الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 17th October,2005 العدد : 127

الأثنين 14 ,رمضان 1426

قصتان قصيرتان
فهد أحمد المصبح
-1-
الخُفيس*
يقولونَ: أُمُّةٌ بقرة الفريج، وتقولُ جدتي هو أخوكَ من الرَّضاع، ويقولُ هو أنا شاعرٌ بلا حبيبة، أما أنا فلا أقولُ شيئاً.. اتبعُهُ مفتوناً بجنونِهِ.. يعشقُ النساءَ جميعاً، وجُلُّ حديثه عنهُنَّ ومع هذا لم يجد له زوجة، فكلنا إخوته من الرضاعة.. شاعرٌ مرحٌ دوماً أراه دافناً وجهه في كتاب وإذا رفعه نطق كلاماً جميلاً يجذب الأسماع، لبقٌ في حديثه يخلطه بالقصص المثيرة التي يحصُلُ عليها من الكتب.. وكلما طفش من الحياة أو غضب من والده بسبب عمل أمه في البيوت يترك الدارَ ويتجه إلى مكانٍ تعودنا رؤيته فيه..دائماً يجلس إلى سحارةٍ قرب الخفيس ويهذي بكلامٍ جميل متأنقاً في ملبسه ومرجلاً شعره إلى الخلف، وقلم الباركر يلمعُ بين أناملِه، ذات مرة أراني صورةً وقالَ بتساؤل:
- ألا أشبهُه؟
قلتُ:
- نعم.
فقالَ:
- هذا أنور وجدي.
سألتُهُ:
- أخوك من الرضاع؟
ضحكَ ولكمني برفق في كتفي ثم أشعلَ سيجارةً ظننت أنهُ سيبتلعُهَا وسرَحَ بفكره وهو يهمهمُ بأغنية:
- يا نيلُ يا ساحرَ القلوب.
أحياناً ينطلق عمودُ الدخان الأزرق من بين شفتيه وإذا تحدث يتركه يخرج بتكاسل من أنفه. أسألُه:
- أنت كتبتَ هذا الكلام؟
يضحك ويقول:
- سأكتبُ أحسنَ منه.
سألتهُ:
من هو النيل؟
- أجابني بإشارةٍ من يده وقال:
- انظر أمامك.
لا أشاهد أمامي إلا حفرة واسعة فيها نباتات ونخلة عويس الوحيدة، كنت وقتها صغيراً يستخدمني في المطراش له وكنتُ ألبي ذلك بسعادة. أشتري لهُ دخاناً أو أجلب له كوبَ ماء وأحياناً أشتري له رغيفاً يأكلُهُ أمامي، وإذا سألته لماذا لا تأكل في البيت يقول:
- أمي تطبخُ للناس وتتركني أو تُرضعُ صغيراً أو تغسلُ الملابس، يزفر ويترك هذا الحديث الذي أرى تأثيره على وجههِ ويعود إلى تأمل الخفيس ويهمهم بالأغنية نفسها، أقطع عليه تفكيره وأقولُ:
-كلُّ الناس تُسميه الخفيس إلا أنت تقولُ عنه إنه النيلُ.
يزفِر قائلاً:
- النيلُ نهرٌ عظيمٌ في مصر.
- كبر الخدود؟
- أكبر.
يتركني أتأملُ النهر الخالي من الماء ويجلسُ يكتبُ ثم يقطع الورقة ويكتبُ ويقطعُ حتى يؤذنَ لصلاةِ المغرب فأنصرفُ عنهُ.
ذاتَ نهار صائف لم أجدهُ عند الخفيس.. سألتُ عنهُ فلم يجبني أحدٌ، توجهت إلى أُمِّهِ بقرة الفريج وكان بوزها ممطوطاً تحمحم. أستطلعُها خبره فترد بحزن:
- وييسف راح مصر يدور على مره.
ولم يعدْ وبقيتْ سحارته عندي، ولم تنقطع رسائلُهُ عن أمه، كنت أجلسُ أنا وهي إلى سحارتِهِ تسمعُ مني رسالةَ ابنها، وعندما أنتهي أشاهدُ نهرين من الدموع ينسابان من مقلتيها، أهربُ إلى الخفيس وأجربُ الكتابة.
*الخفيس تصغير خفس
-2-
فم باتجاه الشمس
شاهد لحمه ينهش بين أسنان قوية بعد أن يهاجمه وحش ويفترسه.. تكرر حلمه كثيراً.. أخذ يخنقه.. يصحو مبللاً بالرعب.. تكرر حلمه كثيراً.. فلا يجد ملاذاً إلا الهرب من فراشه.. يقع في حلم آخر من أحلام اليقظة يبحث فيه عن طريقة تخلصه.. لحلمه رائحة الغابات، وخشخشة الحشائش عند اصطدامها بالقوائم اللاهثة.. راقت له الفكرة وربما سيطرت عليه وانساب مع نهاياتها البطولية، فعندما يحتضنه الوحش يقرب مسدسه الصغير من أذن الوحش، وقبل أن تنغرس الأنياب في جسده يكون قد فجَّر دماغه.. تدرب على هذه اللقطة كثيراً وكأنه سيؤديها على خشبة مسرح حتماً سيكون هناك شهود للحادث وسيموت بطلاً أمام كاميراتهم الصادقة، وقد يطول عمره قليلاً ليسمع هتافهم عندما ينتفض الوحش انتفاضة الموت، ومن حلم إلى حلم ومن يقظة إلى صحو لم يقدر على كبت ما اعتراه فصرح به إلى أقربائه على حذر من ردة الفعل لتنهال عليه النصائح:
لا تخرج إلى البر ولو برفقة أحد..
لا تدخل حدائق منفرداً..
في الليل لا تسر منفرداً..
لا تسافر إلى مناطق فيها وحوش..
صار يبتعد في مشيه عن صناديق القمامة حتى لا يباغته وحش متنكراً في زي قط.. زوجته قالت له:
اعرض نفسك على طبيب نفساني.
أنا لست مجنوناً.
من قال ذلك؟
أنت؟
أنا أساعدك للتخلص من هذا..
لا تكملي.
دع الشيخ يوسف يقرأ عليك.
كبر الهاجس في نفسه ولن يزيله شيء، غير أن ما امتنت عليه أحلام اليقظة سعى لتحقيقه.. اشترى مسدساً صغيراً، ولأنه يحب النظام استخرج رخصة له بعد جهد، إذ كان صادقاً مع نفسه في سبب حمل السلاح، ورغم ذلك إلحاح الخوف يطارده.. أخذ يتمتم ببعض الآيات والأدعية ويتعمد السير وحيداً.. كان الشارع طويلاً والمارة يتكاثرون لا ظلمة تكتنفه.. أول ما فعله تأكد أنه ليس في حلم.. الوجوه تحييه.. يرد براحة بال.. سيارات الأجرة تتقاطر عليه.. البعض يسأله عن صيدلية حانوت شارع.. تحسس مسدسه من فوق ملابسه.. انتزع نفسه من الأفكار ثم عاود السير.. شاهد الرجال تخلع ملابسها وتتحول إلى وحوش ضارية بدأت تهجم عليه..
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved