الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 17th October,2005 العدد : 127

الأثنين 14 ,رمضان 1426

انظر ماذا يحدث في الواقع
قاسم حول *

انتهى في التاسع من شهر تشرين أول-أكتوبر 2005 المهرجان الثامن والأربعون للأفلام التسجيلية في مدينة لايبزغ الألمانية الذي استمرت عروض أفلامه سبعة أيام. ولعل هذا المهرجان العالمي يعتبر الأهم من بين مهرجانات السينما التسجيلية في العالم وله تاريخ عريق يمتد إلى عام 1955 عندما تنادى عدد من السينمائيين ورواد السينما التسجيلية من مخرجين ونقاد لتأسيس مهرجان يعنى بالفيلم التسجيلي لما يشكله هذا النوع من الأفلام من أهمية ثقافية فكرية وقيمة فنية هي غير قيمة الفيلم الروائي الذي ارتبط معناه بكلمة (السينما) حيث يعتبر البعض أن الفيلم التسجيلي مجرد تقرير إخباري، فيما هو كشف علمي وموضوعي للواقع وله لغته السينمائية المختلفة تماما عن لغة الفيلم الروائي، وله قيمه الجمالية الساحرة والمتميزة.
السينمائيون الذين اجتمعوا في مدينة لايبزغ الألمانية عام 1955 هم (جون جرير بوزاك، محمد الأخضر حامينا، البرتو كافالكانتي، ريتشارد لبابوك، بوزان بوفار، دوسان فوكوتيك، تيوجور كريستنسن، رومان كارمن، الياكوفالين، مانوئيل أوكتافيو، سانتياجو الفارز، هاينوفسكي شويمان، كارل كاس، وأنيلي تورينداك).
كانت حكومة ألمانيا الشرقية سابقا تريد من هذا المهرجان أن يفضح عدوهم اللدود المانيا الغربية من خلال فضح المجتمع الرأسمالي من وجهة النظر الاشتراكية وجعل مهرجان لايبزغ في نفس الوقت فرصة لعرض الأفلام الوثائقية الآتية من ألمانيا الغربية والتي تتحدث دائما عن طبيعة المجتمع الألماني والحياة الصعبة لذلك المجتمع وغالبا ما ينتج هذه الأفلام مخرجون ينتمون إلى اليسار الألماني، ولذلك كان المهرجان براقا واستطاع أن يستقطب بلدان العالم الثالث من أمريكا اللاتينية وفيتنام وكوبا والبلدان العربية. وكان المهرجان يدعم في ذات الوقت المخرجين اليهود الذين يحاولون تقديم أفلام تتسم بالطابع الإنساني للحياة الفلسطينية ودون الإساءة لليهود مراعاة لمشاعر الألمان وعقدة الذنب التاريخية إزائهم.
بعد سقوط ألمانيا الشرقية وسقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا توقف المهرجان، لكن بعض السينمائيين تقدموا بطلب إلى بلدية مدينة لايبزغ لكي يعيدوا الحياة لهذا المهرجان منطلقين من أهميته الفكرية والفنية. وافقت بلدية مدينة لايبزغ على تبني المهرجان. ودون شك لا يمكن أن يرقى هذا المهرجان الجديد بدعم من بلدية وبضعة شركات ومصارف ومحطات تلفزة إلى مهرجان تقف وراءه دولة وحزب لتحقيق هدف سياسي يرتبط بصراع بين معسكرين.
بدأ المهرجان من جديد في بداية التسعينيات بداية ضعيفة وكان عدد المشاركين محدودا وعدد الأفلام المشاركة لا يرقى كثيرا إلى مستوى الفيلم التسجيلي بلغته التعبيرية الجميلة.
الدعم المالي لا يغطي نفقات مهرجان سينمائي ولذلك استأجرت صالات صغيرة من تلك التي تقدم فيها الأفلام لعدد محدود جداً من المشاهدين.
وعاما بعد عام كان الدعم يزداد حتى تمكن المهرجان من استئجار صالة كبيرة هي أفضل صالة سينمائية في مدينة لايبزغ كمجمع سينمائي مجهز بتقنيات ممتازة للعروض والمهرجانات.
ولقد ازداد نسبيا عدد المدعوين، وفرض مستوى الصالة عدد ونوع المشاهدين حيث ارتفع الرقم من خمسة آلاف مشاهد في بدأية إعادة تأسيس المهرجان إلى ما يقرب من عشرين ألفا في السنوات الأخيرة.
لقد غير مهرجان لايبزغ بعد سقوط جدار برلين وتوحيد شطري ألمانيا شعاره من ( أفلام العالم من أجل سلام العالم) إلى شعار (أنظر ماذا يحدث في الواقع).
فماذا يعني هذا الشعار في مجال الفيلم التسجيلي؟ كان شعار (أفلام العالم من أجل سلام العالم) هو شعار ومزاج البلدان الاشتراكية وقد تم الاتصال بالرسام العالمي بيكاسو لاستخدام حمامته الشهيرة شعاراً للمهرجان، وبقيت حمامة بيكاسو شعار المهرجان بعد سقوط ألمانيا الديمقراطية ضمن سقوط المعسكر الاشتراكي، ولكن الشعار تغيّر إلى (أنظر ماذا يحدث في الواقع) وهذا الشعار في حقيقته أكثر تعبيراً عن طبيعة الفيلم التسجيلي باعتبار هذا النوع من الأفلام يكشف الحقيقة الموضوعية للواقع المعاش فيما شعار (أفلام العالم من أجل سلام العالم) هو شعار سياسي أكثر منه ثقافي سينمائي.
وهنا تأتي أهمية هذا المهرجان الأهم في مجال الفيلم التسجيلي، لأن إنعاش هذا النوع من الأفلام يساهم مساهمة فاعلة في تطوير السينما سواء الوثائقية منها أو الروائية، فالتعامل السينمائي مع الواقع يعتبر درسا لمعرفة تحليل الواقع حيث هذا النوع من الأفلام يتعامل بشكل مباشر مع الواقع وبدون إعادة صياغته روائياً.
وكان المفروض أن يتطور هذا النوع من الأفلام وتتبلور لغته السينمائية وقيمه الجمالية منذ بداية نهوض الفيلم التسجيلي بشكله الحديث على يد كبار المخرجين (جريرسون البريطاني وفيرتوف الروسي وأيفنز الهولندي..) حتى أصبحت لهذا النوع من الأفلام صالات عرض تجريبية تمهيدا لعروض عامة وتجارية إلا أن تطور فن التلفزيون سرق هذا النوع من الأفلام واستوعبها دون أن يعمل على تطوير لغتها الفنية والجمالية فتحول الفيلم التسجيلي إلى ما يشبه التقرير الإخباري أو الريبورتاج، ولم يعد للفيلم التسجيلي تلك النكهة السينمائية المعبرة عن الواقع حتى كاد هذا النوع من الأفلام يتلاشى لولا بضعة مهرجانات سينمائية تحاول أن تمنح هذه الأفلام قيمة ثقافية سينمائية.
إن أفلاما مثل (كلكتا) للفرنسي لوي مال وفيلم (الفاشية كما هي) للروسي ميخائيل روم وفيلم (المطر) للهولندي يورنس أيفنز تعتبر من الأعمال الوثائقية الساحرة الجمال سواء في بنيتها السينمائية أو في قيمتها الفنية والجمالية، وكان يمكن أن تنهض السينما التسجيلية وتشكل تيارا يتوازى سينمائيا مع الفيلم الروائي ويحقق عروضا نظامية في صالات العرض لولا هيمنة التلفزيون على هذا النمط من الأفلام وسحبها نحو برامجه الاستهلاكية.
ترى هل يتمكن مهرجان سينمائي واحد من إعادة الاعتبار للأفلام التسجيلية؟ الجواب لا يكمن في طبيعة المهرجان بقدر ما يكمن في طبيعة الإنتاج والتوزيع، فطالما تلاشت فرص توزيع الفيلم التسجيلي فإن الإنتاج يدخل في إطار المستحيل.
إن الأفلام التسجيلية التي تنتج في العالم اليوم لا يمكن تحقيقها بدون دعم من قبل مؤسسات ثقافية ومن قبل وزارات الثقافة التي تساعد مخرجي هذا النوع من الأفلام على تحقيق أعمالهم ولكن ما قيمة العملية الإنتاجية بدون توزيع يتيح للمشاهد متعة الثقافة المرئية لنمط ساحر من الأفلام لو عرف منفذوه كيف ينظرون إلى الواقع! لو عملنا اليوم إحصائية لعدد الأفلام الوثائقية المنتجة في أي بلد من البلدان لوجدناها تتراجع بنسبة عالية قد تصل إلى ثمانين في المائة، وصار يتعذر على مهرجان لايبزغ أن يجمع كماً من الأفلام ذات بعد نوعي تغطي أيام المهرجان ما حدا بإدارة المهرجان لقبول أفلام هابطة المستوى أو حتى تقترب من البرامج التلفزيونية الوثائقية لتدرجها ضمن مسابقة الأفلام.
لقد شاهدت وللمرة الثانية على هامش مسابقة الأفلام برنامجا خاصا بالأفلام التسجيلية الصينية، تبناها ونظم عروضها مركز الدراسات الإنثروبولوجية في مدينة لايبزغ، وهذه الأفلام أنتجها عدد من المخرجين الصينيين، كشفت بشكل مدهش وصبور الحياة البدائية لأقوام تعيش في الصين كما الإنسان في العصر الحجري القديم شكلا ومضمونا فهو لا يعرف من الحياة سوى النباتات والأغصان يبني بها كوخا له ويعارك الحيوان بوسائل صيد بدائية.
مخرجون عاشوا مع هؤلاء الأقوام وسجلوا حياتهم في عدد من الأفلام التسجيلية عرفتنا على أن البشرية لم تكمل مشروعها الإنساني بعد حيث هي في بعض مواقعها لا تزال تعيش في عالم ينتمي إلى عشرات الآلاف من السنوات السحيقة.. هؤلاء الأقوام موجودون في الصين..نعم في الصين الشعبية.
ولولا مخرجو الأفلام التسجيلية لما عرفنا هذه الحقيقة. فلو تبنت التلفزيونات العالمية إنتاج هذا النمط من الأفلام وبمنهج سينمائي وليس تلفزيونيا لأستطعنا أن نرتقي بالبرمجة التلفزيونية إلى ما يغني عقل وعاطفة المتلقي.
(أنظر ماذا يحدث في الواقع) هو شعار سينمائي تسجيلي ينطبق تماما على ما شاهدناه في الصين التي تضاهي أمريكا في تقنيتها ولا يزال يعيش في تخومها أقوام ينتمون إلى العصر الحجري المتأخر.. شعار ينطبق تماما على ما تعانيه المجتمعات من مشاكل البيئة والتلوث الخطير والأمراض الناتجه عن الغذاء غير الطبيعي والذي تدخل فيه الصناعات الكيمائية.. (أنظر ماذا يحدث في الواقع) هو شعار جعلنا ننظر إلى مغن من إيران هجر المجتمع منذ رحيل الشاه عن الحكم وعاش بعيدا عن المجتمع في غرفة من الصفيح وصار يخاف الناس أن ينظر إليهم أو ينظروا إليه، ذهب إلى مقره البائس مخرج إيراني ليسجل عن بعد حياته وهو يدخل ويخرج من غرفة الصفيح تلك حتى تمكنت الكاميرا بعد أيام من الانتظار من الدخول إلى كوخ الصفيح ولكنه بقي صامتا لأيام حتى جعلته يتحدث ببضع كلمات ثم تناول آلة العود وأخرجها من كيس القماش وبدأ ينشد أغاني من شعر عمر الخيام لحنها قبل سنوات.
ألا يحق لنا بعد ذلك أن نتقدم بالرجاء لمحطات التلفزة الفضائية أن تنعش الفيلم التسجيلي لتنعش مشاهديها بقيم الواقع الجميل والغني بالمفاجآت والأسرار التي لا يمكن أن يكشفها سوى الفيلم التسجيلي؟!


* مخرج سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved