الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 17th October,2005 العدد : 127

الأثنين 14 ,رمضان 1426

سلطة العنوانمن الجزء إلى الكل
قراءة في مجموعة: وجوه رجال هاربين«1»
د. حسن بن حجاب الحازمي

إن اختيار الكاتب لعنوان عمله لا يأتي غالباً عبثاً أو عن طريق المصادفة، وإنما يتم بدراسة وتأن ليحقق من خلاله أشياء كثيرة، يأتي في مقدمتها إثارة انتباه المتلقي وجذبه إلى العمل، وإذا كان العنوان هو العتبة الأولى للنص -أي نص- فإن عنوان المجموعة القصصية أو الشعرية هو البوابة الأولى إلى عالم النصوص؛ وقد يختار الكاتب أحد عناوين نصوص مجموعته ليجعله عنواناً للمجموعة بأكملها، وقد يختار عنواناً بعيداً ومختلفاً، وليس من ضمن عناوين نصوص المجموعة ولكنه لابد أن يحمل دلالة ما تجعل اختياره أمراً مسوّغاً.
في مجموعة البراق الحازمي يختار أحد عناوين نصوصه ليكون عنواناً للمجموعة بأكملها، ليس ذلك فحسب، وإنما يجعل هذا النص هو النص الأول الذي يتصدر المجموعة، وبالتالي يصافح القارئ في أول مواجهة له مع النصوص وكأنه يسجل بذلك اعتزازاً خاصاً بهذا النص الذي حمل عنوان المجموعة (وجوه رجال هاربين) وربما شعر القاص باكتمال النص الفني، وارتباطه البيئي، وقدرته على تصوير حالة معينة تمني طويلاً لو يستطيع تصويرها، وشعر بانتهائه من هذا النص انه نجح في ذلك، ولهذا رأى أن يقدم هذا النص، ويجعله عنواناً للمجموعة بأكملها.
ولكن بغض النظر عن أسباب اختيار الكاتب لعنوان مجموعته، فإن على الناقد أن يبحث في دلالات العنوان، وعلاقته ببقية قصص المجموعة إن وجدت.
إن العنوان (وجوه رجال هاربين) يرتبط بصورة مباشرة بالقصة نفسها التي حملت هذا العنوان، وهذه القصة تقدّم بتأن واضح صورة مألوفة في المجتمع الجازاني، صورة جلسة القات عبر مجموعة من الرجال أو الشباب الذين يتعاطون القات بصورة ليلية، ولكنها تقدم ذلك بصورة ذكية تحمل قدرة القاص على التقاط أدق التفاصيل، فتصور انتشاءهم واستمتاعهم بلحظاتهم الجميلة في البداية، ثم تصور انكسارهم وهزيمتهم النفسية في النهاية، والقصة في كل الأحوال تقدم قراءة في وجوههم التي تفر إلى الفرح المصطنع، والبهجة المؤقتة في أول المساء، ثم تعود أو تفر إلى الكآبة والحزن في آخر المساء لتتساءل وهي تبصر وجوهها في المرايا، هل كانت وجوهنا جميلة أم كان ذلك وجه المساء؟!
وكأن القصة أرادت أن تقول إن هؤلاء الرجال الذين تغمرهم البهجة والأنس أثناء جلستهم الليلية هم في الحقيقة هاربون ليليون أدمنوا الهروب من واقعهم إلى عالم مصطنع من البهجة المصطنعة.
وهو ما نجحت القصة في إيصاله من خلال بنيتها الفنية المتماسكة التي قدمت الحدث بواسطة السرد المشهدي -أو ما يعرف بتقنية المشهد- المقدم عبر راو خارجي حرص على أن يكون حيادياً وأن يقدم صورة لما يحدث وفق نظرة الشخصيات وإحساسهم.
إن الميزة الكبرى التي يوفرها السرد المشهدي (أو المشهد) هي أنه يحيل الحدث من حدث محكي أو مسرود إلى حدث مشاهد أو مسرح، وبدل من أن يستمع القارئ إلى صوت الراوي، يصبح القارئ مشاركاً للراوي في رؤية الحدث ومتابعة تفاصيله، وسماع أصوات الشخصيات، عبر حواراتها ليشارك بذلك في الرؤية والحكم بعيداً عن تدخل الراوي، كما أن الراوي الخارجي دائماً ما يكون أقرب إلى الحياد من الراوي الداخلي.
وهذا الحياد هو الذي سعت هذه القصة إليه عبر منهجيتها السابقة، لأن القصة على ما يبدو - لم تكن تسعى إلى إصدار حكم أخلاقي، أو مصادرة أحد، أو تسجيل موقف انتقادي قاسٍ، وإنما أرادت أن تقدم صورة لما يحدث تاركة للقارئ حرية الحكم؛ ومنذ البداية بدأ الراوي في التقديم للمشهد بلغة يمكن أن يشك بأنها متعاطفة مع الحدث الذي يريد أن يقدمه، ولكن التأمل الحقيقي في هذه اللغة يكشف عن أنها أرادت أن تقدم وصفاً للجلسة الليلية ولمكانها من خلال رؤية الشخصيات نفسها، وفي ذلك الوقت بالذات: دائماً يجلسون في ذات المكان، مع الزمان ليلة بعد ليلة، وجوه تشبه الأصدقاء، مجلس من فضة ومساء جنوبي (أخضر) يعطي الحياة شيئاً مميزاً من اللون والمعنى، مصباح في الغرفة لضوئه انعكاس في الزوايا، جمرة تأتلق في رأس نارجيلة، دخان يخرج من الأجساد، نسائم الربيع اللذيذة تمسح الوجوه.. ينتشون كأنهم بين النجوم(2).
إن هذا الوصف الذي منح صورة للمكان الذي يجتمعون فيه والذي يؤكد الراوي منذ البداية ديمومته واستمراريته - الزمانية والمكانية - يأتي بهذه اللغة التي تشي بجمال الجلسة لأن الراوي أراد أن يقدمه بعين الشخصيات القصصية ووفق رؤيتها له في تلك اللحظة بالذات، لحظة الانتشاء ولم يرد أن يقدمها بعين الناقد الذي يحمل أحكاماً مسبقة على مثل هذه الجلسات وعبثيتها وما تقود إليه من إضاعة للوقت والمال.
ثم سيتوارى الراوي بعد ذلك ليفسح أمام الشخصيات القصصية في القصة الفرصة للظهور والحوار والتعبير عن استمتاعها بجلستها وبما تمارسه، متيحا للقارئ التعرف على ذلك بنفسه من خلال متابعته لما يحدث وهو يقدم عبر مشهد متحرك يتدخل فيه الراوي بين الفينة والأخرى واصفاً لحركة شخصية وهي تتحدث، أو واصفاً لشخصية - كما فعل مع وصفه لغريب، وإن كان الوصف هنا مقحماً وربما يحدث ثغرة فنية في كيفية تقديم الشخصيات - أو مخبرا عن تغير دفة الحديث أو دخول بعض الشخصيات، لكنه حتى وهو يقوم بهذه التدخلات يقدمها بلغة وصفية مكملة للمشهد.
وكل ما قدم عبر المشهد كان يشي بانتشاء وفرح وجلسة كأنها بين النجوم، ليظهر الراوي في نهاية القصة واصفاً انتهاء الجلسة مع إطلالة الصباح، وتغير الرجال تماماً ((أجساد تمرغ فيها التعب، ووجوه متشابهة إلى حد كبير، لكنهم ينكرونها.. قلق يدفع أصحابه إلى التفكير دون توقف، الأشياء التي يكرهونها تلح عليهم دون توقف.. أحدهم يصل إلى بيته أولاً يدخل متثاقلاً.. يتجه صوب المرآة، يحدق فيها، يتساءل هل كانت وجوهنا جميلة، أم كان ذاك وجه المساء؟!(3).
إن كل شيء في هذه النهاية يشي بأن الأوجه التي كنا نراها منذ البداية أوجه مستعارة لرجال هربوا من واقعهم إلى بهجة مصطنعة، ولعل وصف الأوجه في البداية بأنها وجوه تشبه الأصدقاء، يؤكد هذا، يؤكد أنها ليست وجوههم الحقيقية وإنما ربما تشبهها، ليأتي في النهاية مؤكداً عودة وجوههم الحقيقية، الوجوه العابسة القلقة المتشابهة إلى حد كبير الوجوه التي كانت ترى أنها جميلة لتكتشف أن الجمال ربما كان مصدره المساء الجميل، أو الحالة النفسية المرتبطة بالجلسة الخضراء.
ولو عقدنا مقارنة بين لغة المقطع الذي قدم فيه الراوي للمشهد، ولغة المقطع الذي ختم به الراوي المشهد لأمكننا تلمس الفرق الواقع بين حالتين متباينتين، نجح الراوي في التعبير عنهما بلغة تعبر عن حالة الشخصيات ورؤيتها هي، رافداً بذلك المشهد بأكمله الذي قدم للقارئ صورة لما يجري في مثل هذه الجلسات من فرح وغبطة وانتشاء، ثم ما يعقب ذلك من انكسار وقلق وتعب نفسي، دون أن يتدخل في إطلاق أي حكم ليترك للقارئ استقراء الصورة واتخاذ موقفه تعاطفاً أو نفوراً بحرية تامة.
إلا إذا عددنا العنوان تهمة للرجال بالهروب من واقعهم، فوصف الرجال بأنهم هاربون، ربما يبدو منذ البداية اتهاماً واضحاً غير قابل للدفاع، ليقول العنوان - هذه وجوههم - هكذا تبدو أثناء هروبهم الليلي من واقعهم إلى عالم البهجة المصطنع، وهكذا تبدو حينما يعودون مع إطلالة الصباح إلى واقعهم.
إذاً فالعنوان يرتبط بصورة مباشرة بالقصة الأولى، ويمكن تلمس دلالاته من خلالها، واستقراء هذه الدلالات من خلال لغتها وأحداثها.
ولكن هل يمكن تلمس بعض هذه الدلالات في بقية قصص المجموعة؟! سؤال يبدو وجيهاً خصوصاً وأن العنوان انتزع من مكانه الأول ودلالته المعنية بالقصة الأولى ليصبح دالاً على المجموعة بأكملها.
والقارئ المتأمل في هذه المجموعة سيلمس بوضوح امتداد سلطة العنوان من الجزء إلى الكل.
ومن النص الأول المعني به وحده إلى بقية نصوص المجموعة، فالهروب يكاد يكون صفة ملازمة لجميع شخصيات قصص المجموعة: فيحيى بطل القصة الثانية في المجموعة التي حملت عنوان ((أحلام الفتى يحيى)) كان دائم الهروب من واقعه البائس إلى أحلام اليقظة، حتى أن زملاءه وأصدقاءه لم يعودوا قادرين على التفريق بين ما يحكيه لهم من واقعه الذي حدث له بالفعل، وما يحكيه لهم من خلال أحلام اليقظة، لدرجة أن الحدث الحقيقي الذي حدث له بالفعل (وهو أخذ أحد الأجهزة العسكرية له وضربه دون أن يعرف أسباب ذلك) هذا الحدث حين حكاه لزملائه على أنه حدث لشخص آخر بناء على توصية الملازم له بألا يخبر أحداً بما حدث وأن ينتبه لنفسه - لم يصدقه زملاؤه، ولكنهم تساءلوا هل هو من أحلام اليقظة أم أنه حلم به وهو نائم.
لتظل أحاديث يحيى وحكاياته كلها في إطار الأحلام، وذلك تأكيدا لهروب هذه الشخصية الدائم إلى الأحلام حتى انها أصبحت صفة ملازمة لها؛ وهذا الإحساس انتقل إلى القارئ الذي بدأ يساوره الشك في مدى واقعية الحدث الذي تسرده القصة هل حدث بالفعل لبطلها (يحيى) أم أنه حدث وهمي، وحلم من أحلام اليقظة التي تسيطر عليه.
بل حتى موته الهادئ في نهاية القصة - والذي لم يكن له أي مسوّغ فني - بل ربما أفسد القصة التي ربما كانت نهايتها المفتوحة في الفقرة التي سبقت فقرة الموت أفضل بكثير من نهايتها المقفلة بالموت - أقول حتى هذه النهاية ربما شكلت تأكيداً لهروب الشخصية من الحياة، بانسحابها منها إلى الموت.
وفي القصة الثالثة: (( هكذا بدا المنظر من سن الأربعين)) تبدو الشخصيتان الرئيستان في القصة (الراوي وصاحبه) شخصيتين هاربتين، تمارسان هروباً فعلياً من السهل إلى الجبل - أو من تهامة إلى فيفاء - وتمارسان هروباً نفسياً إلى الماضي حيث الطفولة العذبة، والشباب، والحب، والأصدقاء، وذلك هرباً من وطأة الإحساس بالشيخوخة التي حملتها الأربعون عاماً التي بلغها الراوي.
وفي القصة الرابعة ((بقايا ذاكرة)) ستمارس الشخصيتان الرئيستان (الراوي وصاحبه) لعبة الهروب ذاتها، (الهروب الفعلي حيث يشكل المقهى متنفساً ليلياً يمارسان الخروج إليه هرباً من همومهما نفعل مثل الآخرين.. نتبادل الأحاديث، نجير همومنا لمن نشاء، نلعب الورق(4).
والهروب النفسي إلى الماضي حيث تمثل ذكريات صاحب الراوي - عن والده - حجر الزاوية في بنية الحكاية التي تقدمها القصة.
وفي القصة السادسة (الجوع) ستمارس شخصيات القصة هروباً فعلياً من بيئة فقيرة إلى بيئة غنية، وهو هروب معتاد تمارسه عشرات الأسر الفقيرة على الرغم مما تقاسيه في طريق الهروب من معاناة قد تصل إلى الموت أو كما يقول الراوي يهربون من الموت إلى المجهول.
وفي القصة السابقة التي تمثل ثلاث قصص قصيرة جداً يمارس الراوي الهروب إلى الماضي.
وفي قصة (الرقص مع الدبابات) تمارس الشخصية الرئيسة الهروب من واقعها الأليم المحاصر بالدبابات وسطوة العدو وبطشه إلى الموت حيث الحلم بالشهادة والجنة (ملأت صدري باليقين، شددت حزام الحياة جيداً على كبدي، وها أنا الآن أرتدي البياض أمشي وحيداً على الماء الذي نبعه من نور ساطع يغمر كل شيء، ورائحته من دمي الذي يسيل)(5).
وبالإضافة إلى صفة الهروب التي رافقت جميع شخصيات المجموعة القصصية، سنكتشف أيضاً أن الشخصيات الرئيسة في جميع القصص (رجال)، وأن مفردة وجه وأوجه من أكثر المفردات تكراراً في المجموعة، ولا تكاد تخلو منها قصة من قصص المجموعة فالقصة الأولى تقوم على استقراء الوجوه، والقصة الثانية ستشكل الصفعة التي تلقاها (يحيى) على وجهه جزءاً مهماً في الحدث الرئيس، وستقفل القصة على ملامح وجهه القروي المكسو بابتسامة خفيفة.
وفي جل القصص سيتردد ذكر الأوجه وتغير ملامحها على امتدادها.
وهكذا يبسط العنوان سطوته منتقلاً من دلالته المباشرة على نص بعينه إلى دلالة رمزية يمكن تلمسها في جميع نصوص المجموعة سواء أدرك ذلك الكاتب أم لم يدركه، تقصده أو لم يتقصده.


(1) وجوه رجال هاربين، البراق الحازمي، نادي جازان الأدبي، ط1(1425هـ - 2004م).
(2) المجموعة: 9
(3) المجموعة: 16
(4)المجموعة: 51
(5) المجموعة:92

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved