الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 17th October,2005 العدد : 127

الأثنين 14 ,رمضان 1426

خروج الثقافة العربية من أزمتها
التحول من الماهية إلى الوجود
أ. د يوسف سلامة*
لو أردنا أن نتحدث عن مستقبل الثقافة العربية أو أن نتنبأ بمسارها المحتمل وأسلوبها المتوقع في التعامل مع مشكلات العصر والتحديات المطروحة على هذه الثقافة وعلى المجتمعات التي أنتجتها على امتداد قرابة خمسة عشر قرناً، في ضوء الاعتبارات المنهجية والفلسفية المتقدمة، لكان علينا أن نعود إلى المعيار الذي أرسيناه في فهمنا للثقافة، نشأةً وتطوراً وانحلالاً، ونحن نشير بذلك إلى ما قررناه من أن الفكرة الحضارية الواحدة لا تنهض عليها إلا حضارة واحدة أو ثقافة واحدة، وأن الفكرة الحضارية عندما تنتج الثقافة أو الحضارة التي تنتسب إليها، فإنها لا تعود قادرةً على إنتاج ثقافة جديدة بالاستناد إلى الفكرة نفسها التي سبق لها أن أنتجت ثقافةً أو حضارة بعينها.
ذلك لأن من يحاول أن ينتج ثقافة أو حضارة جديدة بالاستناد إلى الفكرة نفسها، فهو لن يستطيع أن ينتج غير أحد أمرين: إما إنتاج أمر سبق إنتاجه، أي تكرار لا طائل من ورائه، وهذه هي الصورة (الأمثلية) للأصولية أو لثقافة (البعث والانبعاث)، وهي ليست إلا واحدةً من الصور المحتملة للأصولية، وإما تجاوز للفكرة الحضارية نفسها وتقدم منها إلى إنتاج فكرة حضارية جديدة تختلف كماً ونوعاً وروحاً وشكلاً ومضموناً عن الفكرة الحضارية السابقة التي تم التحول منها إلى هذه الفكرة الجديدة.
وعلى ذلك فليس بوسعنا أن نتجاوز هذا المعيار الذي نطبقه على الثقافات والحضارات، لأننا لا نعرف معياراً غيره يمكن أن يوصف بالصدق والثبات على ما نظن. ولعل مواجهة النفس - مواجهة صادقة- هي السبيل الأمثل لاكتشاف الحقائق التي لا تستقيم الحياة الفردية والاجتماعية إذا كانت مناقضة لها.
وإذاً يبدو أن على الثقافة العربية والمثقفين العرب أن يختاروا بين البقاء حبيسي صور الأصولية المختلفة، بما فيها ثقافة البعث والانبعاث، وبين الانطلاق من العصر نفسه، ومن معطيات الوقائع ذاتها، نحو تبيّن أسئلة مستحدثة تتعلق بالزمان والمكان الذين نحياهما، ذلك لأن الوقوف عند صورة الأسئلة القديمة لا يعني شيئاً آخر سوى الحصول على أجوبة قديمة أيضاً، فالأسئلة الجديدة وحدها هي التي تخلق الأفق واسعاً أمام احتمال ظهور أجوبة جديدة.
وعلى ذلك فإن مهمة المثقفين العرب اليوم - إذا ما شاءوا النهوض بمسؤولياتهم فعلاً - تتمثل في تنمية حس السؤال والتساؤل في أنفسهم، وفي إشاعة جو من الاستنارة الحقيقية التي لا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا كانت ثمرة لولادة روح جديد متحرر يمتلك الشجاعة على طرح الأسئلة التي تبدو من وجهة النظر التقليدية أسئلةً خطرة.
إن إنتاج شبكة من الأسئلة التي تطال كل ما يبدو محرماً في الأفق العربي الراهن هو الخطوة الأولى التي تشهد على أننا نطرح بصورة جدية التساؤل عن مستقبل الثقافة العربية، أي خروجها من أزمتها الراهنة، طالما أن هذا التساؤل، في التحليل الأخير، ليس سوى تساؤل عن مستقبل حملة هذه الثقافة، وعمّا إذا كانوا قادرين على الإسهام في إنتاج حياة العصر الذي يعيشون فيه، بدلاً من أن ينشغلوا بإقامة (مماثلات زائفة) بين صور من الماضي وإنجازات عظيمة حققها غيرنا. إن ذلك كلّه لا يمنع من الاعتراف بأن الثقافة العربية قد لعبت دوراً مهماً جداً في حياة العالم -وهو دور يتجاوز النقل والترجمة- غير أن هذا الأمر نفسه لا يمنع من الاعتراف أيضاً بالحاجة الملحة إلى تجديد الأسئلة تجديداً جذرياً.
ولكن لماذا نجدد أسئلتنا؟ إننا نفعل ذلك لأننا عند حد من تطور الثقافة نعلم بأن ثمة شيئاً جديداً قد حدث، وبأن وقائع جديدةً قد ارتسمت في الواقع وفي أذهان المثقفين. وعند هذا الحد على الضبط يتعين على المثقف أن يطور الأسئلة ويجددها. فتلك الوقائع المرتسمة، بصورةٍ جنينية لا يستطيع أحد أن يصل إليها وأن يفض سرها إلا إذا طرح الأسئلة المناسبة لها. فالسر أو اللغز قد كان في القديم ينكشف للعراف بالسحر والتعاويذ. أما السر واللغز في نظر المثقف فمفتاحهما السؤال، ولا شيء غير السؤال.
وعلى كل حال، فعند نقاط التحول من مرحلةٍ إلى مرحلة - وهو حال الثقافة العربية اليوم - يجدر بالمثقف أن يطرح أسئلةً تتسم بصورة أساسية بالطابع الكوني. والمقصود بالكونية ها هنا البدء من مفاهيم عامة يمكن لعددٍ كبيرٍ من المثقفين والثقافات أن يتفقوا حول قيمتها، مثل التساؤل عن حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والحقوق المتعلقة بحرية التعبير والتفكير... إلخ، فيخرج المثقف بذلك من الأطر الضيقة الموروثة، التي يشكل البقاء في إطارها عائقاً بين المثقف وبين فاعلية الملكة النقدية التي هي أخص ما يمتاز بها المثقف الحقيقي، وعندما نتحدث عن الطابع الكوني للأسئلة، فإننا بذلك نطلق هذه الملكة من عقالها من ناحية، ونمنح للعقل النقدي المتحرر، من ناحيةٍ أخرى الحق في إنتاج منظومات ثقافية جديدة، أو بالأحرى مخططاتٍ تصورية غير مسبوقة قد يفضي للتفاعل فيما بينها إلى نقطة ابتداءٍ جديدة ربما تكون هي النقطة أو المنعطف الذي تتولد عنده البداية الأولى، غير المتميزة لعالم جديد.
وإذاً فليس ثمة ما هو أهم من أن يكون المثقف حراً، والأهم من ذلك أن يكون هو نفسه على وعي بهذه الحرية. فعندما يكون الأمر كذلك، وعندما يكون الوعي الأخلاقي، المنتج للمسؤولية أصلاً، هو القاعدة التي تنطلق منها أسئلة المثقف المتعلقة بالمستقبل، فعندئذٍ - وعندئذٍ فقط - يصبح للأسئلة معنى، ويصبح التساؤل عن المستقبل نفسه مادةً قابلةً للتعقل وللفهم، الأمر الذي يسمح بتكوين بصيرةٍ تستهدف الارتقاء بالواقع الموروث إلى مستوى الرؤى والأفكار والأحلام التي توشك أن تشكل فكراً جديداً أو فكرةً حضاريةً مبتكرة ربما يخرج من رحمها كيانٌ جديد قادر على ترجمة الأبعاد التي تنطوي عليها الفكرة الجديدة إلى حقائق يحياها البشر بدلاً من أن يظلوا متشبثين بأشباح الماضي التي يحاولون عبثاً أن يبعثوها فإذا بها تشدهم إلى الماضي بدلاً من أن يتبينوا أنها أشباحٌ ولا شيء غير ذلك.
ولكن هل ثمة سبيل إلى فعل ذلك كلّه؟ هل بوسع الثقافة العربية أن تتخطى نفسها في اتجاه أفق منفتح أو في اتجاه مغامرة محفوفة بالمخاطر تسمح لها بأن تواجه وقائع العصر كما هي وأن تفكر من ثم في هذه الوقائع انطلاقاً من العصر ذاته وليس انطلاقاً من المقتضيات التقليدية لحياة الثقافة العربية نفسها؟
والإجابة من حيث المبدأ عن هذا السؤال يمكن أن تكون بالإيجاب إذا ما استطاعت الثقافة العربية أن تتخطى كونها ثقافة (ماهية) لتصبح ثقافة (وجود) من ناحية، وأن تتخطى من ناحية أخرى تصورها عن الوجود الحق الذي يطابق وفقاً لماهيتها الماضي نفسه لأنها ثقافة تحتفل بالذاكرة وتعتقد أن نمط الوجود المستند إلى الذاكرة هو نمط الوجود الحق، ولا يمكن لها أن تتجاوز هذا الأفق الضيق الذي يقيم تطابقاً بين الماضي والذاكرة من ناحية، والوجود الحق من ناحية أخرى إلا إذا تمكنت من التحول من كونها ثقافة للماهية إلى كونها ثقافة للوجود. فبما أن ماهية الثقافة العربية تتحدد بصورة أساسية بكونها تنظر إلى ذاتها على أنها أقرب إلى أن تكون جوهراً ثابتاً تتعاقب عليه الأعراض دون أن يلم به أدنى تغير، أو هي تنظر على نفسها على أنها ماهية ثابتة في مقابل تغيرات تظل طفيفة وضئيلة الشأن مهما بلغ حجمها ونطاقها، فإن عنصر الثبات أو الاستقرار يظل هو العنصر الذي يطبع هذه الثقافة بطابعه المميز. وهذا معناه أنها تضحي بالعناصر التاريخية وبالصيرورة وبالتغير وبالتطور لحساب الثابت والمستقر. وهذا معناه أيضاً أنها تحتفل ب(المتعالي) وتنظر إليه نظرة إجلال وتقديس بحيث يصبح الإنسان - وهو فاعل التغيير وصانع الثقافة على الأصالة - مجرد عرض من أعراض الجوهر أو مجرد واحد من التجليات اللانهائية للماهية. وبذلك يصبح الجانب الأكبر من هذه الثقافة قائماً في الماضي، طالما أن هذا الماضي الذي حققت فيه الثقافة العربية حياتها بنجاح وامتياز لافتين هو ذاته الأفق الذي تكشفت فيه الماهية أو ترجم الجوهر عن نفسه فيه.
وهكذا فإن الماضي الذي زال وانقضى، والذي هو في الوقت نفسه صورة الماهية والجوهر لم يعدّ له من وجود إلا في الذاكرة، الأمر الذي يخلق تطابقاً بين نمط وجود الجوهر والماهية من ناحية، وبين نمط وجود الذاكرة من ناحية أخرى. ولما لم تكن الذاكرة لتعبر إلا عن جانب من الوجود، فقد كان هذا الوجود المقترن بالذاكرة لا يزيد عن كونه تعبيراً عن الحلقات الرئيسية التي شهدت ازدهار هذه الثقافة وإثمارها. غير أن هذه الذروة ذاتها تتوقف عندها الذاكرة ولا تعود قادرة على تجاوزها مما يجعل الذاكرة تغوص في طرايا الماضي، وتدور فيه حول ذاتها محاولة أن تخلع على الحاضر إحدى صور الماضي التي لا يمكن لها أن تتحد بالمضمون التاريخي للراهن، الأمر الذي يكشف عن التطابق الزائف بين الوجود والذاكرة لا بد من تفجيره، وما لم تتخطى هذا التطابق الزائف بين الماضي والحاضر، لا يمكن للثقافة العربية أن تفتتح فصلاً جديداً مبدعاً من فصول حياتها.
والأمر الذي لا شك فيه هو أن هذا التخطي أو التفجير سيظل ممتنعاً، بل مستحيلاً ما دامت الثقافة العربية مصرة بصورة لا شعورية على صيانة هذا التطابق والمحافظة عليه. وفي اليوم الذي تنجح الثقافة العربية في التمييز بين أشكالها التاريخية التي تحققت وبين الوقائع الجديدة لحياة العالم فإنها تكون قد سارت في الاتجاه الصحيح، أي في الاتجاه الذي يسمح لها بالتحول من ثقافة الجوهر أو الماهية إلى ثقافة الوجود والحياة.
وما نعنيه بثقافة (الوجود) هو مقدرة الثقافة على أن تنفك من قيود الماضي وارتباطها بدلاً من ذلك بالوقائع الحية للعالم التاريخي الراهن والمعاش، والانطلاق من مقتضيات الزمان والمكان في الهنا والآن، ومحاولة استكشاف منطق جديد يسمح تطبيقه على وقائع الحياة المستحدثة باستنباط صور أو مقولات مختلفة عن تلك التي سبق للثقافة العربية أن أنتجتها وارتبطت بها لفترات طويلة جداً. ذلك أن ثقافة الوجود ثقافة مبدعة ومنفتحة على كل ما هو جديد في العصر، وربما كان الأهم من ذلك أن هذا النوع من الثقافة أو المقولات يدخل في مواجهة مباشرة مع المقتضيات الفعلية للحياة بدلاً من أن يختزل الوقائع الراهنة إلى مجموعة من العناصر البسيطة يعيد إدراجها تحت مقولة أو مجموعة من المقولات بدعوى الحفاظ على الهوية والخصائص الثابتة للأمة.
إن التحول من ثقافة الماهية إلى ثقافة الوجود يسمح لنا بإنتاج منظومة قيمية جديدة وذلك لأن القاعدة التي يستند إليها التقويم يتم تخطيها واستبدالها بقاعدة أخرى فعالة وعصرية، أن هذا التحول معناه الانتقال من (الهوية) باعتبارها مجموعة من الخصائص الثابتة يتعين للمثقف أن يشتق قيمة أو أن يقوّم العالم انطلاقاً من هذا المفهوم البسيط والساذج للهوية، إلى مفهوم جديد هو مفهوم (الدور الحضاري) الذي يصبح أساساً لمجموعات متحركة من القيم تغتني كلّما اغتنى الدور الذي يمكن لهذه الثقافة أن تلعبه في هذا الوقت أو ذاك.
وعلى ذلك فربما كان واحد من أهم الشروط الضرورية لتخطي الثقافة العربية لأزمتها هو تخليها عن المفاهيم الثابتة والمستقرة التي هي نتاج لثقافة الماهية وتحولها بدلاً من ذلك إلى استكشاف الحركة والصيرورة بدلاً من التجدد والانبعاث الأمر الذي لا سبيل إلى إنجازه إلا إذا عولنا وبصورة جدية في أفكارنا وتأملاتنا على مفهوم الدور الحضاري القادر على إنتاج شبكات من القيم تصل بيننا وبين الثقافات القوية المعاصرة من ناحية، وتسمح لنا، من ناحية أخرى، بإعادة صياغة المقولات التقليدية بحيث تتطابق مع مفهوم الدور الحضاري فينفتح الباب بذلك واسعاً لتخطي ثقافة التجدد والانبعاث، هذا السجن الذي أقمنا فيه ردحاً طويلاً من الزمن بإرادتنا واختيارنا.


*أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق، نائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية
Salamah@scs-net.org

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved