدمان.
هنا يصبح السؤال الأساسي كالتالي: إلى أي حدٍّ كانت يهودية ديريدا جوهرية في تشكيل أفكاره ونقده للتراث الفلسفي الميتافيزيقي الغربي؟ هنا يلجأ البازعي إلى بعض الكتاب الغربيين الأكاديميين لتعزيز (قراءته) لديريدا، دون أن ينتبه البازعي إلى أنه، هنا أيضاً، يقع في خانة الاستقبال لتقييم الآخر لمنتجاته، ويقوم باستخدام النتائج التي توصل إليها الآخر لحساب إثبات وجهة نظره! لكن لنتابع السؤال: بأي معنى كانت يهودية ديريدا مؤثرة في إنتاجه وفكره؟ هناك إجابتان عن هذا السؤال: أن تؤثر ديانة كاتب في فكره وإنتاجه يمكن أن يعني ذلك أن أفكاره كانت خاضعة للأفق الفلسفي والفكري وحتى العقائدي الذي تمليه هذه الديانة. ولا أظن البازعي يرمي إلى شيء من هذا القبيل، وإن كان لا ينفيه؛ مما يترك للقارئ (على الأقل غير المتآلف مع النظرية النقدية الحديثة) إمكانية الخروج بنتائج من هذا النوع. والإمكانية الأخرى هي أن تكون ديانة المؤلف كمكون وعي تاريخي وثقافي فردي يشبه المكان الذي ولدت ونشأت فيه مؤثرة في مجمل رؤيته الفكرية، وهذا يخرج بنا إلى نتائج من قبيل تحصيل الحاصل. لكن في حالة ديريدا: من المعروف، والبازعي يلمح إلى ذلك دون تفصيل، أن ديريدا ولد لأسرة يهودية في الجزائر، فعاش شعور الهامش المرتبط بالأقلية، ثم عاش في فرنسا كمهاجر، ومنتهياً في الهامش أيضاً. فيكون من المعقول أن نستنتج عنايته كمفكر بالهوامش (لنتذكر كتابه على هامش الفلسفة)، وإصراره على البقاء في الهامش من خلال عدم طرح نظرية، وانتباهه للمغفل والمسكوت عنه والمقموع في الثنائيات الميتافيزيقية التي أثقلت الفكر الفلسفي وما إلى ذلك. كان يمكن تجاوز هذه النقطة، كهفوة بسيطة في كتاب مهم يرصد التحولات التي تمر بها النظرية الغربية أثناء مرورها إلى أفقنا الثقافي العربي، لكنه كتاب حرص البازعي على انضباطه المنهجي، وحرص على ألاَّ تمر بضع صفحات دون أن يؤكد على يهودية أي مفكر غربي يأتي ذكره. حتى إنك تتساءل: ما الذي كان يفعله المناضلون العرب طوال خمسين عاماً بأفكار ماركس اليهودي؟! وما يفعله علماء النفس بالتحليل النفسي لفرويد اليهودي؟ وعلماء الفيزياء بنظريات أينشتين اليهودي؟!
(تقويض أم تفكيك!!)
يتوقف البازعي طويلاً عند مصطلح (ديكونستركشن)، ويناقش لماذا تعد ترجمته إلى التفكيكية مضللة، مستعيناً على ذلك بشرحه هو والدكتور ميجان الرويلي باقتراحهما مصطلح التقويضية كبديل أكثر دقة، ثم يحدِّد الأخطاء التي لازمت المصطلح على يد الغذامي الذي دعاه بالتشريحية. والأمر يشبه قليلاً ما حدث مع منهج لوسيان غولدمان؛ إذ صارت البنيويةُ التكوينيةُ البنيويةَ التوليديةَ والهيكليةَ التوليديةَ. ويحلِّل بعد ذلك النوايا التي تختبئ خلف اختيارات أي مترجم أو ناقد لهذا المصطلح أو ذاك، من منطلق كونها غير بريئة في الغالب؛ إذ يمكن أن تنطوي على تشويه للمنهج أو النظرية ليتلاءم واحتياجات وبيئة الناقد، كما هو الحال مع الغذامي. ويمكن لنا أن نضيف أمثلة كثيرة، فمثلاً يصرُّ العروي في كتابه عن الإيديولوجيا على تسميتها بالأُدلوجة على وزن أُفعولة العربي التصريف، ويقدم خليل أحمد خليل ترجمته لمجموعة من المقالات الفلسفية المعاصرة بترجمات مبتكرة وعجيبة، فالاحتدامي يحل بدل الدرامي، والفكروية مكان الأيديولوجية، والظهورية مكان الظاهرية، والوضعانية مقابل الوضعية، والمعلومية للإبستمولوجيا، ثم يقول على غلاف الكتاب: (في زمن فلسفة العلم آن للفلسفة العربية أن تحاور الفلسفات العالمية المعاصرة من موقع قوي لغةً واصطلاحاً وتدقيقاً ونقداً!).
من الواضح هنا أن هؤلاء الكتاب يحاولون إعطاء مذاق عربي لمصطلحات فلسفية مجتلبة وعريقة التمركز في الحضارة الغربية، لكن اختياراتهم، عدا كونها تنبو عن الذوق العام وتستثقلها الأذن، هي في الواقع مجرد قفزات في الهواء!! بل يمكن النظر إليها من زاوية التعويض النفسي، فإذا كنت غير قادر على الابتكار فلا حول إلا المصطلح، والأمر يشبه أن تسمي اللمبة بالمصباح، والفاكس بالناسوخ، والساتلايت بالساتل؛ لكي تعوِّض عقدة النقص الحضاري في عدم إسهامك في إنتاج التقنية ووقوفك في خانة المستهلك.
والبازعي يدرك صعوبة ومغامرة الإصرار على ترجمة ما مهما كان متحمساً لها؛ لأن الأهم لديه هو التداول والفهم لكتابه، ولذا يرفق مصطلحه الخاص بالتفكيكية مصحوباً باقتراحه (التقويض)؛ ليترك المصطلح يجرِّب حظه في الأفق الثقافي العام. هذه المرونة الذوقية والانتباه للمحيط الثقافي هي مما يميِّز طروحات الدكتور البازعي عموماً.
(ماذا عن الأدب؟)
يخرج البازعي من بحثه بنتائج غير بدهية، مثل تلك التي أشرتُ إليها أعلاه، إلا أن هناك بدهية غابت عن الكتاب، وهي أن النظرية النقدية مرتبطة بصورة وثيقة وتكوينية بالإنتاج الأدبي أساساً. والبازعي كقارئ مخضرم للنصوص الأدبية العربية يعرف أنها كنتاج أدبي كانت دائماً، وفي نماذجها الأفضل، محاكاة لأشكال أدبية غربية في الأساس، في الرواية والشعر منذ التفعيلة وحتى قصيدة النثر!
أين يتركنا ذلك؟ يتركنا مع المقامة السردية والقصيدة العمودية كأشكال مثبتة الأصالة! أم ينبغي على الكاتب الحديث الاشتغال على مقامة مطورة، ومع قصيدة عمودية تتعامل مع جماليات العصر!
(مناظرة السيرافي وأبي بشر متى)
يكرر البازعي الاستشهاد بأبي سعيد السيرافي في مناظرته الشهيرة مع أبي بشر متى المنطقي التي رواها أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة. ولعل البازعي يستشهد به باعتباره موقفاً من التراث يعبر عن الأصالة والنقدية تجاه تأثير الفكر اليوناني قديماً. إلا أن الاستشهاد بتلك المناظرة إشكالي في أحسن الأحوال، فمن حيث الدقة التوثيقية يمكن التشكيك في رواية أبي حيان، وخصوصاً حين يسبق وصفه للمناظرة بوصفة لمتى كالتالي: (إن متى كان يملي ورقة بدرهم مقتدري وهو سكران لا يعقل، ويتهكم وعنده أنه في ربح وهو من الأخسرين أعمالاً، الأسفلين أحوالاً). ويختم المناظرة بوصفه لأبي سعيد بأنه (أجمع لشمل العلم، وأنظم لمذاهب العرب، وأدخل في كل باب، وأخرج من كل طريق، وألزم للجادة الوسطى في الدين والخلق، وأروى في الحديث، وأفقه في الفتوى). لكن لنفترض، جدلاً، توفر الدقة والحياد في وصف التوحيدي للمناظرة التي طلب فيها الوزير ابن الفرات من جلاَّسه، ومعظمهم من النحاة العرب، إفحام متى والرد عليه (ومناظرته وكسر ما يذهب إليه، وإني لأعدكم في العلم بحاراً، وللدين وأهله أنصاراً)؛ مما يجعل الأمر أشبه بمباراة تجري في ملعب الخصم. وتبدأ المناظرة بطلب السيرافي من متى أن يعرِّف المنطق، ثم يبدأ في تسقُّط أخطائه اللغوية، (قال: نعم، قال: أخطأتَ، قل في هذا الموضع: بلى..) إلى آخر المناظرة المعروفة.
ومن الواضح أن تكتيك السيرافي كان أن يجر متى إلى منطقته: اللغة والنحو، باعتبارها لعبته التي يجيدها، وهو ما يحدث، فيفحمه - كما يخبرنا أبو حيان - السيرافي حتى (بلح وجنح وغص بريقه)، حتى يختتم الوزير تلك المناظرة: (عين الله عليك أيها الشيخ، فقد نديت أكباداً وأقررت عيوناً وبيَّضت وجوهاً)، ويعلن انتصار النحو العربي على المنطق اليوناني.
ما أودُّ قوله في وصف سياق الاستشهادات التي أوردها البازعي أن أبين إشكاليتها مقابل تقديمها كموقف نقدي نقي من التراث يمثل الأصالة، فالإسقاط هنا لا يحل المشكلة بل يعمقها؛ إذ يجعلها تبدو قديمة قدم القرن الرابع الهجري على الأقل.
والمنطق الأرسطاليسي الذي يمثله أبو بشر متى ويهاجمه السيرافي من موقع اللغة هو المنطق الذي ساد الفلسفة عبر قرونها الوسطى ووصولاً إلى نهايات القرن التاسع عشر، وطبَّقه فلاسفة الإسلام منذ الكندي حتى ابن رشد. ولعل من المفارقات الدالة أن يكون تحصُّن السيرافي باللغة شبيهاً بتحصُّن شكري عياد بها. والأمر يشبه أن ترفض ممثلي النظرية الغربية النقدية بحجة أنهم يجهلون أحكام الجزم والنصب في اللغة العربية.
(المسكوت عنه)
توحي المقدمة بأن البازعي كان يتوقع لكتابه أن يثير الكثير من الضجيج والاحتجاج على الرؤية التي يطرحها عن وضع النقد العربي، (يقدم هذا الكتاب صورة للنقد العربي الحديث لا أخالها ستعجب الكثيرين من المشتغلين في هذا الحقل). لكن ذلك لم يحدث، على حدِّ علمي، ولا أتوقع له أن يحدث. السبب أن كثيرين يشاركون البازعي رأيه على الأقل في عمومياته، وهو ما يجعل منطلقاته بدهية أكثر مما يجب.
إن النقد العربي ما زال في حيز الاستهلاك، ولم يساهم بدوره لا في التجديد في النظرية الغربية ولا في وصل ما انقطع منذ الجرجاني والقرطاجني عبر صياغة نظرية عربية ذات خصوصية وأصالة، إلا في استثناءات قليلة وإشكالية بالطبع، لن تفلح - إن ثبتت - إلا في تأكيد القاعدة. السؤال: ما الذي يمكن قوله عن النقد الأدبي مما لا ينطبق على بقية العلوم الإنسانية: الفلسفة، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس.. إلخ؟ بل يبالغ البعض ويرى الأمر ينطبق على الأدب العربي ذاته.
ثمة لدى البازعي شعور بوجود أزمة في النقد العربي الحديث، وهو ما يشاركه فيه الكثيرون، ولا يكادون يتعبون من ترديده في الواقع. لكن البازعي، في رأيي، ينحو باتجاه السؤال الأسهل؛ إذ يسأل: ما الذي حدث وما الذي يحدث في المشهد النقدي العربي؟ وهو سؤال ينتهي بنا إلى إجابات شبه مجمع عليها عن خطأ الانبهار والاستعجال ووهم الأسبقية واللانقدية.. إلخ، وهو ما ينتهي بالبازعي في حدود التوصيف والذي يجب والذي لا يجب دون محاولة استكشاف عميقة للسؤال الأصعب، وهو: لماذا؟ لماذا بقي النقد العربي في خانة الاستقبال والترويج؟ لماذا كان مصيره على يد معظم رواده ومحترفيه أن ينتهي إما مشوهاً وإما مختلطاً وإما في أحسن الأحوال منقولاً فقط مستورداً من المصنع الفكري الغربي؟ إن الخطو في اتجاه هذا السؤال هو ما ينطوي على مخاطرة، تشبه السير في حقل ألغام، هو الذي تفاداه شكري عياد على ما يبدو وتحصَّن وراء اللغة والتراث. يقول شكري عياد: (لا بدَّ من الاعتراف بأن الفكر النقدي يكاد يكون معدوماً في عالمنا العربي).
ربما كان هذا الاعتراف هو ما يحتفي به البازعي لدى عياد ويقدمه بشيء من التفصيل في هذا الكتاب.


الكتاب صادر عن دار المركز الثقافي العربي، 2004م.

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved