الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 17th November,2003 العدد : 37

الأثنين 22 ,رمضان 1424

اتجاهات حداثية في رواية .. «المكتوب مرة أخرى»
عبداللطيف الأرناؤوط*

الكاتب «أحمد الدويحي» كاتب من السعودية ومن جيل الشباب الذين يتطلعون إلى إحداث ثورة فنية في النص الروائي، وقد أصدر منذ التسعينيات من القرن الماضي عدداً من الآثار القصصية والروائية والشعرية. ويتوج إنتاجه الأدبي برواية جديدة مؤلفة من جزءين عنوانها «المكتوب مرة أخرى» تبدو أنها تسجيل للحظات الهاربة من حياة بطلها، تلك الحياة التي كتبت في الواقع أولاً، ثم دونها الكاتب على الورق كأنها كتبت مرتين.
والعنوان يذكرني برواية الكاتب الفرنسي «مارسيل بروست» المشهورة «البحث عن الزمن المفقود». مع فارق بين النصين من حيث الأسلوب والرؤية.
الكاتب «أحمد الدويحي» لا يسجل اللحظات الهاربة من كف الزمن بواقعية تسجيلية ميزت أسلوب «بروست».. إذ يحاول الدويحي أن يكون مع الواقع وخارجه في زمن واحد، لأن بطل الرواية لا يستطيع أن يكون مع داخله ومع الواقع المحيط به، فقد جاء نص روايته الحداثي مزيجاً من البوح والاعتراف الذي يقوم به بطل الرواية بأسلوب سردي يستبطن فيه ذاته، وتزدحم عبر اعترافاته الوقائع والأحلام والأساطير والهلوسات والانطباعات النفسية والموروث الشعبي في مزيج لا تجمع بينه روابط المنطق أو السببية، إنها اعترافات إنسان مصاب بلون من الهوس يقرب البطل من الجنون ويضعه على قائمة المرضى النفسيين حين يستبطن ذاته، لكنه يبدو أكثر عقلانية حين يجعله الكاتب يخرج عن ذاته، ويسقط انطباعاته على الواقع المحيط به، حتى يخيل إلينا أنه أعقل من العقلاء، خاصة حين يبدي مواقفه من مسائل اجتماعية وسياسية وقومية بأسلوب رمزي.
يشير بطل الرواية إلى حاله النفسي المضطرب في أكثر من موطن في الرواية «يخوفني أصدقائي الكناسون الطيبون، ويفرطون في تحذيري والتمادي والجنوح إلى الجنون» ج ص130.
وقوله في موطن آخر عن البطل بلسان أحد أشخاصها «معك لحسة في عقلك!!».
يبدو أن كاتب الرواية عمد إلى اختيار شخصية البطل السيكوباتية ليضمن مسوغاً لتقديم نص روائي يخلو من العلاقات اللغوية المنطقية في السرد، ويشوبه عدم الترابط، والثورة على كل ما هو عقلاني في فضاء تحرير النص من كل ما تواضع عليه العقل، وتحطيم اللغة في مرجعيتها وروابطها وعلاقاتها التركيبية المنطقية، وذلك ليضمن الأسلوب لوناً من الحداثة تجعله خارج اللغة والعقل، وليفر به منساقاً وراء التهويمات والهلوسات والأحلام والوهم ومفاتن الخيال، ومع ذلك فإننا قد نظلم الرواية إذا عددناها «سيرة مجنون» فهذا الهدم للبناء النصي الروائي يسخره المؤلف برؤية نافذة تتخذ من الوجودية والسريالية أحياناً مطية لها لتعبر عن أعماق الإنسان، وما يعتمل في نفسه من مشاعر دفينة يشعر بعجز اللغة عن حملها وقصور الإبداع عن تجسيدها، فالبطل خلال تأملاته يعود دائماً إلى ملهماته اللواتي جسّدهن عبر شخصيات نسائية، ومنهن «زرقاء اليمامة» بثوب معاصر أو بلقيس التاريخية وهو يحاورهن ويلومهن على أنهن لم يسعفنه في التعبير عن ذاته، ويصرح بأن الواقع وحده هو الملهم للمبدع ولا شيء سواه.
والكاتب «الدويحي» يفسح لبطل الرواية أن يراقب نفسه من الداخل، بينما تمتد رقابته إلى تقويم وعيه الذاتي، وقدرته على التعبير عن نفسه خلال نص إبداعي تتداخل فيه وقائع الرواية بهواجس البطل التي تشكل رواية داخل الرواية، وتعكس خيبة أمل في القبض على ناصية الإبداع وسره الذي يطمح لأن يمتلكه.
لكن الفرق بينها وبين كتابات العقلاء يكمن في الترابط، إن اعترافات البطل هنا بسبب حاله النفسي غير مترابطة، لكنها تؤول أخيراً إلى أحوال هادفة وإن أعوزها الترابط المنطقي. والكاتب في النص يتكئ على «فرويد» شأن السرياليين، ونصه الروائي وثيقة تصلح للتحليل النفسي، وقد كان الأدب قبل السريالية يعيش تعايشاً سلمياً مع العقل كما يقول «بيكون» فنفت هذه الحركة كل ما ليس عقلياً، والحثّ على اللامعقول والعبثية، وكذلك رواية «المكتوب مرة أخرى»، فهي تنهل من هذا الينبوع، وكأن صوت المخيلة الأدبية يسعى إلى تحرير الإنسان من جميع القيود العقلية، ويبتعد عن الصنعة الكلامية، يريد أن يحرر الإنسان من داخله ومن كل ما يسعى إلى تقييده، وكأن تألق الفكر يجب أن يتم بمعزل عن أي رقابة يقوم بها العقل، بعيداً عن كل اهتمام جمالي أو خلقي متواضع عليه، ومهمة الأدب أن يسعى لبناء جماليات جديدة مبنية على الخارق وغير المألوف أو المتواضع عليه.
تبرز حرية البطل وسعيه إلى تأكيد هذه الحرية منذ مطلع الرواية، ويكفي أن أستعرض مجالات هذه الحرية كما تجلت في النص على صورة آفاق تتبدل من قسم إلى آخر من أقسام الرواية التي وضع لها الكاتب عناوين غريبة. فعنوان القسم الأول «أ» والثاني «ب» والثالث «ج» ليطالعنا بعد ذلك بتصنيف آخر لفصولها تحتل عناوينها أرقاماً «القسم الأول القسم الثاني القسم الثالث حتى القسم الثالث عشر حيث ينتهي الجزء الأول من الرواية».
ولا أطمح إلى أن أجد وراء هذا التقسيم بنية روائية تقوم على موضوع أو حبكة يتطوران وفق بناء الرواية التقليدية، إنها مجموعة تجليات داخلية يمتزج فيها الاعتراف والبوح بالحلم والأسطورة، وتنداف مع الواقع في تأليف مضطرب أشبه بمنطق الحلم أو الرؤيا، وتعكس رفض البطل لواقعه، ولا تعترف إلا بما يعتمل في داخله، ولذلك يقول في مقدمة الرواية «الأسماء والزمن والحرية لا حدود لها» ويعني أن الفضاء الروائي لنصه بحث عن حرية البطل الذاتية بعيداً عن كل قيد، ورفض للمواصفات الاجتماعية.
في مطلع الرواية يبدو البطل مشرداً يقطع طريقه وحيداً من بيته في قرية «العسالة» إلى «مكة المكرمة» في موسم الحج، وقد سئم عمل السقاية وحمل الخيام، وكان يتمنى أن يلتمس عملاً يدرّ عليه مبلغاً من المال، وبعدما نفد زاده ومؤونته، ولج داراً يقام فيها وليمة عرس بلا دعوة، فيطرد شر طردة، إلا أن «فاضل» وهذا اسمه يصادف «مرجان» وهو رجل غريب مثله، فيقول له مرجان : «إلى العرس، فالعروس تطلبك وتريد أن تبلغك رسالة»، ويختفي «مرجان» لتنشق حصاة أعطاه إياها، وتخرج من جوفها فتاة كالقمر سمت نفسها «ياقوتة» وعرفته أنها جنية مكلفة بخدمته، وقدمت له سواكاً فيه قوة سحرية، كلما أدرجه في فمه تفتحت له كنوز الشعر والإلهام.
بهذا المطلع الغريب المستمد من أساطير الشرق، يستهل المؤلف الرواية مستفيداً من الجانب اللامعقول في التراث، وكأنه يرى في الحلم حقيقة قريبة من الواقع.
وبهذا فإن الأمنية التي كانت تراود البطل تتحقق، فهو يطمح أن يكون مبدعاً، فالمسواك سيذلل له باب الإبداع على أن يضع هذا المسواك كل يوم في نافذة غرفة مظلمة يطل عليها ضوء القمر، فيغسله بنوره، وقد وعدته «ياقوتة» بهدية أخرى، يمكن أن نخمن أنها القدرة على إبداع أدبي لم يتحقق بعد.
ويستهل المؤلف «القسم الأول» من الرواية بقول «بول ديكور» «إن الخيال لا يكتمل إلا بالحياة، والحياة لا تفهم إلا خلال القصص التي نرويها عنها، فالحياة المبتلاة بالعناء هي التي تُروى».
منذ تلك اللحظة، تبدلت حياة البطل «فاضل» فلم يعد يحفل بكل ما في الحياة من مطامح ومطامع، أصبح يعيش حريته على هواه بنمط متحرر، وكل همه أن يحقق ذاته، أحسّ أنه محتاج إلى الحب والتواصل بالآخرين، فاتصل بصديقه، الشاعر.. وبينه وبين هذا الفنان صلة الإبداع، يقول في ذلك التحول بنفسه «بدأت أعرف إلى أين أريد، أتلمس المسافة التي في نهايتها ينتهي الظل إليها.. ليس دائماً تصبح النهايات مثل ما نتصور في مطلق الأحوال، وما يفجع في كل نهاية هو الخوف والملل والفراغ، إذ لا يبقى مما مضى إلا ذلك الظل الصامت، وليس إلا القصائد مفتاحاً للكلام، وليس إلا ظل الإنسان يلازمه.. ويحدثه بصمت ويقول له: الأمانة أن تكون أنت».
وفي إطار فيض مشاعره على العالم، يبدو البطل منقاداً إلى حب كل ما في هذا الكون دون أن يحدد موضوع شغفه بالذات، شأنه شأن هؤلاء الذين دفعوا شكواهم؛ إلى قاضي الغرام، لكنهم لم يحسنوا عرض قضاياهم، لكل مخلوق حلمه الصغير كأخته «أم ساري» التي تبنت طفلاً لتحقق حلمها، أما هو فلا حلم محدداً له، فهو مشرد في عالمنا بلا حلم، مثل «جاني جانييه» الأديب اللقيط الذي فضح جرائم «شارون» في لبنان، وكان يتمنى أن يتبناه أحد ما كماتبنت أخته أم ساري لقيطها.
بعد كل مرحلة من مراحل السرد، يستحضر البطل بطلة روايته المنتظرة الصامتة إلى جواره، لتحكم على نص روايته التي يسردها. وبحضور البطلة، تبدأ روح اللحظة الطاغية، يتقمص البطل دور درويش يأتيه الإلهام بالكشف، كما يصيب الاندماج أي صوفي، وهكذا خيل إليه وإن كان يعد هذا «التجلي» لوناً غريباً، وحين ينحسر ظله، أي عالمه الواقعي، إلى حالة من الكشف يصفها بغموض واضطراب مثل أي عصابي بقول: «شعرت أني بامتحان عسير» ثم يقول له شيطان وحيه: «أكتب يا سيدي.. فيكتب: من المنامة سدرة عفر فيها المطر، تبكي والطائر ينزف نشيجه، أيها الضوء» أ.د.
إشارة إلى فصول الرواية الأولى حيث منحته «مرجانه سر الإبداع» فينبعث أول مولود للكتابة عسير المخاض.. ثم يصحو من الهذيان بعد أن يطلق سراح بطلة النص، هذا المولود الجديد الذي يشبه الطفل الذي تبنته أخته، آثر ألا يسميه وإن كان اسم نظيره المتبنى «ساري» من السرى في الليل، وإن كان الوليد في نظره بطلاً من دخان لم يكن راضياً عنه.
في المحاولة الثانية تزوره بطلة عمله الإبداعي الثاني «غادة» فتكون من ثمرة الزيارة مجموعة قصص للأطفال، لكنه يستهين بهذا الإبداع، ذلك أن بينه وبين سلالة المبدعين بوناً شاسعاً، ولابد للمبدع أن يقف على آثار تلك السلالة، وسيرة هجرتهم الأولى التي أكسبتهم اللون الفستقي. المغمس بالدم كما في وجه بطلته، التي لازمته مع نساء البيت سنوات دون أن يرى ظلها، وتمثل هذه المرحلة المخاض بالنسبة إلى المبدع.
وفي المحاولة الثالثة وهي لإثبات ذاته المبدعة، يتألم من خيبة أمله في القبض على جذور الإبداع، فيستنجد بماضي أمته وتراثها، ممثلاً بزرقاء اليمامة، ويؤلمه أن يتحول الأدباء في عصره إلى تابعين يسكنون الغرف «المدنية»، بينما تكره زرقاء اليمامة «ماضي الأمة» كل الغرف المعلبة وساكنيها، ذلك أن شيخ الكناسين «رمز التراث» رفض الغرف «المدنية أو الحضارة». وهام في تشرده يمارس مهنة التسول في أسواق المدينة، يبيع ويشتري الفضلات والحاجات العتيقة «رمزاً لإفلاس الأدب في ظل المدنية»، ويأسى بطل الرواية من واقعه، فيلجأ إلى الروح، يهرب بها من عالمه إلى رحاب التعبد.
ويبلغ به اليأس والإحباط حد الجنون تجاه واقع مؤلم أفرزته أسباب عرقية وثقافية، لا يريد أن يفصح عنها، بل عبر عنها بشعر شعبي يقول:
القبائل يسمعون، اللي حصل، واللي حدث، يحكونه
نحنا في سوق الشرف، جئنا، وكم بعنا، وكم شرينا
يا عرب، لا تشغلون أفكارنا، والشر دونها.!
إنه يعيش في عصر «شارون وبوش وابن لادن» عصر يخرج من فضائه فتلقفه «الكناس الأبرص» «رمز للغربي»، ومسح انتماءه، وهكذا «أنكر ذاته وانتمى إلى ذات أخرى أكبر». وفي مسيرة التحولات الكبرى التي هزت الوجدان العربي، أصبح الأديب كناسا استهلاكياً، يرود المدن، ويربي أطفالاً لم يحلم بهم، ولا يدري ما سيفعل بهم، وما زال الجذر المهدي إليه «رمز التغرب» طرياً في حضنه.
وفي رحلة تغربه الأخيرة، يرتد إلى جذره الحقيقي، إلى قرية «العسلة» حيث نشأ، وكأنه في حالة ولادة ثانية، وفي مواجهة أبيه الذي لم يره أبداً، لأنه مات قبل أن يولد. وجده لأمه الرجل الوحيد الذي بقي في القرية من عائلة تفرقت في القرى، لم يهاجر ولم يرحل، اكتفى بانتمائه واستسلم لواقعه، مات دون أن يخلف ذكراً، وتفرقت ثروته بين بناته السبع «رمز لانقسام الأمة». ولم يبق بعد زواجهن إلى جانبه سوى بنت ترعاه، ترفض الزواج، لكنها أخيراً تتزوج غريباً وتنجب الفتى الهزيل المريض، يقول له أبوه وقد حمل بندقية هي رمز الرجولة: «هذه ثروتنا الحقيقية، عليك أن ترثها، وتتحمل صيانتها للأجيال القادمة.
فيجيبه: لي بندقيتي الخاصة يا أبي، أما الأرض فهي أرضي..
يردف الأب: ما بقي له من قرية (العسلة) غير هذه العرجاء ( يريد أمه) أنت تريد حكاية تكتبها، وأنا أريد حكاية أورثها» رواية الأب حقيقة ورواية الابن حلم، وشتان ما بين الروايتين.. يقول الأب:«قلت لك نحن عائلة (أمة)، تضيع أوراقها وربما تاريخها المنقوش».
فضاء الأب عالم من الانتماء، وفضاء الابن سفر وغربة لا يجني من ورائها سوى الخيبة، فالتحولات تبدل الأجيال، يقول الأب: «جدك ليس أنا، وأنا لست أنت، كينونتي الأولى تشكلت بين نساء في غياب جدك، أريد أن أخرج من سلطة جدك (الماضي والتراث) أريد السفر كالرجال، ولا أريد منابع نفط جذبت أولاد قرية العسلة».
وفي المحاولة الثالثة يبدو المبدع في نظر بطل الرواية مختصا بتفريخ الطيور، ويحزن لموت أنثى الببغاء الجميلة بسبب اعتداء الذكر عليها «وهو يريد أن يقول: إن الإبداع يظل دائماً محاصراً بقسوة الواقع وتسلطه ومحاولته طرد الحلم وتقييده بقفص ذهبي» والعداوة بين الواقع والحلم أشبه بعداوته مع عمته المستسلمة لواقعها والتي تطعن في رجولته، وترى فيه إنساناً مريضاً، فيلوذ إلى البحث عن بطلة إلهامه لتحكم على نصه الروائي، لكنه لا يجدها، لابد أنها لم تأتِ بعد، ولذلك آثر الصمت على الكلام في زحام الكناسين «رمز الأدباء» الذين يثرثرون كثيراً لتسطحهم، وصمته سيحرجه لوجوده بينهم، مثلما يحرج وضعه عمته، فتلتمس له امرأة تخرجه من عالمه الداخلي، أما هو فيلتمس شفاءه بالركون إلى عالم طفولته، حيث تطل عليه بطلة روايته الجديدة المنتظرة، وتحاوره وتلومه لأنه منذ زمن يتوهم ملازمة الإلهام له. مع أنه يثرثر وحده بلا مسعف، وتذكره بأن ما يرويه لم يكن نصا إبداعياً بل هذيان وهلوسات، ويتمنى أن يتحد ببطلة روايته «زرقاء اليمامة» التي تكشف عالم الغيب أمامه. لكن ذلك الاتحاد قد يقتلها مثلما قتل ذكر الببغاء أنثاه، وكأن مسافة تظل بين المبدع والطموح في الكمال، وفي المحاولة الأخيرة.. يحاول أن يستقرئ نبوءة بطلته الجديدة «زرقاء اليمامة» بما عُرفت به من حدة البصر، تخيلها في السبعين من العمر، ولابد أنها تعرف حدود البحث عن الذات، إنها تمثل الجذور بالنسبة له، لكن رحلته داخل نفسه حطمت الحدود،ولم يعد متسع لديه للبحث عن الجذور، يقول بلسان سيد الكناسين: «إذا ضاعت الحدود، فمن يبحث عن من الجذور أم الفروع؟؟».
يبدو البطل هنا ضائعا، عاجزاً عن الانتماء، بسبب ضياعه الداخلي عبر الزمان والمكان، وإذا كان لا يستطيع أن يلتمس ذاته في جذوره التاريخية خلال تنبؤات «زرقاء اليمامة» ليلتمسها في ذاكرته الطفولية عبر المكان حيث مدارج طفولته، أمل جديد يجده في بطلة أخرى يسميها: «أمل يوسف» كل الأدباء في بلده يحلمون لكن أحلامهم لا تؤول إلى التحقق «فقد أصبحت أمل بنت يوسف (الصهيونية) الشاهدة الوحيدة التي تروي تفاصيل هذا الزمن».
وقد تغرب المكان والزمان، فليس الواقع الذي يحياه الأديب هو واقع انتمائه، بل هو واقع متغرب يسهم في صنعه الدخلاء (المستشرقون والأجانب) وتشردت الأسرة (رمز الانتماء) فقد مضى الأب مع حبشية أحبته، بعد رحلة إلى مكة للحج، وجاء الأخ الأصغر إلى زوج أمل بنت يوسف (رمز الغرب) ليخدمه وليزرع له بستانه.
ويعلق البطل قائلاً: «إن بطلة النص المتنظرة التي وسمت بزرقاء اليمامة ارتدت إلى فضاء آخر، وتركت لي كل هذا الغبار، والمرض الذي ظننته الحب والسعادة، وما علي إلى العودة إلى فضائي من جديد في انتظار بطلة جديدة».
بهذه الرموز يسترسل البطل في تعرية الواقع العربي الراهن تحت وطأة التحولات التي شهدها، والتي عبر عنها الأب بقوله: «المدينة ابتلعتنا، بالتلميع وتنكيس العقل».
لم تكن رواية «المكتوب مرة أخرى الحدود» للكاتب السعودي أحمد الدويحي.. رحلة وجودية أو سريالية خالية من الهدف، بل جاءت لترد على أخطر وقائع العصر، بلسان بطل يبدو مريضاً نفسياً أو مجنوناً، لكنه في النهاية يتكلم كالعقلاء، وإذا كانت رغبة الكاتب «الدويحي» في تقديم نص سردي غامض منسوج بالوهم والتخيل والحلم والأسطورة لخلق عوالم جديدة، فإن تعمده العبث باللغة، وتدمير علاقاتها أمر قلق، وكان باستطاعته أن يتنازل قليلاً عن حرصه على خلق نص يلائم شخصية بطله المضطربة بإنطاقه لغة سليمة.


* دمشق

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
مسرح
وراقيات
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved